عالمية الإسلام العرب والعجم في خدمة السنة الشريفة
فبراير 27, 2024الحافظ ابن حجر العالِم الموسوعي
فبراير 27, 2024تمهيد
لقد واجهت السنة المطهرة جملة هجمات شرسة من عبيد الفكر الغربي، الذين حاولوا اغتيالها، والإجهاز عليها بكل ما استطاعوا من قوة وما ملكوا من حيلة، تعددت لذلك وسائلهم، واختلفت مسالكهم، وإن اتحدت مآربهم.
فمنهم من تولوا حملات التشكيك في (ثبوت السنة)، إما التشكيك فيها كلها، أو في السنة القولية خاصة، وهي جمهرة السُّنة ومعظمها، أو في أحاديث الآحاد، أو في الكتب المعتمدة كصحيح البخاري، أو في الرواة المشاهير، كأبي هريرة رضي الله عنه.
ومنهم من حملوا لواء الطعن في حجيتها ومصدريتها لتشريع الإسلام وتوجيهه، وزعموا أنهم استغنوا بالقرآن الكريم عنها!
ومن هؤلاء وأولئك من يحاول هدم السُّنة بالسُّنة نفسها، وذلك بأخذ بعض الأحادبث وتحريفها عن موضعها والاستدلال بها على غير ما تدل عليه.
حديث حُرّف عن موضعه
ومن هذه الأحاديث التي وظفها بعضهم توظيفاً سيئاً، الحديث المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه في قضية تأبير النخل وفيه قال في بعض الروايات: “أنتم أعلم بأمور دنياكم ” (1).
فقد أراد بعضهم أن يحذف النظام السياسي كله من الإسلام بهذا الحديث وحده، لأن أمر السياسة أصولاً وفروعاً من أمر دنيانا فنحن أعلم به، فليس من شأن الوحي أن يكون له فيها تشريع أو توجيه، فالإسلام عند هؤلاء دين بلا دولة، وعقيدة بلا شريعة!
وأراد آخرون أن يحذفوا النظام الاقتصادي كله من الإسلام كذلك بسبب هذا الحديث الواحد!
وقد ناقشني في ذلك صديق قديم منذ نحو ربع قرن منكراً أن يكون للإسلام معرفة بالاقتصاد تشريعاً وتوجيهاً وتنظيماً، وكان من أبرز حججه هذا الحديث، وقد سجلت هذه المناقشة وذكرت حجج -بل شبهات- هذا الصديق ورددت عليها في مقام آخر، المهم أن بعض الناس أراد أن يهدم بهذا الحديث الفرد كل ما حوت دواوين السنة الزاخرة من أحاديث البيوع والمعاملات والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكأن الرسول قال هذا الحديث لينسخ به جميع أقواله وأعماله وتقريراته الأخرى التي تكون السنة النبوية المطهرة!
وهذا الغلو من بعض الناس هو الذي جعل عالماً كبيراً مثل المحدث الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله يعلق على هذا الحديث في مسند الإمام أحمد(2)، فيقول: “هذا الحديث مما طنطن به ملحدو مصر وصنائع أوروبا فيها من عبيد المستشرقين، وتلامذة المبشّرين، فجعلوه أصلاً يحاجون به أهل السنة وأنصارها، وخدام الشريعة وحُماتها، إذا أرادوا أن ينفوا شيئاً من السُّنة، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام، في المعاملات وشؤون الاجماع وغيرها كما يزعمون أن هذا من شؤون الدنيا، يتمسكون برواية أنس: “أنتم أعلم بأمر دنياكم” والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين، ولا الألوهية ولا بالرسالة، ولا يصدقون القرآن في قرارة نفوسهم، ومن آمن منهم فإنما يؤمن لسانه ظاهراً، ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه، لا عن ثقة وطمأنينة، ولكن تقليداً وخشية، فإذا ما جد الجد، وتعارضت الشريعة، الكتاب والسنّة، مع ما درسوا في مصر أو في أوروبا لم يترددوا في المفاضلة ولم يحجموا عن الاختيار، وفضلوا ما أخذوه عن سادتهم، واختاروا ما أشربت قلوبهم! ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك، أو ينسبهم الناس إلى الإسلام! والحديث واضح صريح لا يعارض نصاً ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة في كل شأن، وإنما كان في قصة تلقيح النخل أن قال لهم: “ما أظن ذلك يغني شيئاً”، فهو لم يأمر ولم ينهَ، ولم يخبر عن الله، ولم يسن في ذلك سنة، حتى يتوسع في هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع.
معنى “أنتم أعلم بأمر دنياكم”
إذَن ما معنى هذا الحديث؟ إن معناه واضح لا لبس فيه، وهو أن الدين لا يتدخل في أمور البشر التي تدفع إليها غرائزهم وحاجاتهم الدنيوية، إلا حيث يكون فيها إفراط أو تفريط أو انحراف، كما أنه يتدخل ليربط حركات الإنسان كلها -حتى الغريزية والعادية منها- بأهداف ربانية عليا وقيم أخلاقية مُثلى، ثم ليرسم آداباً إنسانية راقية في أداء هذه الأعمال تميزه عن الحيوان الأعجم، ونضرب هنا بعض الأمثلة للأمور الدنيوية وموقف الإسلام منها.
القتال
خذ مثلاً القتال؛ فالإسلام جاء يحدد أهداف القتال، ويأمر بالاستعداد له وأخذ الحذر من العدو وإعداد ما يستطاع من القوة، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ [النساء: 71]، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60] ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ [النساء: 102]، وقوله ﷺ: “ألا إن القوة الرمي”(3). “من تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة كفرها”(4). “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله”(5).
كما جعل للحرب آداباً تُراعَى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]، وقال ﷺ: “لا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً”(6).
أما نوع الأسلحة التي تُستخدم في القتال وطريقة صنعها وكيفية التدريب عليها وما شابه ذلك فليس من شأن الدين، إنما هو من شأن وزارة الدفاع وقيادة القوات المسلحة. قد يكون السلاح في عصر ما هو السيف والرمح والقوس، وفي عصر ثانٍ هو المنجنيق، وفي عصر ثالث هو البندقية والمدفع، وفي عصر آخر هو القنابل أو الصواريخ. وقد يستخدم المحاربون في وقت ما الخيل، وفي وقت آخر الفيلة، وفي وقت ثالث الدبابات أو الطائرات أو مراكب الفضاء.
وتوجيه الدين في عصر الخيل بالنظر إلى القتال هو نفس توجيهه في عصر الفضاء. الهدف هو الهدف، أن تكون كلمة الله هي العليا، والأدب هو الأدب “ولا تغدروا ولا تمثلوا” ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾، وإعداد القوة المستطاعة وأخذ الحذر، وتدريب الأمة هو هو، تتغير الآلات والوسائل والكيفيات، أما المبادئ والغايات فهي ثابتة باقية.
الزراعة
وهناك مثلاً آخر: الزراعة. فالإسلام يحث عليها، ويعد الزّارع بأفضل المثوبة عند الله: “ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة”(7).
ولكن الدين لا يتدخل ليعلم الناس كيف يزرعون وماذا يزرعون ومتى يزرعون وبأي شيء يزرعون، وبماذا يسقون الزرع؟ بالشادوف، أم بالطنبور أم بالساقية أم بالآلة الميكانيكية؟ بالري التقليدي أم بالرش أم التنقيط أم غيرها؟ الدين لا دخل له هنا، فليس هذا من اختصاصه، إنما هو من اختصاص وزارة الزراعة أو ما يشبهها من المؤسسات!
وتطور أدوات الزراعة من المحراث -الذي تجرّه الأبقار- إلى المحراث الميكانيكي، وتغيرت طريقة الري وأدواته من الشادوف والسواقي إلى الآلات الميكانيكية الحديثة، ومن طريقة الغمر إلى طريقة الرش أو التنقيط.. لا يغير من موقف الدين وتوجيهاته الراسخة الأولى.
ونضيف مثلاً ثالثاً زيادة في التوضيح وهو: التداوي.
التداوي
لقد فهم بعض الناس من قديم أن المرض شيء قدره الله على الإنسان، وما قدرّه الله نافذ لا محالة، فما فائدة التداوي؟ والنبي ﷺ يلحظ ذلك فيبين للناس أن المرض من الله، والدواء من الله: “يا عباد الله: تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم”(8). “وما أنزل الله داءً إلا أنزل له الدواء”(9)، “إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم”(10). وسُئل النبي ﷺ عن الأدوية: هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: “هي من قدر الله”(11).
وهو بصفة عامة يوصي بصيانة البدن وحفظه ووقايته من كل أذى؛ لأنه عدة المؤمن للجهاد وأداء واجبه نحو ربه ونفسه وأسرته والناس أجمعين.
أما الدواء، فما هو؟ وكيف يصنع؟ ومن أي المواد؟ وما مقداره؟ …إلخ؛ فليس هذا من شأن الدين، وإنما هو من شأن وزارة الصحة وما شابهها. لكن يبقى توجيه الدين الأول في الحث على التداوي، وعدم التداوي بالحرام، وفي رعاية حق البدن ساريًا غير منسوخ ولا مبدل.
هذا هو المفهوم من هذا الحديث: ” أنتم أعلم بأمر دنياكم”، وليس معناه عزل الدين عن الحياة.
المبالغة في نفي التشريع عن السنة
وقد نشر الدكتور الشيخ عبد المنعم النمر بحثاً عن (السنة والتشريع)، اعتمد فيه على ما كتب القرافي والدهلوي وشلتوت في الموضوع، معارضاً الذين غلوا فقالوا إن كل ما ورد في كتب السنة هو للتشريع، وكان له فيه نظرات وتحليلات مفيدة، ولكنه بالغ في دعواه حتى كاد يرد قضايا المعاملات والأحوال المدنية كلها من دائرة السنة التشريعية (12)، وانتهى به هذا الاتجاه إلى أن حرم برأيه ما أحلتْه السُّنة.
ورأينا من المتدينين من ينكر على الخطباء المعاصرين أنهم يرقون المنابر ويخطبون الجُمع، دون أن يكون في أيديهم عصا، ويرى في ذلك ازدراء بالسنة! وقد لامني أحدهم على ذلك، فقلت له: إذا كنت لم أحمل في حياتي عصا أبداً؟ فكيف أحملها للخطبة وحدها؟! إنها تذكرني بالسيف الخشبي الذي كان من مستلزمات خطبة الجمعة في معظم بلاد المسلمين إلى عهد قريب، ثم تحرر الناس منه، فقد كانت سخرية مُرة أن تكون سيوف الناس جميعاً من حديد، وسيف الخطيب المسلم وحده من خشب!
وفئة أخرى تريد أن تعزل السنة عن شئون الحياة العملية كلها! فالعادات والمعاملات وشؤون الاقتصاد والسياسة والإدارة والحرب ونحوها، يجب أن تُترك للناس، ولا تدخل السنة فيها آمرة ولا ناهية، ولا موجهة ولا هادية!
وحجتهم في ذلك الحديث… فالحديث برواياته يدل على أن النبي ﷺ أبدى لهم رأياً ظنيًا في أمر من أمور المعيشة، لم يكن له به خبرة، فقد كان من أهل مكة الذين لم يمارسوا الزرع والغرس، لأنهم يسكنون بوادٍ غير ذي زرع، وظنه أصحابه ديناً يُتبع وشرعًا يُطاع؛ فكان ما كان من عدم بلوغ الثمر غايته، فبين لهم ﷺ أن ما قاله لهم لم يكن إلا ظناً في شأن غير ديني، وإنما هو أمر “فني!” بحت هم أخبر به وأدرى، ولهذا قال: “أنتم أعلم بأمر دنياكم”.
فما كان من هذا القبيل مما يرجع إلى الخبرة العادية من أمر الدنيا من زراعة وصناعة وطب ونحوها من النواحي الفنية.. فليس من السُّنة التشريعية التي يجب اتباعها. ولهذا وضع الإمام النووي هذا الحديث في صحيح مسلم تحت “باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي”!
أما أن يتخذ هذا الحديث تكأة لإخراج السُّنة، بل إخراج الدين كله عن الحياة وعزله عن شئون المجتمع بدعوى أنه رسالة روحية! فهذا ما ترفضه السنة ويرفضه القرآن ويرفضه الإسلام. لقد جاء الإسلام -بقرآنه وسنته- منهج حياة متكاملاً، مازجًا بين الروح والمادة، جامعاً بين الآخرة والدنيا، ضابطاً لسير الحياة كلها بشرع الله. ولهذا كانت تشريعاته ووصاياه شاملة لكل جوانب الحياة: في الأكل والشرب، والملبس والزينة، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، والزواج والطلاق، والوصايا والمواريث، والبر والصلة، والأدب والأخلاق، والجرائم والعقوبات، والسلم والحرب والخلافة والإمارة، إلى غير ذلك مما زخرت به كتب الحديث والتفسير والأحكام والآداب. وحسبنا أن أطول آية في كتاب الله نزلت تنظم شأناً من شؤون الدنيا، وهو كتابة الدَّين.
إن هذه القضية لتعتبر من أهم القضايا التي يقع فيها الخلط وسوء الفهم وعدم التمييز بين ما يراد به التشريع من السنن -وهو الغالب- وما لا يراد به التشريع، وما يراد به العموم وما يراد به الخصوص، ونجد الكثيرين هنا يقفون -على ما هو معتاد دائماً- بين طرفَي الغلو والتفريط.
وقد شهدتُّ معركة جدلية بين فئتين من هؤلاء حول سُنن الأكل وآدابه؛ فئة رفضت الأكل على منضدة واستخدام الملعقة والشوكة، وأبت إلا أن تجلس على الأرض وتأكل باليد وتلعق الأصابع بعد الأكل، ائتساء بفعل النبي ﷺ، وتتهم من لم يفعل ذلك بمخالفة السُّنة.
والفئة الأخرى: زعمت أن الأكل والشرب من شئون الحياة التي تتطور وتتغير وتختلف باختلاف البيئات والأزمان، وأن الدين لم يجئ ليعلم الناس كيف يأكلون ويشربون، ولا يهمه أكَل الناس بأيديهم أم أكلوا بأداة كالملعقة، ولا يعنيه أكلوا باليمين أم بالشمال.
وإذا نظرنا إلى صنيع الفئتين، وجدنا الفئة الأولى قد انطلقت من واقع الحرص على الاقتداء بالنبي الكريم ﷺ في كل أحواله وأفعاله، التي تمثل البساطة والتواضع والقناعة، والزهد في زخارف الحياة، والبعد عن مشابهة المترفين والمتجبرين. وهؤلاء لا شك مشكورون ومأجورون على نيتهم، وحرصهم على كمال الاتباع، كما كان يفعل ابن عمر وغيره من الصحابة الكرام رضي الله عنهم. ولكنهم أخطأوا حين بالغوا في اعتبار هذا السلوك كله جزءًا من السنة ومن الدين، وأنكروا على من تركه، ولم يراعوا الظروف والأحوال، وتحدّوا غيرهم فيما لا يستحق التحدي، وجُل ما حسبوه سُنة إنما هو عادة عربية، كانت ملائمة لبيئتها وزمانها، وقد فعلها الرسول الكريم ﷺ مراعاة لعادة قومه.
أما الفئة الأخرى فقد خلطت بين ما يهتم به الدين وما لا يهتم به، فإذا كان الدين لا يهمه أن تأكل على الأرض أو على خوان، وأن تأكل باليد أم بالملعقة والشوكة، فإنه يهمه أن تأكل باليمين لا بالشمال، وأن تشرب باليمين لا بالشمال. وليس ذلك لأن النبي ﷺ كان يحب التيامن في كل شيء فحسب، بل لأن توجيهاته عليه الصلاة والسلام في ذلك صريحة كل الصراحة أمراً ونهياً؛ فهو يقول: “سمّ الله، وكُل بيمينك، وكل مما يليك”. متفق عليه عن عمر بن أبي سلمة(13). ويقول: “لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال”. رواه مسلم عن جابر (14). ويقول: “إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله”. رواه مسلم عن ابن عمر(15). وفي رواية: “لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها”(16). وعن سلمة بن الأكوع: ” أن رجلاً أكل عند رسول الله ﷺ بشماله، فقال: “كل بيمينك!”. قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت! ما منعه إلا الكبْر، فما رفعها إلى فيه”. رواه مسلم (17).
فهذه الأحاديث الآمرة الناهية الزاجرة تدل على أن الأكل باليمين مقصود وهو أدب من الآداب المميزة للإنسان المسلم، وللمجتمع المسلم. والأمم الأصيلة تحرص على أن يكون لها تميزها واستقلالها الخاص، ولو كان ذلك في شئون الحياة العادية.
وللأستاذ محمد أسد في كتابه: (السلام على مفترق الطرق) تحليل قيم لما جاءت به السُّنة من آداب وتقاليد، تتعلق بشؤون الحياة وعادات الناس، وأثرها في تميز الشخصية المسلمة، ينبغي أن يُقرأ ويُدرس ويُستفاد منه(18).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحديث رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل من رواية طلحة ورافع بن خديج وعائشة وأنس رضي الله عنهم (الأحاديث: ٢٣٦١ ۔ ٢٣٦٣) من صحيح مسلم، وسيأتي ذكر روايته مفصلة.
(2) انظر التعليق على الحديث ذي الرقم 1395، في مسند الإمام ابن حنبل، بتحقيق أحمد محمد شاكر، ط. دار المعارف.
(3) رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر، في كتاب الإمارة برقم (1917).
(4) رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، كما في المستدرك (2/ 95) من حديث عقبة بن عامر، انظر كتابنا “المنتقى من الترغيب والترهيب”، ج1 ص361، 362.
(5) متفق عليه، انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، أحمد فؤاد عبد الباقي (1234- 1244)، وهو من حديث أبي موسى.
(6) رواه مسلم من حديث بريدة في الجهاد، برقم (1231)، ومعنى لا تغلوا: أي لا تخونوا في الغنيمة. ومعنى لا تمثلوا: أي لا تشوهوا القتلى، ومعنى ولا تقتلوا وليداً: أي صبياً ليس من أهل القتال.
(7) رواه البخاري في كتاب المزارعة، ومسلم في كتاب المساقاة من حديث أنس. انظر: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، لمحمد فؤاد عبد الباقي، ج٢ برقم (1001 ).
(8) رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم عن أسامة بن شريك، كما في صحيح الجامع الصغير وزيادته (٩٧٣٤).
(9) رواه البخاري وابن ماجه عن ابن مسعود، كما في صحيح الجامع الصغير (٥٥٥٨).
(10) رواه البخاري عن ابن مسعود موقوفًا ومعلقًا، في الطب. ووصله ابن أبي شيبة وسنده صحيح.
(11) رواه الترمذي في أبواب الطب (٢٠٦٦)، ط. حمص، وقال: حسن صحيح، وكذلك في القدر (2149)، وابن ماجه في الطب (3437)، وأحمد في المسند ( 3/ 124)، والحاكم في المستدرك (4/ 199، 402) وصححه، وحسنه الألباني في تخريج كتابنا (مشكلة الفقر) (برقم 11).
(12) ركز د. النمر على أن كثيراً من أوامر الرسول ونواهيه في المعاملات، كان أساسها الاجتهاد لا الوحي، وهذا لا يفيد في دعواه، لأن الاجتهاد إذا أقر كان بمنزلة الوحي؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على خطأ، كما هو مقرر في الأصول، ولهذا يسميه العلماء: الوحي الباطن.
(13) انظر: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، ط. المطبعة العصرية، بالكويت، الحديث (1313).
(14) رواه مسلم في كتاب الأشربة، الحديث (2019).
(15) هو في مسلم أيضاً (2020).
(16) هذه رواية لحديث ابن عمر السابق.
(17) رواه مسلم (2021).
(18) انظر: الإسلام على مفترق الطرق، ترجمة د. عمر فريخ ود. مصطفى الخالدي. ط. بيروت، الفصلين الأخيرين.