مستوطنون يحرقون مسجدًا شمال الضفة الغربية
ديسمبر 20, 2024الابتلاء في سبيل الله
ديسمبر 20, 2024بقلم: د. مصطفى محمد الحديدي الطير – رحمه الله*
﴿إِذَا جَاۤءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ * وَرَأَیۡتَ ٱلنَّاسَ یَدۡخُلُونَ فِی دِینِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجࣰا * فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا﴾ [النصر: ١-٣].
تمهيد
بناة المجد ومؤسسو الأمم وواضعو القواعد المتينة للمدنيات والحضارات، يصادفون في سبيلهم عقبات كأْداء، ينفقون في سبيل تذليلها راحتهم وصحتهم، ويلقون من أعنات المعارضين وأذاهم في النفس والمال وفي خاصة الحواريين ما يقف تيار الشجاعة والإقدام والصبر فيهم.
وتراهم يمرون بالمحن باسمين لها هازئين بقوتها وقسوتها؛ فيكسبهم استصغارها والازدراء بشأنها مضاء في العزيمة، وصبراً على صبر، وقوة فوق قوة، وتثبيتاً لقلوب أنصارهم وحفزاً لهممهم وعزائمهم، وتراهم بهذا الجلَد يتزودون بذلك إلى لقاء ما هو أشد وأقسى، يشدّ أزرهم علالة شهية هي إكسير الشجاعة ومبعث الطاقة ومصدر الهمة: ذلك هو النصر.
ومن عجيب صنع الله أن إبطاء النصر وكثرة المحن تصهر عواطف الهزيمة وتبخرها، وتنضج ميول الإقدام والشجاعة والرغبة والحب والإخلاص في أنصار فكرته، وتخلق منهم رجالاً كوّنتهم مدرسة المحن والتجارب، وجعلت منهم قوام الفكرة وكفلاءها وحماتها ومذيعيها في زمن السلم والحرب، ومعلميها للجيل الذي يليهم، والمثل الصالح لمن عاصرهم ومن جاء بعدهم.
وكذلك كان شأن رأس المصلحين وواضع أكبر وأوسع وأبقى وأمتن مدنيّة عرفتها الغبراء: سيدنا محمد، عبد الله ورسوله ﷺ؛ فكم لقى من شدائد وقاسى من محن ومصائب، وهو لها صابر وفي سبيله ماضٍ لا يهن ولا يضعف.
وفي مدرسة النبوة الصابرة المصابرة الموقرة تربى رجال الدولة الإسلامية وأساطينها، الذين بُني على كواهلهم قصرها المشيد.
وكثيراً ما يكون الظفر بالخصوم والنصر على الأعداء والحصول على المرغوب أذيناً بثورة وفخر وتكبر في نفس المنصور، لكن ذلك يخلق له أعداء لا تخبو لهم نار ولا تنكسر لهم شرة، ولكنهم يلينون للعاصفة حتى تهدأ وإذ ذاك يصنعون الثورات ويخلقون المشاكل؛ فكان حقاً على الظافرين أن يظفروا بقلوب أعدائهم عن طريق التواضع وإنكار الذات وغمط الحق ووصل الإصلاح الذي جاءوا به بالله وبدين الله، حتى يعلم الجميع أنه كلمة الله وأن الكل يجب أن يكون فيه جند لله ،ولا يفتر لسانه عن تنزيه الله وحمده على إعانته له وتوفيقه للظفر بنِشدته من الإصلاح، مع قرن ذلك بالاستغفار مما عسى أن يكون من تفريط في جنب الله.
ولقد أُمر سيد المصلحين وقدوة المقتدين وإمام المرسلين سيدنا محمد ﷺ، لما آتاه الله النصر ودخل عُداته في دين الله أفواجاً أن يسبّح بحمد الله ويستغفره إنه كان تواباً؛ فما أجمل أدب القرآن!
زمن النزول
أكثر المؤرخون على أن هذه السورة الشريفة نزلت قبل فتح مكة، وفي (البحر) أن “نزولها عند منصرفه ﷺ من خيبر”.
وأنت تعلم أن غزوة خيبر كانت في سنة سبع، أواخر المحرم، فتكون قبل الفتح، ويكون بين نزولها ووفاته ﷺ أكثر من سنتين.
وقيل إنها نزلت بمِنى، في حجة الوداع؛ فقد أخرج الترمذي في مسنده والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة وعبيد الله بن دينار وصدقة بن بشار عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: “هذه السورة نزلت على رسول الله ﷺ أوسط أيام التشريق بمنى وهو في حجة الوداع، ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ والفتْحُ﴾ حتى ختمها”… الخبر.
وعليه: فالمسافة بين نزولها والتحاقه ﷺ بالرفيق الأعلى ثلاثة أشهر ونيف. ولكن هذه الرواية ضعيفة جداً، وموسى بن عبيدة قال أحمد: “لا تحل الرواية عنه”!
أسماء السورة
تُسمى: سورة النصر، وسورة: إذا جاء. وعن ابن مسعود أنها تُسمى: سورة التوديع؛ لما فيها من الإيماء إلى وفاته ﷺ، وتوديعه الدنيا وما فيها.
ما فهمه الرسول ﷺ من السورة
وقد فهم ﷺ من هذه السورة الشريفة أنها بشير بقرب التحاقه بالرفيق الأعلى؛ فقد جاء في عدة روايات عن ابن عباس وغيره أنه ﷺ قال حين نزلت: “نُعِيتْ إليّ نفسي”.
وفي رواية للبيهقي عنه: أنه لما نزلت دعا ﷺ فاطمة رضي الله تعالى عنها، وقال: إنه “قد نُعِيَتْ إليّ نفسي”. فبكتْ.. ثم ضحكتْ! فقيل لها؟ فقالتْ: “أخبَرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت، ثم أخبرني بأنكِ أول أهلي لحاق بي فضحكتُ”.
وقد فهم عمر رضي الله عنه من السورة الكريمة قرب ارتحاله إلى الآخرة. وكان ﷺ يفعل بعدها فعل مودّع.
الشرح
﴿إِذَا جَاۤءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ﴾ [النصر: ١].
قد علمت أن الأكثرين على أن هذه السورة الشريفة نزلتْ قبل فتح مكة، وعلى هذا فهي بشارة بأن على جناح المستقبل نصراً من الله وفتحاً قريباً، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، يراه الرسول قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى. وذلك طبعاً من أعلام النبوة.
والمراد من “النصر” غلبته ﷺ على أعدائه قريش، وإظهاره عليهم في يوم الفتح الأعظم؛ حيث ثل عرش العظمة القرشية يومئذ، ودالت الدولة للإسلام على شريعة الأوثان.
والمراد من “الفتح”: فتح مكة؛ كما رواه جماعة عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وكذلك روي عن مجاهد وغيره وصححه الجمهور، وكان في السنة الثامنة في شهر رمضان باتفاق؛ لكنهم اختلفوا في تعيين اليوم؛ فعند ابن شهاب الزهري: “كان الفتح لثلاث عشرة بقيت من رمضان”. وعند بعضهم كان في اليوم العشرين، وقيل غير ذلك.
وكان مع النبي ﷺ يومئذ عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، وعلى أبواب مكة أسلم أبو سفيان، فقبِله الرسول ﷺ مع أنه كان على رأس الكفر وأعدى أعداء الرسول ﷺ.
ولم يدخل الرسول ﷺ دخول الظافر الجبار المستكبر؛ بل دخل منحنياً على الرحل، تواضعاً لله وشكراً له على هذه النعمة، حتى تكاد جبهته الشريفة تمس الرحل؛ فما أكمل أخلاقك أيها الرسول الكريم!
ولما وصل إلى الحجون، وهو المكان الذي نُصبت فيه رايته وقبته، وفيها من أمهات المؤمنين أم سلمة وميمونة؛ فاستراح قليلاً ثم سار وبجانبه أبو بكر يحادثه وهو يقرأ سورة الفتح، حتى بلغ البيت وطاف سبعاً على راحلته واستلم الحجر بمحجنه، وكان حول الكعبة إذ ذاك ثلاثمائة وستون صنماً؛ فجعل ﷺ يطعنها بعود في يده ويقول: “﴿جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَـٰطِلُۚ﴾، ﴿وَمَا یُبۡدِئُ ٱلۡبَـٰطِلُ وَمَا یُعِیدُ﴾”.
ثم أمر بـ(الآلهة) فأُخرجت من البيت، وفيها صورة إسماعيل وإبراهيم في أيديهما الأزلام! فقال ﷺ: “قاتلهم الله! لقد علموا ما استقسما بها قط”.
حدثني بعينيك عن مقدار خزي المشركين حين رأوا (آلهتهم) يهينها الرسول ﷺ ويخرجها شر إخراج، ولم تستطِع دفع الضر عن أنفسها!
ثم إن النبي ﷺ بعد أن دخل الكعبة وكبّر في نواحيها وصلى في مقام إبراهيم وشرب من ماء زمزم، جلس في المسجد والناس حوله والعيون شاخصة إليه ينتظرون ما هو فاعل بأعدائه، الذين أخرجوه من دياره وحاولوا قتله، وقاتلوه نحو سبع سنين.
ولقد دوى في سكونهم الرهيب صوت الرسول ﷺ قائلاً: “يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم”؟
قالوا: “خيراً.. أخ كريم وابن أخ كريم”.
فقال ﷺ: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
فأعتقهم الرسول ﷺ، وقد كان الله تبارك وتعالى أمكنه من رقابهم عنوةً وكانوا له فيئاً، ولذلك سُمي أهل مكة: الطلقاء.
ولله در البوصيري إذ يقول:
وإذا كان القطْع وَالوصلُ للهِ تَسَاوَى التَّقْرِيبُ وَالإِقْصاءُ
وسواءٌ عليه فيما أتاهُ مِنْ سِواهُ المَلامُ وَالإطْراءُ
وَلَو انَّ انتقامَهُ لِهَوَى النَّف ـسِ لَدَامَتْ قطيعةٌ وَجَفَاءُ
قام للَّه في الأُمورِ فأَرْضَى اللهَ منه تَبايُنٌ وَوَفاءُ
فِعْلُهُ كلُّهُ جَمِيلٌ وَهل يَنْـ صَحُ إلّا بمَا حَوَاهُ الإناءُ
ولقد خطب خطبة قرر فيها كثيراً من قواعد الدين، منها: أن لا يُقتل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، وأن البيّنة على من ادّعى واليمين على مَن أنكر، وأن لا تُنكح المرأة على عمتها أو خالتها…
وفيما قاله الرسول ﷺ: “يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمها بالآباء، والناس من آدم وآدم من تراب”. ثم تلا هذه الآية: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ﴾ [الحجرات: ١٣].
ثم شرع الناس يبايعون على الإسلام، وجاء الرسولَ ﷺ رجلٌ ليبايِع، يرتعد خوفاً؛ فقال ﷺ: “هوّن عليك! فإني لست بملِك، إنما أن ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد”.
سبحانك ربنا.. فما محمد ﷺ إلا غرس عنايتك!
وبفتح مكة دانت العرب، وزالت دولة الشرك والأوثان، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
ـــــــــــــــــــــ
* مصطفى محمد الحديدي الطير، مقال: تفسير سورة النصر، ج1، جريدة “الإخوان المسلمين”، عدد13، جمادى الأولى 1352.