رجاحة عقله ﷺ وحكمة رأيه
فبراير 2, 2024العادل الأمين
فبراير 2, 2024
كانت حجة الوداع هي الحجة الوحيدة التي أدّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، ولمّا تسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيحجُ في تلك السنة، توافدوا إلى الحج من مختلف أنحاء الجزيرة العربية حتى بلغوا – كما قال بعض المؤرخين – مائةً وأربعةَ عشر ألفاً، ونحسب أن هذا العدد تقديريٌ، وإِلَّا فكيف أمكن إحصاؤُهم وتحديدُ عددِهم بهذا القدر؟
وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبته الشهيرة التي يجب أن يحفظها كلُ طالبِ علمٍ، لما تضمنته من إعلان المبادئ العامة للإسلام، وهي آخرُ خُطَبِه صلى الله عليه وسلم، وقد جاء فيها:
“أيها الناس، اسمعوا قولي، لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً – وهذا من معجزات رسوله صلى الله عليه وسلم – أيها الناس: إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم، كحرمةِ يومكم هذا، وحرمةِ شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بَلَّغّتُ، فمن كانت عنده أمانةٌ فليؤدِها إلى من ائتمنه عليها، وإنَّ كلَّ رباً موضوعٌ، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون، قضى الله أنه لا رباً، وإنَّ ربا عباس بن عبد المطلب موضوعٌ كُلُّه، وإنَّ كلَّ دمٍ في الجاهلية موضوعٌ، وإنَّ أوَّلَ دمائِكم أضعُ دمَ ابنِ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب – وكان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هُذَيْلٍ – فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد أيها الناس، فإنَّ الشيطان قد يئس من أن يُعبَد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطَع فيما سوى ذلك، فقد رضي به مما تُحَقِّرُون من أعمالكم، فاحذروا على دينكم.
أيها الناس إن النسيء زيادةٌ في الكفر، يُضَلُّ به الذين كفروا، يُحِلُّونه عاماً، ويُحَرِّمونَه عاماً، لِيواطئوا عدةَ ما حرَّم الله، فَيُحِلُّوا ما حرَّم الله، ويُحَرِّموا ما أحلَّ الله، وإنَّ الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعةٌ حُرُمٌ: ثلاثةٌ متواليةٌ، ورجبُ مُضَر الذي بين جُمَادَى وشعبان.
أما بعد أيها الناس فانَّ لكم على نسائكم حقاً، ولهنَّ عليكم حقاً، لكم عليهنَّ أن لا يُوطِئنَ فُرَشَكم أحداً تكرهونه، وعليهنَّ أن لا يأتين بفاحشةٍ مبيِّنةٍ، فإن فعلنَ فإنَّ الله قد أذِن لكم أن تهجروهنَّ في المضاجع، وتضربوهنَّ ضرباً غَيْرَ مُبَرَّحٍ، فان انتهينَ فلهُنَّ رزقُهُنَّ وكسوتُهُنَّ بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهنَّ عندكم عوانٌ، لا يملكنَ لأنفسهنَّ شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهنَّ بأمانةِ الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمات الله.
فاعقلوا أيها الناس قولي، فإنِّي قد بَلَّغّتُ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تَضلوا أبداً، أمراً بيناً، كتاب الله وسنة نبيه، أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه، تَعْلَمُنَّ أنَّ كل مسلمٍ أخٌ للمسلمِ، وأنَّ المسلمين إخوةٌ، فلا يحل لامرئٍ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفسٍ منه، فلا تَظْلِمُنَّ أنفسكم، اللهم هل بَلَّغّتُ؟”.
إن أول ما يلفت النظر في حَجَّةِ الوداع: هذا الجمهور الضخم الذين حضروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من مختلف أنحاء الجزيرة العربية، مؤمنين به، مصدقين برسالته، مطيعين لأمره، وقد كانوا جميعاً قبل ثلاثةٍ وعشرين سنةٍ فحسب على الوثنية والشرك، ينكرون مبادئ رسالته، ويَعجَبون من دعوته إلى التوحيد، ويَنْفُرُون من تنديده بآبائهم الوثنيين، وتَسفِيهِهِ لأحلامهم، بل كان كثير منهم قد ناصبوه العداء، وتربصوا به الشر، وبيتوا على قتله، وألبّوا عليه الجموع، وجالدوه بالسيوف والرماح، فكيف تم هذا الانقلاب العجيب في مثل هذه المدة القصيرة؟ وكيف استطاع صلى الله عليه وسلم أن يُحَوِّل هذه الجموع من وثنيتها وجاهليتها وترديها وتفرقها، إلى توحيد الله وعلمِ ذاتِه وصفاتِه، واجتماعِ الكلمة، ووحدةِ الهدف والغاية؟ وكيف كسب حب هذه القلوب بعد عداوتها، وهي المعروفة بشدة الشكيمة وعنف الخصام؟
ألا إن إنساناً مهما بلغت عبقريته، ودهاؤه، وقوة شخصيته، ليستحيلُ أن يصل إلى هذا في مئات السنين، وما سمعنا بهذا في الأولين والآخرين، إن هو إلا صدقُ الرسالة، وتأييدُ السماء، ونصرةُ الله، ومعجزةُ الدين الشامل الكامل الذي أتم الله به نعمته على عباده، وختم به رسالاته للناس، وأراد أن يُنْهِي به شقاء أمةٍ كانت تائهةً في دروب الحياة، مستذلَّةً للأهواءِ والعصبيات، وأن يدلَّها على طريق الهداية، ويفتحَ أعينها لأشعة الشمس، ويقلدَها قيادةَ الأمم، ويحوُّلُ بها مجرى التاريخ، ويمحو بها مهانةَ الانسان، ويُورِثُهَا الحكمةَ والكتابَ هدىً وذكرى لأولي الألباب.
مائةً وأربعةَ عشر ألفاً كانوا له مُكذِّبِين، فأصبحوا له مصدقين، وكانوا له محاربين، فأصبحوا له مذعنين، وكانوا له مبغضين، فأصبحوا له محبين، وكانوا عليه متمردين، فأصبحوا له طائعين، كل ذلك في ثلاثٍ وعشرين من السنين .. ذلك هو صنعُ الله الحق المبين، فتعالى الله عما يشركون، وتنزهت ذات رسوله عما يقول الملحدون، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وثاني ما يلفت النظر في حجة الوداع: هذا الخطاب القوي الحكيم الذي خاطب به رسول الله الناس أجمعين، وتلك المبادئ التي أعلنها بعد إتمام رسالته ونجاح قيادته، مؤكدةً للمبادئ التي أعلنها في أول دعوته، يوم كان وحيداً مضطهداً، ويوم كان قليلاً مستضعفاً، مبادئ ثابتةُ لم تتغير في القلة والكثرة، والحرب والسلم، والهزيمة والنصر، وإعراض الدنيا وإقبالها، وقوةِ الأعداء وضعفِهم، بينما عرفنا في زعماء الدنيا تقلباً في العقيدة والمبدأ، وتبايناً في الضعف والقوة، وتَغَيُّراً في الوسائل والأهداف، يُظهرون خلاف ما يبطنون، وينادون بغير ما يعتقدون، ويلبسون في الضعف لبوس الرهبان، وفي القوة جلود الذئاب.
وما ذلك إلا لأن هؤلاء رسل المصلحة، وأولئك رسل الله، وشتان بين من يحوم فوق الجيف، وبين من يسبح في بحار النور، شتان بين الذين يعملون لأنفسهم، وبين الذين يعملون لإنسانيتهم، شتان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن:
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 257].