في رحاب سيرة أمنا سودة بنت زمعة
فبراير 9, 2024لا زلتُ أتذكرك يا صديقي
فبراير 9, 2024
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 23]
إن الذين يرمون المحصنات الغافلات عما يُرمين به، بمعنى أنه لم يخطر لهنّ ببال أصلاً، لكونهن مطبوعات على الخير، مخلوقات من عنصر الطهارة.
ففي هذا الوصف من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس في المحصنات المؤمنات، أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمنّ به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيماناً حقيقياً تفصيلياً، كما ينبىء عنه تأخير “المؤمنات” عما قبلها مع أصالة وصف الإيمان، فإنه للإيذان بأن المراد بها المعنى الوصفي المعرب عما ذكر لا المعنى الاسمي المصحح لإطلاق الاسم في الجملة كما هو المتبادر على تقدير التقديم. (كذا في “إرشاد العقل السليم”).
عائشة الصديقة أم أمهات المؤمنين؟
وفرع عليه كون المراد بذلك عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها، ورُوي ما ظاهره ذلك عن ابن عباس وابن جُبير، والجمع على هذا باعتبار أن رميها رميٌ لسائر أمهات المؤمنين، لاشتراك الكل في النزاهة والانتساب إلى رسول الله ﷺ، ونظير ذلك جمع «المرسلين» في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: ١٠٥].
وقيل: المراد أمهات المؤمنين
فيدخل فيهنّ الصديقة دخولاً أولياً. ورُوي ما يؤيده عن أبي الجوزاء والضحاك وجاء أيضاً عن ابن عباس ما يقتضيه، فقد أخرج عند سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه أنه رضي الله تعالى عنه قرأ سورة النور ففسرها فلما أتى على هذه الآية “إن الذين…” إلخ قال: “هذه في عائشة وأزواج النبي ﷺ، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي ﷺ التوبة”، ثم قرأ: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء…} إلى قوله تعالى: {إلا الذين تابوا} [النور: ٤، ٥] … الخبر.
وظاهره أنه لا تُقبل توبة مَن قذف إحدى الأزواج الطاهرات، رضي الله تعالى عنهن.
توبة مَن خاض في أمر عائشة
وقد جاء عنه في بعض الروايات التصريح بعدم قبول توبة مَن خاض في أمر عائشة رضي الله تعالى عنها، ولعل ذلك منه خارج مخرج المبالغة في تعظيم أمر الإفك كما ذكرنا أولاً، وإلا فظاهر الآيات قبول توبته، وقد تاب مَن تاب مِن الخائضين؛ كمسطح وحسان وحمنة، ولو علموا أن توبتهم لا تُقبل لم يتوبوا.
نعم ظاهر هذه الآية – على ما سمعت من المراد من الموصوف بتلك الصفات – كُفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن لأن الله عز وجل رّتب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين؛ فقال سبحانه: “لُعنوا”، أي بسبب رميهم إياهن في الدنيا والآخرة حيث يلعنهم اللاعنون والملائكة في الدارَين، ولهم مع ما ذُكر من اللعن عذاب عظيم هائل لا يقادر قدره، لغاية عِظَم ما اقترفوه من الجناية.
وكذا ذكر سبحانه أحوالاً مختصة بأولئك فقال عز وجل: “يوم تشهد عليهم…” إلخ، ودليل الاختصاص قوله سبحانه: “ويوم يُحشر أعداء الله…” [فصلت: ١٩] إلى آخر الآيات الثلاث، ومن هنا قيل: إنه لا يجوز أن يُراد بالمحصنات… إلخ المتصفات بالصفات المذكورة أمهات المؤمنين وغيرهنّ من نساء الأمة لأنه لا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر، والذي ينبغي أن يعول الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين بعد نزول الآيات وتبيُّن أنهن طيبات، سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله ﷺ، أم لم يستبِح ولم يقصد، وأما مَن رمى قبلُ فالحكم بكفره مطلقاً غير ظاهر.
والظاهر أنه يُحكم بكفره إن كان مستبيحاً أو قاصداً الطعن به عليه الصلاة والسلام؛ كابن أُبيّ -لعنه الله تعالى- فإن ذلك مما يقتضيه إمعانه في عداوة رسول الله ﷺ، ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك، كحسان ومسطح وحمنة، فإن الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين ولا قاصدين الطعن بسيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله أجمعين، وإنما قالوا ما قالوا تقليداً، فوُبخوا على ذلك توبيخاً شديداً.
ومما يدل دلالة واضحة على عدم كفر الرامين قبلُ بالرمي، أنه عليه الصلاة والسلام لم يعاملهم معاملة المرتدين بالإجماع، وإنما أقام عليهم حد القذف على ما جاء في بعض الروايات فالآية بناء على القول بخصوص المحصنات -وهو الذي تعضده أكثر الروايات- إن كانت لبيان حُكم مَن يرمي عائشة أو إحدى أمهات المؤمنين مطلقاً بعد تلك القصة -كما هو ظاهر الفعل المضارع الواقع صلة الموصول- فأمر الوعيد المذكور فيها على القول بأنه مختص بالكفار والمنافقين ظاهر؛ لِما سمعت من القول بكفر الرامي لإحدى أمهات المؤمنين بعدُ مطلقاً.
وإن كانت لبيان حكم مَن رمى قبلُ، احتاج أمر الوعيد إلى القول بأن المراد بالموصول أناس مخصوصون رموا عائشة رضي الله تعالى عنها استباحة لعِرضها وقصد إلى الطعن برسول الله ﷺ؛ كابن أُبي وإخوانه المنافقين عليهم اللعنة، وعلى هذا يكون التعبير بالمضارع لاستحضار الصورة التي هي من أغرب الغرائب أو للإشارة كما قيل إلى أن شأنهم الرمي وأنه يتجدد منهم آناً فآناً.
وعلى هذا يمكن أن يقال المراد بيان حكم من لم يتُب من الرمي، فإن التائب من فعل قلما يقال فيه إن شأنه ذلك الفعل، فيكون الوعيد مخصوصاً بمن لم يتُب.
والذي تقتضيه الأخبار أن كل من وقع في تلك المعصية تاب، سوى اللعين ابن أُبيّ وأشياعه من المنافقين. وعن ابن عباس أنها نزلت فيه خاصة، ولا يخفى وجه الجمع عليه.
وقيل المراد بيان حكم مَن رمى والوعيد مشروط بعدم التوبة، ولم يذكر للعلم به من القواعد المستقرة، إذ الذنب كيفما كان يُغفر بالتوبة، فلا حاجة إلى أن يقال: المراد إن الذين شأنهم الرمي ليشعر بعدم التوبة، والظاهر أن من لم يتب بعد نزول هذه الآيات كافر وليس هو إلا اللعين وأشياعه المنافقين.
واختار جمع -وقال النحاس هو أحسن ما قيل- أن الحكم عام فيمن يرمي الموصوفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة، ورميهن إن كان مع استحلال فهو كفر فيستحق فاعله الوعيد المذكور، وإن لم يتب على ما علم من القواعد وإن كان دون استحلال فهو كبيرة وليس بكفر، ويحتاج إلى منع اختصاص تلك العقوبات والأحوال بالكفار والمنافقين، أو التزام القول بأن ذلك ثابت للجنس ويكفي في ثبوته لبعض أفراده، ولا شك أن فيها من يموت كافراً. وفي (البحر) يناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا: خرجت لتفجر. قاله أبو حمزة اليماني، ويؤيده قوله تعالى: “يوم تشهد…” إلخ. اهـ.
وأنت تعلم أن الأوفق بالسياق والسباق ما عليه الأكثر من نزولها في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وحُكم رمي سائر أمهاتهم حكم رميها، وكذا حكم رمي سائر أزواج الأنبياء عليهم السلام وكذا أمهاتهم، وعندي أن حكم رمي بنات النبي عليه الصلاة والسلام كذلك لا سيما بضعته الطاهرة الكريمة فاطمة الزهراء صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم، ولم أرَ من تعرض لذلك، فتدبَّر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* شهاب الدين الألوسي، روح المعاني، (9/322-324)، ط1، دار الكتب العلمية- بيروت، 1415هـ، ت: علي عبدالباري عطية.