
أمةٌ بين العجز والخذلان
أكتوبر 8, 2024
خطورة التخذيل والإرجاف
أكتوبر 8, 2024د. عبد الحي يوسف
عميد أكاديمية أنصار النبي ﷺ
بسم الله الرحمن الرحيم..
عام كامل وآلة القتل الصهيونية تعمل عملها في رقاب إخواننا أهل غزة ونسائهم وأطفالهم وبيوتهم ومدارسهم ومساجدهم ومؤسساتهم؛ في ظل صمت غير مستغرب من العالم الصليبي الظالم الجائر، والذي يشارك لا بصمته فقط بل بسلاحه وعتاده وأمواله وإمداده وإعلامه وتواطؤه وقراراته في المؤسسات الدولية والمنظمات الأممية.
وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضٍۚ إِلَّا تَفۡعَلُوهُ تَكُن فِتۡنَةࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَفَسَادࣱ كَبِیرࣱ﴾ [الأنفال: ٧٣]، ويقول سبحانه: ﴿لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ﴾ [المائدة: ٥١]؛ ففضح الله شعاراتهم وأبدى سوءاتهم وأظهر نفاقهم وأنهم يبيعون للناس كلاماً تخالفه الأفعال.
لكن الذي لا ينقضي منه العجب هو ذلك الخذلان المخزي الذي فاه به أقوام من بني جلدتنا، ونطقت به ألسنة ودلت عليه أحوال؛ حتى صار مشهوداً غير منكور؛ مما يدل على خسة طبع ودناءة نفس ونقص مروءة؛ لا أقول من أنظمة الدول الإسلامية والعربية فقط؛ بل من كثير من الشعوب والجماعات والنخب، لا يستثنى من ذلك إلا ثلة مباركة صدقوا في دعم إخوانهم وبذلوا غاية الوسع في الانتصار لهم قولاً وعملا؛ فرأينا من أبطال المسلمين من مصر والأردن ولبنان والضفة من أثخنوا في أعداء الله قتلاً وألقوا في قلوبهم الرعب، ورأينا من الأطباء من ترك منزله وأهله ووطنه وماله وجاهه وخفَّ سريعاً من المغرب الأقصى ليضمد جراح إخوانه ويخفف مصابهم، ورأينا من يواسي بماله ولو كان حبات من برتقال ليعذر إلى الله عز وجل بأنه قد فعل ما يستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وهكذا يسوق الله أحداث غزة من أجل أن تتمايز الصفوف؛ فيميز الله تعالى الخبيث من الطيِّب، والصادق من الكاذب، والصابر من السَّاخط، فهذه سنته وحكمته سبحانه: ﴿مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِیَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ عَلَىٰ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ حَتَّىٰ یَمِیزَ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِۗ﴾ [آل عمران: ١٧٩] وكما قال الأول: إذا اشتبكت دموعٌ في خدود تبيَّن من بكى ممن تباكى.
إن الخذلان ليس بجديد على أهل الكفر والنفاق ومن في قلوبهم مرض؛ بل هو داء مستعص قد تمكن منهم؛ فلا يستطيعون منه فكاكاً؛ قال ابن الأثير: “الخذل: ترك الإغاثة والنّصرة”. بمعنى “أن يترك الإنسان نصرة أخيه، ويترك أخوه نصرته إذا كان كلّ منهما يظنّ به نصرة صاحبه وإغاثته”.
وما زال فضلاء الناس يذمون ذلك الخلق القبيح حتى قال بعضهم: “شرّ النّاس من ينصر الظّلوم ويخذل المظلوم”. وقال آخر: “لا تحاجّ من يذهلك خوفه، ويملكك سيفه”.
وقد جاء التحذير الشديد والوعيد الأكيد من نبينا ﷺ لهذا الصنف اللئيم من الناس؛ حيث قال ﷺ: “ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن يُنتقَص فيه من عِرضه ويُنتهَك فيه من حرمته، إلّا خذله اللّه في موطن يحبّ فيه نصرته، وما من امرئ يَنصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته، إلّا نصره اللّه في موطن يحبّ فيه نصرته”1.
وقال ﷺ: “من أذلّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره، أذلّه اللّه عزّ وجلّ على رؤوس الخلائق يوم القيامة”2.
أما أولئك المتأكّلون بألسنتهم من خطباء الفتنة وثعابين الإعلام ممن يلوكون سيرة المجاهدين إرضاء للسادة الذين يمولونهم ويستعملونهم، فهم حقيقون جديرون بالوعيد النبوي؛ حيث قال ﷺ: “مَن أكل برجل مسلم أكلةً فإنّ اللّه يُطعمه مثلَها في جهنّم، ومن كُسِي ثوباً برجل مسلم فإنّ اللّه يَكسوه مثله من جهنّم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء، فإنّ اللّه يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة”3.
وفي نصوص القرآن والسنة ما يدل على أن الخذلان صفة لمن غضب الله عليهم، ولعنهم وأعدّ لهم جهنم وساءت مصيراً، ومنهم:
1- الشيطان الرجيم الذي هو أعدى أعداء الإنسان، قال سبحانه: ﴿وَكَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لِلۡإِنسَـٰنِ خَذُولࣰا﴾ [الفرقان: ٢٩].
2- جبناء بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم موسى عليه السلام: ﴿إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَاۤ أَبَدࣰا مَّا دَامُوا۟ فِیهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤] فكان جزاؤهم أن ضرب الله عليهم التيه أربعين سنة، حتى هلك ذلك الجيل المتخاذل الجبان وخلف من بعدهم من يغضب لله ويجاهد في سبيله.
3- جنود طالوت الذين خذلوه وشربوا من النهر الذي مُنعوا منه، وجبنوا عن قتال عدوهم وقالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡیَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ﴾ [البقرة: ٢٤٩].
4- ما كان من الشيطان يوم بدر حين خذل أولياءه من صناديد الكفر يقول سبحانه: ﴿وَإِذۡ زَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡیَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّی جَارࣱ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَاۤءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ وَقَالَ إِنِّی بَرِیۤءࣱ مِّنكُمۡ إِنِّیۤ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّیۤ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٤٨].
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: “جاء إبليسُ يومَ بَدرٍ في جُندٍ مِن الشَّياطين، معه رايتُه، والشَّيطانُ في صورةِ رَجُلٍ من بني مُدلِج، في صورةِ سُراقةَ بنِ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ، فقال الشَّيطانُ للمُشركينَ: ﴿لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡیَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّی جَارࣱ لَّكُمۡۖ﴾ فلمَّا اصطفَّ النَّاسُ، أخذ رسولُ اللهِ ﷺ قبضةً مِن التُّرابِ، فرمى بها في وُجوهِ المُشركينَ، فوَلَّوا مُدبرين. وأقبل جبريلُ إلى إبليسَ، فلما رآه، وكانت يدُه في يدِ رَجُلٍ مِن المشركينَ، انتزعَ إبليسُ يَدَه، فولَّى مُدبِرًا هو وشيعَتُه، فقال الرَّجلُ: يا سراقةُ، تزعُمُ أنَّك لنا جارٌ؟ قال: ﴿إِنِّیۤ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّیۤ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ وذلك حين رأى الملائكةَ4.
5- ما كان من عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين يوم أُحد حين انخزل بثلث الجيش، وقال: علام نقتل أنفسنا؟ أيعصيني محمد ويطيع هؤلاء الأحداث؟
6- المنافقون الَّذين تخلَّفوا عن الجِهادِ مع المسلمين يوم أُحد وقالوا: لو أنَّ قرابتَنا الَّذين قُتِلوا في المعركةِ أَخَذوا بمشورتِنا بترْكِ الخروج للقتال لم يُقتَلوا، فأمَر الله نبيَّه محمَّدًا ﷺ أنْ يقولَ لهم فادْفَعوا الموتَ عن أنفسِكم إنْ كنتُم صادقين في دعواكم أنَّهم لو أطاعوكم ما كانوا قُتِلوا؛ قال سبحانه: ﴿ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ لِإِخۡوَ ٰنِهِمۡ وَقَعَدُوا۟ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا۟ قُلۡ فَٱدۡرَءُوا۟ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ * وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ﴾ [آل عمران: 168-169].
7- ما كان من ابن سلول يوم بني النضير حين خذل أولياءه من يهود بعدما قال لهم: ﴿۞ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ نَافَقُوا۟ یَقُولُونَ لِإِخۡوَ ٰنِهِمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَىِٕنۡ أُخۡرِجۡتُمۡ لَنَخۡرُجَنَّ مَعَكُمۡ وَلَا نُطِیعُ فِیكُمۡ أَحَدًا أَبَدࣰا وَإِن قُوتِلۡتُمۡ لَنَنصُرَنَّكُمۡ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ * لَىِٕنۡ أُخۡرِجُوا۟ لَا یَخۡرُجُونَ مَعَهُمۡ وَلَىِٕن قُوتِلُوا۟ لَا یَنصُرُونَهُمۡ وَلَىِٕن نَّصَرُوهُمۡ لَیُوَلُّنَّ ٱلۡأَدۡبَـٰرَ ثُمَّ لَا یُنصَرُونَ﴾ [الحشر: 11-12].
8- ما كان من المنافقين يوم الأحزاب حين تسللوا لواذاً، وجعلوا يُوَرُّون بالضعيف من العمل، وصاروا يلتمسون البارد من الأعذار كقولهم ﴿إنَّ بُيوتَنا عَورةٌ﴾، ودعوتهم إخوانهم إلى ترك الجهاد بقولهم: ﴿هَلُمَّ إِلينا﴾، قال سبحانه: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: 18].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: “يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوّقين لغيرهم عن شهود الحرب، والقائلين لأصحابهم وعشرائهم وخلطائهم: تعالوا إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظّلال والثّمار.
9- ما كان من المنافقين يوم تبوك حين قال قائلهم للنبي ﷺ: ﴿ٱئۡذَن لِّی وَلَا تَفۡتِنِّیۤ﴾ [التوبة: ٤٩] فكان جواب القرآن: ﴿أَلَا فِی ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُوا۟ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾، عن جابِرِ بنِ عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سمِعْتُ رَسولَ الله ﷺ ﷺ يقولُ لجَدِّ بنِ قَيسٍ: يا جَدُّ، هل لك في جِلادِ بني الأصفَرِ؟ قال جدٌّ: أوَ تأذَنُ لي يا رسولَ الله؛ فإنِّي رجُلٌ أحِبُّ النِّساءَ، وإنِّي أخشى إنْ أنا رأيتُ نِساءَ بَني الأصفَرِ أنْ أفتَتِنَ؟! فقال رَسولُ الله وهو مُعرِضٌ عنه: “قد أذِنْتُ لك”. فعند ذلك أنزَلَ اللهُ: ﴿وَمِنۡهُم مَّن یَقُولُ ٱئۡذَن لِّی وَلَا تَفۡتِنِّیۤ أَلَا فِی ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُوا۟ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾.
10- في طوفان الأقصى صار بعضهم -ومنهم رئيس سلطة رام الله- يسخرون من المقاومة مدَّعين أنها كانت سبباً في دمار غزة، ناعين على المجاهدين ما قاموا به من جهاد مبارك وعمل نوعي أذهل العالم وألقى الله به الرعب في قلوب يهود: ﴿فَرِیقࣰا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِیقࣰا﴾ [الأحزاب: ٢٦]. لكن المنافقين لا يرون ذلك، بل يركزون على ما أصاب أهل غزة من لأواء؛ مصورين حالهم قبل الطوفان وكأنهم كانوا يعيشون في رفاهية ونعيم!!
ومهما يكن من أمر فإن هؤلاء المجاهدين على خير عظيم، ولن يضرهم تخذيل المخذلين ولا أراجيف المبطلين؛ بعدما بشرهم رسول الله ﷺ بقوله: «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتّى يأتي أمر اللّه وهم كذلك»5.
ـــــــــــــــــ
1 رواه أبو داود والطبراني في الأوسط من حديث أبي طلحة وجابر رضي الله عنهما.
2 رواه أحمد والطبراني من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه.
3 رواه أحمد وأبو داود من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه.
4 رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
5 رواه البخاري من حديث معاوية رضي الله عنه.