كمثل الغيث
فبراير 9, 2024الهجرة النبوية
فبراير 9, 2024
يجب أن نتذكر أنه رغم أن عدد المسلمين لم يتجاوز في تلك الفترة عدة مئات، إلا أن النجاح الكبير تمثل في وجود مثل هؤلاء المؤمنين العظماء الكبار:
1 – أبو بكر وعمر، وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، الذين عُرفوا بفضيلة العلم، وقوة العمل، ويقظة الضمير وسمو الكفاءة، وهي صفات جعلتهم نبراساً للعالم كله.
2 – ومصعب بن عمير، وجعفر الطيار، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، بما لهم من أهلية وكفاءة فأسلم بدعوتهم أهل يثرب والحبشة ونجران.
3 – وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما اللذان عُرفا برواياتهم العلمية التي حوت مئات اللطائف العلمية.
4 – والزبير وطلحة وعمار بن ياسر رضي الله عنهم، ممن لم يعرف التاريخ مثلهم في الفداء وحب الحق، واستقامتهم على الحق.
5 – وبلال وسمية وياسر، وكعب وخباب الذين أنهكوا الظالمين الطغاة بثباتهم وصبرهم.
6 – والسكران وشموس وأم حبيبة وخنيس بما عرف عنهم من همة عالية، جعلتهم يؤثرون الإقامة في الحبشة تاركين أهلهم وأقاربهم ووطنهم، في سبيل الحفاظ على دينهم.
7 – ووليد وسويد بن الصامت الملقب بالكامل، وأنيس شقيق أبي ذر ممن بلغوا في الفصاحة والبلاغة مبلغاً عظيماً حتى إنهم كانوا يؤثرون في العديد من القبائل بخطبة أو قصيدة واحدة، ولم يُعرف أحد في الدنيا، فاقهم في معرفتهم للحقائق وفهمهم للمعاني واطلاعهم على سرائر النفس البشرية.
وفي تلك الأيام كان الإسلام قد انتشر خارج مكة أيضاً، ونذكر على سبيل المثال:
1 – طفيل بن عمرو الدوسي، وكان ملكاً على منطقة باليمن، أسلم في مكة ونتيجة لإسلام طفيل انتشر الإسلام في ملكه أيضاً.
2 – أبو ذر الغفاري وأخوه أنيس وأمهما، ونصف قبيلة غفار.
3 – عشرون شخصاً من نصاری نجران.
4 – ضماد الأزدي، كاهن مشهور باليمن.
5 – قبيلة بني الأشهل.
6 – تميم ونعيم، وبعض سكان الشام.
7 – كثير من أهل الحبشة وغيرهم.
إسلام بريدة ومعه 70 شخصاً
بينما كان النبي ﷺ متوجهاً إلى يثرب، لقيه في الطريق بريدة الأسلمي، وكان رئيس قومه، وكان قد خرج يبحث عن النبي ﷺ طمعاً في الحصول على الجائزة التي رصدتها قريش لمن يقبض على النبي، وكانت الجائزة مائةً من الإبل. إلا أنه حين مثل أمامه، وواتته الفرصة ليستمع إلى كلام النبي، أسلم من فوره مع سبعين رجلاً كانوا معه، ثم خلع عمامته وجعلها رايةً بيضاء ترفرف من فوق رمحه، تبشر بقدوم الأمين، حامي السلام، ناشر العدل والإنصاف في الدنيا، وفي الطريق لقي النبي ﷺ الزبير بن العوام، وكان قادماً من الشام، وكان معه تجار من المسلمين، فكسا النبي ﷺ وأبا بكر ثياباً النبي: بيضا (1).
وصل النبي إلى قباء يوم الاثنين(2) الثامن(3) من ربيع الأول عام 13 من البعثة الموافق ٢٣ سبتمبر ٦٢٢م والموافق 10 تشري سنة 4383 يهودية. وكان أهل يثرب حين سمعوا أن النبي ﷺ خرج من مكة، راحوا منذ الصباح الباكر يتوقعون قدومه المبارك، وظلوا جلوساً إلى ما قبل الظهر، ولم يكد هؤلاء يعودون إلى بيوتهم حتى وصل، واجتمع الناس على صياح رجل، كما سمعت الأناشيد ترحب بمقدم النبي ﷺ.
وصول النبي ﷺ إلى قباء
ولم تكن عيون معظم المسلمين قد اكتحلت برؤية صاحب الرسالة، وما كانوا يعرفونه من أبي بكر الصديق، حتى قام أبو بكر فأظل النبي بردائه فعرفوه(4).
وبقي رسول الله ﷺ في تلك البقعة إلى يوم الخميس، وكان أول عمل أنجزه أثناء إقامته في هذه الأيام الثلاثة(5) هو بناء مسجد لعبادة الله وحده لا شريك له. وقد وصل إلى ذلك المكان علي رضي الله عنه، وقدم إلى رسول الله ﷺ بعد أن وصل من مكة، التي بقي فيها عدة أيام بناء على طلب من النبي ﷺ لكي يؤدي الأمانات الموجودة في بيت النبي ﷺ إلى أهلها.
وفي يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول السنة الأولى للهجرة، ركب النبي ﷺ ناقته، ولم يكد يصل إلى بيوت بني سالم حتى أدركته الجمعة، فصلاها مع مائة شخص فكانت أول جمعة في الإسلام.
الخطبة
خطب رسول الله ﷺ في أول جمعة جمعها بالمدينة في بني سالم بن عوف، فقال:
الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأؤمن به، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقُرب من الأجل، مَن يُطِع الله ورسوله فقد رشد، ومن يَعصِهما فقد غَوَى وفرط وضل ضلالاً بعيداً، أوصيكم بتقوى الله، فإن خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكراً، وإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما يبغون من أمر الآخرة، ومَن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية، لا ينوي بذلك إلا وجه الله، يكن له ذكراً في عاجل أمره، وذخراً له فيما الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم. وما كان سوى ذلك يود لو أن بينه وبينها أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد، والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول عز وجل: ﴿مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ للعَبِيد﴾ [ق: 29] فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه من يتقِ الله يُكَفِّر عنه سيئاته، ويُعظم له أجراً، ومن يتقِ الله فقد فاز فوزاً عظيماً، وإن تقوى الله تُبيّض الوجوه وترضي الرب وترفع الدرجة. خذوا حظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداء الله، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم، وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله، يكفِه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العظيم”(6).
دخول المدينة
بعد صلاة الجمعة، دخل النبي ﷺ يثرب من ناحيتها الجنوبية، ومنذ ذلك اليوم صار اسمها “مدينة النبي” ويطلق عليها اختصاراً “المدينة”.
وكان لدخوله المدينة شأن عظيم، فكانت الشوارع والطرقات تصدح بكلمات التحميد والتقديس، وراح الرجال والنساء والشيوخ والشباب يرنون بعيونهم إلى بهاء “نور الله”، وقد فهم أهل الكتاب بعدما رأوا عظمة وجلال قدوم النبي ﷺ، أن ذلك هو تفسير ما ورد في كتاب النبي حبقوق (الإصحاح 4:3) “الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران(7) جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه” (ص۱۲۳۱)(8).
وكانت بنات الأنصار البريئات ينشدن بصوت عذب وبنغمة حبيبة هذه الأشعار.
طلع البدر علينا من ثنيات(9) الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
وبنات الأنصار اللاتي أنشدن هذا النشيد، هن بنات من ذهبوا إلى مكة المكرمة في أعوام ۱۱، ۱۲، 13 من البعثة وبايعوا النبي ﷺ، أو هن بنات من أسلموا في المدينة المنورة بدعوة مصعب بن عمير أو ابن مكتوم رضي الله عنه.
والأنصار(10) الكرام لم يكونوا أصحاب ثروة أو أرض أو عقار، ولكنهم كانوا يمتلكون غنى القلب، والتضحية في سبيل الإسلام، وقد وصل مبلغ تضحيتهم في سبيل إخوتهم المسلمين، أن المهاجر كان حين يلجأ إلى المدينة ظمآنا ناجياً بنفسه أمام السيف المسلول، والسهم المشدود في قوسه(11)، كان كل أنصاري يرغب في استضافة هذا المهاجر حتى أنهم كانوا يقترعون على ذلك، فالآية الخامسة عشرة من الآيات السابق ذكرها تذكر المهاجرين الذين هربوا بأرواحهم وإيمانهم، أمام بطش قريش ووصلوا إلى المدينة، فمن وقعت عليه القرعة كان المهاجر من حظه، فيأخذه إلى بيته، ويتقاسم معه كل ما يملك في نفس اليوم، ويظل على استعداد لخدمته ليل نهار، ويقدم شكره لله تعالى على حسن حظه حين جعل أخاً له في الدين قسيماً له في كل ما يملك.
مقارنة بين أحوال مكة والمدينة
كانت السيادة في مكة لقريش دون غيرها، وكانت في معظمها، إن لم تكن كلها على الوثنية، أما في المدينة فقد وجدت قبائل مختلفة وأديان متنوعة، وجدت فيها الوثنية، واليهودية وقلة من النصارى، ومن قبائل اليهود القوية بنو النضير، وبنو قينقاع، وبنو قريظة، وكانت تسكن في قلاع منفصلة خاصة بها، وكانت تمتلك مالاً وافراً نتيجة لعملها بالتجارة وكذا التعامل بالربا.
ومنذ أن بشر نبي الله موسى عليه السلام اليهود في وعظه بأن الله تعالى يخلق من بين إخوة موسى نبياً مثل موسى، واليهود تأمل في أن يكون هذا منهم، وعلى هذا الأمل أقاموا في المدينة، فلعل نبي بني إسرائيل القادم يزيل عنهم تدهورهم القومي، ويحيي لهم مجدهم الضائع وبأسهم وسلطتهم التي زالت، ومنذ إخراج اليهود من الشام، ضُربت عليهم الذلة والعبودية، ومنذ ذلك الوقت واليهود ينتظرون بأمل أكبر ظهور النبي الموعود.
والآن فرحت اليهود بصفة خاصة، بعد أن سمعوا بمقدم نبي إسماعيلي إلى المدينة، ولكن حين رأوا أنه يصدق المسيح عليه السلام، ويصدق تعاليمه، ويجعل الإيمان بالمسيح عليه السلام جزءاَ لا يتجزأ للإيمان بالإسلام ويخطئ اليهود بتمجيده إياه عندئذ صار اليهود كلهم أعداءً لنبينا.
نصارى المدينة والنبي الموعود
منذ أن بشر عيسى المسيح عبد الله المختار في آخر موعظة له بمجيء نبي آخر يبقى مع الدنيا دائماً، ويعلم الدنيا كل شيء، وأوصى النصارى باتباعه، منذ ذلك الوقت والنصارى في انتظار هذا النبي، الذي سيقتص لهم من اليهود، ويمنح النصارى الجلال والعظمة، ويظهر صدق المسيح، ولكن حين رأوا النبي ﷺ يرد على النصارى القضايا التي اصطنعوها مثل البنوة والتثليث والكفارة والرهبانية والسلطة الإلهية (المطلقة) للبابا، صاروا أيضاً أعداءً للنبي ﷺ.
وللاطلاع على أحوال المدينة، ينبغي أن نلقي نظرة موجزة على أحوال عبد الله بن أبي ابن سلول، كان هذا الشخص – بالإضافة إلى اليهود – رجلاً ممتازاً ذا تأثيرٍ في أهل المدينة، كان يخشى تماماً قبيلتي الأوس والخزرج.
وكان يتوقع أن يصبح أكبر قوة وسلطة في المدينة بمساعدة هاتين القبيلتين القويتين، وحين رأى أن الأوس والخزرج دخلتا في الإسلام، انضم في الظاهر بعد غزوة بدر إلى المسلمين، ولكن حين رأى أن اليهود خالفوا النبي ﷺ، أراد أن يبقي على أثره السابق على اليهود، وأن تبقى له السيطرة على القبائل التي أسلمت، فاتبع أسلوب التودد إلى المسلمين والجلوس إليهم ومصاحبتهم، ثم يدعى أمام الأمم الأخرى أنه معهم وأنه حليفهم. ولما كان يرى أن الإسلام في الحقيقة قد خيب آماله، فقد كان لا يتورع عن إيذاء المسلمين وإلحاق الضرر بهم وقد سمى المسلمون هذه الطائفة بالمنافقين.
وحالة المدينة تلك توضح مدى الصعوبات والعراقيل التي واجهت الدعوة الإسلامية، وواجهت صاحب الدعوة، والإنسان المنصف يستطيع أن يحكم ويقرر، كيف كان تخطي هذه العراقيل والمصاعب أكبر دليل على صدق الإسلام، والنجاح الذي تحقق للنبي في نشر الإسلام في المدينة المنورة، مقارنة بما تحقق في مكة المكرمة، مما قد ورد ذكره قبلاً في القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾ [الضحى: 4].
* الشيخ محمد سليمان سلمان المنصورفوري، رحمة للعالمين، ص83 وما بعدها.
(1) البخاري عن عروة هجرة النبي ﷺ. (٢٥٧/٤).
(2) صحيح البخاري.
(3) سرور المحزون لشاه ولي الله (متوفى ١١٧٤هـ)
(4) سيرة ابن هشام ۲/ ۱۳۷.
(5) تفسير العلامة أبي السعود ج 8 ص ١٥٢ وورد في صحيح البخاري بضع عشر ليلة.
(6) تاريخ الطبري ٢/ ٢٥٥.
(7) أطلق على مكة في جميع أسفار الإنجيل اسم فاران لأن هذا المكان كان تحت سيطرة فاران بن عوف ابن حمير، وجاء في سفر التكوين التوراة (الإصحاح ٢١) أن إسماعيل سكن في برية فاران، ويثبت من آيات القرآن الكريم أن إبراهيم وإسماعيل قد بنيا في هذه البرية مسجداً يعرف الآن باسم الكعبة. فالتوراة والقرآن يصدق بعضه بعضاً ويثبتا أن فاران هو اسم مكة، وقد ورد ذكر فاران في التوراة، سفر العدد (الإصحاح ۱: ۱۲) والتثنيه (الإصحاح 33: 3). وكل هذه المصادر تثبت صراحة أن فاران اسم مكة.
(8) ورد في سفر اشعيا (٤٢): لتترنم سكان سالع واسم المدينة في كتب الأنبياء الأولين سلع، والطبري يثبت أن المكان الذي حفر فيه المسلمون الخندق في غزوة الأحزاب فيه جبل يعرف عند أهل المدينة باسم سلع.
(9) الثنيات: جمع ثنية وهي تل في طريق العقبة، وقد مر النبي ﷺ في سفر الهجرة بثنية البول وثنية الجابر وثنية مروان، وثنية الوداع تل قرب المدينة، وكان أهل المدينة يأتون إليه لتوديع الأحبة فسميت بهذا الاسم، وقد ورد ذكر هذه الثنيات في سفر اشعيا – الإصحاح ٤٢- لتترنم سكان سلع من رؤوس الجبال ليهتفوا”.
(10) معنى الأنصار، المعاون والمساعد وقد كان هذا لقب أهل المدينة في الإسلام، والمهاجر من هجر بيته وكان هذا لقب أهل مكة الذين ذهبوا مع النبي ﷺ إلى المدينة.
(11) ورد ذكر الهجرة في سفر أشعيا (الإصحاح ٢١).