الإسلام رسالة تغييرية
فبراير 22, 2024رضيتُ بمحمد ﷺ رسولاً
فبراير 22, 2024لم يفتر المشركون عن أذى رسول الله ﷺ منذ أن أرسله الله للعالمين، وطيلة فترة دعوته السريّة، ثم إلى أن صدع بدعوته، إلى أن خرج من بين أظهرهم، وأظهره الله عليهم، ويدلُّ على ذلك – مبلغ هذا الأذى – تلك الآيات الكثيرة الَّتي كانت تتنزَّل عليه في هذه الفترة تأمره بالصَّبر، وتدلُّه على وسائله، وتنهاه عن الحزن، وتضرب له أمثلةً من واقع إخوانه المرسلين.
مثل قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ﴾ [المزمل: 10]، و ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 24]، ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النمل: 70]، و ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [فصلت: 43].
النَّبيُّ ﷺ يتعرض للإيذاء
1 – قال أبو جهل: هل يُعَفِّرُ محمدٌ وجهَه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم. فقال: واللاَّتِ والعُزَّى! لئن رأيتُهُ يفعل ذلك؛ لأطأنَّ على رقبته، أو لأعفِّرَنَّ وجهه في التُّراب، قال: فأتى رسول الله ﷺ وهو يصلِّي، زعم لِيَطَأ على رقبته، قال: فما فَجِئَهُمْ منه إلا وهو يَنْكُصُ على عقبيه ويتَّقي بيديه. قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إنَّ بيني وبينه لخندقاً من نارٍ، وهَولاً، وأجنحةً، فقال رسول الله ﷺ: «لو دنا مني؛ لاختطفته الملائكة عضواً عضواً»(1).
وفي حديث ابن عباسٍ قال: «كان النَّبيُّ يُصلِّي، فجاء أبو جهل، فقال: ألم أنهَك عن هذا؟! ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النَّبيُّ ﷺ، فزبره، فقال أبو جهل: إنَّك لتعلم ما بها نادٍ أكثر منِّي، فأنزل الله تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ *سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [العلق: 17 – 18] قال ابن عباس: لو دعا ناديه؛ لأخذته زبانية الله»(2).
2 – وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه: «بينما رسول الله ﷺ قائمٌ يُصلِّي عند الكعبة، وجمع قريشٍ في مجالسهم؛ إذ قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيُّكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيَعْمِدُ إلى فَرْثِها، ودمها، وسلاها، فيجيءُ به، ثمَّ يمهله حتَّى إذا سجد؛ وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلـمَّا سجد رسول الله ﷺ وضعه بين كتفيه، وثبت النَّبيُّ ﷺ ساجداً، فضحكوا حتَّى مال بعضهم إلى بعضٍ من الضَّحك، فانطلق مُنطِلقٌ إلى فاطمـةَ عليها السَّلامُ -وهي جُوَيرِيـةٌ- فأقبلت تسعى، وثبت النَّبيُّ ﷺ ساجداً حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسُبُّهم، فلـمَّا قضى رسولُ الله ﷺ الصَّلاة، قال: اللَّهم عليك بقريش! اللَّهمَّ عليك بقريش! اللَّهُمَّ عليك بقريش! ثمَّ سَمَّى: اللَّهمَّ عليك بعمرو بن هشام، وعُتبةَ بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأميَّة بن خلف، وعقبة بن أبي مُعَيْطٍ، وعُمارةَ بن الوليد، قال ابن مسعودٍ: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدرٍ، ثمَّ سحبوا إلى القَلِيب – قليب بدرٍ – ثمَّ قال رسول الله ﷺ : وأُتْبِعَ أصحابُ القَلِيبِ لعنةً»(3).
وقد بيَّنت الرِّوايات الصَّحيحة الأخرى: أنَّ الَّذي رمى الرَّفث عليه هو عقبة بن أبي مُعَيْطٍ، وأنَّ الَّذي حرَّضه هو أبو جهل(4)، وأنَّ المشركين تأثَّروا بدعاء الرَّسول ﷺ عليهم، وشقَّ عليهم الأمر؛ لأنَّهم يرون أنَّ الدَّعوة بمكَّة مستجابةٌ(5).
3 – اجتماع الملأ من قريش وضربهم الرَّسول ﷺ: اجتمع أشراف قريشٍ يوماً في الحِجر، فذكروا رسول الله ﷺ فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرَّجل قطُّ؛ سفَّهَ أحلامنا، وسبَّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمرٍ عظيم! فبينما هم في ذلك؛ إذ طلع عليهم رسولُ الله ﷺ، فوثبوا وثبة رجلٍ واحدٍ، وأحاطوا به يقولون: أنت الَّذي تقول كذا وكذا – لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم – فيقول: «نعم، أنا الذي أقول ذلك»، ثمَّ أخذ رجلٌ منهم بمجمع ردائه؛ فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه، وهو يبكي، ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربِّيَ الله؟!(6).
4 – كان أبو لهبٍ عمُّ النَّبيِّ ﷺ من أشدِّ النَّاس عداوةً له، وكذلك كانت امرأته أمُّ جميلٍ، من أشدِّ النَّاس عداوةً للنَّبيِّ ﷺ؛ فكانت تسعى بالإفساد بينه وبين النَّاس بالنَّميمة، وتضع الشَّوك في طريقه، والقذر على بابه، فلا عجب أن ينزل فيهم قول الله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 1 – 5]، فحين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن؛ أتت رسول الله ﷺ وهو جالسٌ عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصدِّيق، وفي يدها فهرٌ من حجارةٍ؛ فلـمَّا وقفت عليهما قالت: يا أبا بكر! أين صاحبك؟ فقد بلغني أنَّه يهجوني، والله لو وجدته؛ لضربت بهذا الفهر فاه! ثمَّ انصرفت؛ فقال أبو بكر: يا رسول الله! أما تراها رأتك؟ فقال: لقد أخذ الله ببصرها عنِّي، وكانت تنشد: مذمَّمٌ أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، وكان رسول الله ﷺ يفرح؛ لأن المشركين يسبُّون مذمَّماً يقول: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عنِّي شتم قريش، ولعنهم، يشتمون مذمَّماً ويلعنون مذمَّماً، وأنا محمَّد»(7).
وقد بلغ من أمر أبي لهبٍ أنَّه كان يتبع رسول الله ﷺ في الأسواق، والمجامع، ومواسم الحج ويكذِّبه(8).
هذا بعض ما لاقاه رسول الله ﷺ من أذيَّـة المشركين، وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله ﷺ بمحاولة قتله في أواخر المرحلة المكِّيَّـة(9).
وكان رسول الله ﷺ يذكر ما لاقـاه من أذى قريشٍ قبل أن ينال الأذى أحداً من أتباعه، يقول: «لقد أُخِفْتُ في الله – عزَّ وجلَّ – وما يُخاف أحدٌ، ولقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحدٌ، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يومٍ وليلـة، وما لي ولا لبلالٍ طعامٌ يأكلـه ذو كبدٍ إلا شيءٌ يواريه إبط بلال»(10).
ومع ما له ﷺ من عظيم القدر، ومنتهى الشَّرف، إلا أنَّه قد حظي من البلاء بالحمل الثَّقيل، والعناء الطَّويل، منذ أوَّل يومٍ صدع فيه بالدَّعوة، ولقد لقي النَّبيُّ ﷺ من سفهاء قريش أذىً كثيراً، فكان إذا مرَّ على مجالسهم بمكَّة استهزؤوا به، وقالوا ساخرين: هذا ابن أبي كبشة يُكلَّم من السَّماء! وكان أحدهم يمرُّ على الرَّسول ﷺ فيقول له ساخراً: أما كُلِّمْتَ اليوم من السَّماء؟!
ولم يقتصر الأمر على مجرَّد السُّخرية، والاستهزاء، والإيذاء النَّفسيِّ، بل تعدَّاه إلى الإيذاء البدنيِّ، وحتَّى بعد هجرته – عليه السَّلام – إلى المدينة، لم تتوقف حدَّة الابتلاء والأذى، بل أخذت خطّاً جديداً، بظهور أعداءٍ جدد، فبعد أن كانت العداوة تكاد تكون مقصورة على قريش بمكَّة؛ صار له ﷺ أعداءٌ من المنافقين المجاورين بالمدينة، ومن اليهود، والفرس، والرُّوم، وأحلافهم، وبعد أن كان الأذى بمكَّة شتماً، وسخريةً، وحصاراً، وضرباً، صار مواجهةً عسكريَّة مسلَّحةً، حامية الوطيس، فيها كرٌّ، وفرٌّ، وضربٌ، وطعنٌ؛ فكان ذلك بلاءٌ في الأموال، والأنفس على السَّواء(11).
وهكذا كانت فترة رسالته ﷺ وحياته، سلسلةً متَّصلةً من المحن، والابتلاء، فما وهن لما أصابه في سبيل الله، بل صبر، واحتسب حتَّى لقي ربَّه(12). لقد واجه الرَّسول ﷺ من الفتن، والأذى، والمحن ما لا يخطر على بالٍ، في مواقف متعـدِّدةٍ، وكان ذلك على قدر الرِّسالـة الَّتي حُمِّلهـا، ولذلـك استحق المقام المحمود، والمنزلـة الرَّفيعـة عند ربِّه، وقد صبر على ما أصابه؛ إشفاقاً على قومه أن يصيبهم مثلُ ما أصاب الأمم الماضية من العذاب؛ وليكون قدوةً للدُّعاة، والمصلحين، فإذا كان الاعتداء الأثيم قد نال رسولَ الله ﷺ، فلم يعد هناك أحدٌ أكبر من الابتلاء، والمحنة، وتلك سنّة الله في الدَّعوات؛ فعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال: يا رسول الله! أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال:
«الأنبياء، ثمُّ الأمثلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرَّجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً؛ اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّةٌ ابتُلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتَّى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة»(13).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه مسلم (2797).
الترمذي (3349).
البخاري (520) ومسلم (1794).
مسلم (1794).
السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، العمري،1/149.
البخاري (3687 و3856 و4815) والبيهقي في دلائل النبوة (2/274).
البخاري (3533).
السِّيرة النَّبويَّة، أبو شهبة، 1/293.
السِّيرة النَّبوية الصَّحيحة، 1/153.
10) الترمذي (2472) وابن ماجه (151).
11) زاد اليقين، أبو شنب، ص137.
12) التمكين للأمَّة الإسلاميَّة، ص 243.
13) ابن ماجه (4024) عن أبي سعيد الخدري، ورواه الترمذي (2398)، وأحمد (1/172)، وابن ماجه (4023) عن سعد بن أبي وقاص.