من أعلام السنة الإمام الأعمش
فبراير 22, 2024كيف علمنا النبي ﷺ اختيار الرجال؟
فبراير 22, 2024ما أحوجنا إلى كتاب في التفسير يفسر كلام الله تعالى بكلام رسول الله ﷺ؛ لأننا نعلم أن الرسول ﷺ قد أُمِرَ وكُلِّفَ ببيان القرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44] وفي الآية الأخرى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ [النساء:105] فالرسول ﷺ مكلف بالبيان، وفي سورة آل عمران يقول الله تعالى عن رسوله ﷺ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة:2]
فلاحظ هذه المهمات الثلاث للرسول ﷺ:
أولاً: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾
وهذا هو البلاغ اللفظي الذي قام به الرسول ﷺ، حيث كان يتلو القرآن على الناس، ولا يترك منه حرفاً واحداً؛ حتى الآيات التي نزلت في معاتبة الرسول ﷺ في بعض المواقف، كان يتلوها على الناس ﷺ، فيقف أمام الناس ويقول لهم -مثلاً-: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب:37] فينقل الآيات التي فيها عتاب له ﷺ، كما ينقل الآيات التي فيها مديح وثناء عليه، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4] لأن مهمته ﷺ هي البلاغ.
هذا هو معنى قوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾
ثانياً: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾
والتزكية هي: تربيتهم. إذاًَ لم تكن مهمته فقط مهمة علمية محضة، مثلما يظن بعض الناس، فيقول: أنا مهمتي أن أقول للناس هذا حلال وهذا حرام، وبعد ذلك يفعلوا ما يشاءون، لا، بل كانت مهمة الرسول ﷺ فوق ذلك، ويزكيهم، بمعنى: أنه يربيهم على الالتزام الصحيح والتطبيق العملي للقرآن الكريم، ولذلك صار النبي ﷺ وأصحابه تطبيقاً وترجمة عملية للقرآن الكريم؛ حتى قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم لما سألها هشام بن سعد عن خُلُق رسول الله ﷺ، قالت: هل تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: كان خُلُقَه القرآن.
وكذلك جابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم في حديثه الطويل في الحج، يقول: ورسول الله ﷺ بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو أعلم به منا، فما عمل من شيء عملنا مثله.
فكان الرسول ﷺ يزكي الناس بالقرآن الكريم قولاً وفعلاً: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾.
ثالثاً: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
فما معنى: ويعلمهم الكتاب؟ هل معناه يقرأ عليهم الكتاب؟ لا، فهذه قد مرَّ ذكرها: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾. إذاً تعليم الكتاب غير تلاوة الكتاب، فيعلمهم الكتاب معناه: يشرح لهم القرآن الكريم، ولذلك لا شك في أنه ما من آية تحتاج إلى إيضاح إلا وبيّنها الرسول ﷺ بقوله أو بفعله، وقد عنِي العلماء بجمع هذا التفسير في كتب كثيرة، بعضها مخطوط، وبعضها مفقود، وبعضها مطبوع، ولو راجعتَ كتاب (الدر المنثور) للسيوطي، لوجدته جمع طائفة كبيرة جداً من هذه الأحاديث، ولو راجعت الجزء الثاني من (جامع الأصول) لوجدتَ معظم الجزء مخصصاً لكتاب التفسير، ونقل التفسير النبوي للقرآن الكريم.
القرآنيون
إذاً الرسول ﷺ بيَّن كل ما يحتاج إلى بيان من القرآن الكريم، وهذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأمور: إننا -الآن- نجد طوائف كثيرة من المنتسبين إلى الإسلام -وليسوا بمسلمين- أصبحوا يرفضون السنة كلها، ففي شبه القارة الهندية جماعات يُسَمَّوْن بالقرآنيين، أو بأهل القرآن، وهذه الجماعات ترفض السنة النبوية كلها، وتعتمد فقط على القرآن الكريم… والمهم هو أننا نعلم أن هناك من يؤمن بالقرآن ويرفض السنة، كما أننا نعلم في المقابل أن كثيراً من الذين يؤمنون بالسنة أصبحوا يحاولون أن يرفضوا كثيراً من الأحاديث الواردة مما لا يتفق مع أهوائهم وأمزجتهم.
فنحن بهذا العمل الذي نقوم به -تفسير القرآن بالسنة النبوية- نربط بين المصدرين، نربط القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن؛ بحيث لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر، على الأقل في أذهان جماهير المسلمين، فنقول لمن يؤمن بالقرآن: لا بد أن تؤمن بالسنة، لأن القرآن أحال إلى السنة، ونقول لمن يؤمن بالقرآن -أيضاً- ويرفض بعض السنة: هذه السنة التي ترفضها هي بيان لهذا القرآن الذي تقبله، ولذلك فإن من المهم جداً أن يتجه بعض طلبة العلم كنوعٍ من أنواع التجديد، إلى مشروعٍ من مشاريع التجديد إلى تفسير القرآن الكريم بسنة النبي ﷺ.
وكذلك لا بد من استبعاد ما لا يتفق مع الأصول الشرعية المقررة، والدلالات اللغوية الصحيحة من التفاسير التي سادت بين الناس، وكثيراً ما تقرأ -وخاصة في هذا العصر- ألواناً من التفسير ليس لها علاقة بالآية، يعني: يُسَرِّح المفسر أو الكاتب طرفَه وفكرَه وخيالَه، ثم يكتب ما شاء له قلمُه أن يكتب، ويسمي هذه الكتابة تفسيراً، ويعتبر أنها شرحٌ للقرآن الكريم، وهذا لا شك أنه مَزَلَّّةُ أقدام.
التجديد في دراسة الأسانيد
ومَثَلٌ آخرُ في مجال العلوم الإسلامية، في مجال الحديث والفقه: مسألة التجديد في دراسة أسانيد السنة النبوية، أي: تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وهذه في أمس الحاجة إلى تجديد، وأعلم أن هناك علماء لهم جهود، ولعل من أبرز من نشاهده في هذا المجال: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، فهو مِن أحسن مَن خدم السنة في هذا العصر، وليس هو الوحيد في هذا الباب، بل يوجد من علماء شبه القارة الهندية، ومن علماء مصر كالشيخ أحمد محمد شاكر، ومن علماء المملكة كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ومن بعض الشباب الذين يهتمون بالسنة ولهم جهود طيبة.
لكن مع ذلك -في اعتقادي- أننا بحاجة إلى التجديد في مجال دراسة أسانيد السنة، فبعض الشباب مثلاً ظنوا أن دراسة الأسانيد وتصحيح الأحاديث مسألة آلية، يأتي بكتاب (تقريب التهذيب) للحافظ ابن حجر الذي حكم فيه على الرواة إجمالاً، ويأتي بالرجال ويفتح التقريب، ويقول: الرجال ثقات؛ إذاً الإسناد صحيح، أو يعتمد على تصحيح الألباني أو غيره على حديثٍ ما، ويعتبر أنه مُتَعَبَّد بهذا الشيء، وقد ينتقد من يخالفه، وهذه لا شك تحتاج إلى إبعاد هذه المفاهيم عن نفوس الناس.
فنحن إذا كنا لا نقبل من الفرد أن يقلد إماماً قديماً في تصحيح الأحاديث وتضعيفها ويعرض عما عداه، فكيف بإمام معاصر! هو أولى أن لا يقبل حكمه على غيره، وليس من المقبول ما ذكره أحدهم في ترجمة الشيخ الألباني حفظه الله أنه قال: إن الألباني معاصر واطلع على ما كتبه السابقون وبذلك عرف أسانيد وطرق لم يعرفها غيره فجاء حكمه شاملاً. فهذا غير صحيح؛ لأنه لا أحد يمكن أن يدعي أن علم السنة النبوية محفوظ عند شخص واحد أبداً، والألباني في الوقت الذي يتعقب هو غيرَه من العلماء، يتعقبُه غيرُه، فهو بشر كغيره، صحيحٌ أنه أفضل من كثير من معاصريه؛ لكن ليس معنى ذلك أن العلم توقف عند الشيخ الألباني.
إذاً نحن بحاجة إلى عشرات الرجال من أمثال الشيخ الألباني، والشيخ أحمد شاكر وسواهم، يهتمون بدراسة الأسانيد ومعرفتها معرفة صحيحة.
نقد المتنون
وهناك أمر آخر وهو مسألة نقد المتون، لأنه أحياناً قد يكون السند ظاهره سليم ليس فيه آفة أو علة توجب ردَّه، لكن المتن فيه علة، وهذه أيضاً مشكلة؛ لأن الكلام هذا هو حقٌّ في ذاته؛ لكن أحياناً يكون حقاً يراد به باطل، فالبعض يتكئ كثيراً على هذه القضية في رد كثير من الأحاديث، بحجة أن هذا المتن فيه عِلة فيرده، وقد أكثر من هذا الأمر، وكانت العلة في الغالب -عنده- هي مجرد أن الحديث لا يقنعه هو، فيقول أنا أرفض هذا الحديث لأنه يعارض القرآن…
رأيت شاعرة مصرية -لا أقول: عالمة ولا عالم، ولا طالب علم، ولا عُوَيْلِم، لكن شاعرة مصرية!- ولا أرغب أن أذكر اسمها، ذكرت حديث الأعمى الذي جاء للنبي ﷺ يقول: إن لي قائد لا يلائمني. فقال ﷺ: هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: فأجب. فقالت: أنا لا أقبل هذا الحديث لأن في متنه علة، فهي حفظت الكلمة نفسها… وركبتها، لأن في متنه علة، فما هي العلة؟ قالت: لأنه يعارض القرآن، كيف يعارض القرآن يا أمة الله؟! قالت: يعارض القرآن لأن القرآن جاء بالتيسير والسماحة والرفق، ومن غير المعقول أن الرسول ﷺ يطالب هذا الكفيف أن يمشي إلى المسجد وهو على هذه الحالة، إذاً الحديث يعارض القرآن!
وأقول: إن كلمة: إن الحديث في متنه علة، كلمةُ حق، وقد يُراد بها أحياناً باطل، ونحن لا نريد بها الباطل، بل نريد الحق، لأنه هناك أحاديث -وإن كان ظاهر إسنادها الصحة- فيها علة، وتعرف العلل من مخالفة هذه الأحاديث لأحاديث أخرى قد ترد عن نفس الصحابي وبنفس الإسناد، والأمثلة لذلك كثيرة جداً موجودة في كتب أهل العلم.
ولعل مِن أكثر مَن عني بهذا الباب هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فله في نقد الأحاديث حاسة قلما توجد عند غيره من العلماء، وأذكر لكم مثالاً واحداً: وهو حديث عائشة عند النسائي والدارقطني وغيرهما أنها قالت: كنت مع النبي ﷺ في سفر فقَصَرَ وأتْمَمْتُ، وأفْطَرَ وصُمْتُ -وذلك في عمرة في رمضان- فلما رجعنا قلت: يا رسول الله، قصرتَ وأتممتُ، وأفطرتَ وصمتُ، فقال لي: أحسنتِ يا عائشة.
فـابن تيمية رحمه الله قال: هذا الحديث باطل ومكذوب ولا يصح عن رسول الله ﷺ، مع أن ظاهر إسناده الصحة، والدارقطني يقول: إسناده صحيح، فلماذا باطل؟ قال: باطل من عدة وجوه:
أولاً: إنه لم يحصل أن الرسول ﷺ اعتمر في رمضان -هذه واحدة- وأما فتح مكة وإن كان في رمضان، لكن النبي ﷺ لم يعتمر فيه.
ثانياً: إن عائشة لا يمكن أن تصوم والنبي ﷺ حاضر معها إلا بإذنه؛ لأن النبي ﷺ نهى أن تصوم المرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه.
ثالثاً: إن القصر هو السنة. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيدت في صلاة الحضر، وأقرت في صلاة السفر على الفريضة الأولى. فكيف تعمد عائشة -مع ذلك- إلى أن تزيد في صلاة السفر لتصبح أربع ركعات! ثم الأغرب والأدهى والأمر: هو أن يقول لها النبي ﷺ بعد ذلك كله: أحسنتِ يا عائشة! فيصف فعلها بالإحسان، مع أنه أقل ما يقال فيه إنه مخالف للسنة.
إذاً من خلال هذه الأشياء كلها نكتشف أن هذا الحديث منكر، وهذا نموذج لنقد المتون، ونماذجه كثيرة جداً.
وأنا أريد أن أذكر رءوس أقلام فقط، وأبَيِّن أن هذا الكلام قد يُسْتَغَل بطريقة غير صحيحة، لكن نحن نريد الطريقة الصحيحة.
فقه السنة النبوية والديوان الجامع
الأمر الثالث: مسألة فقه السنة النبوية، فكثير من الناس قد يتعاطون الأحاديث النبوية ويقرءونها، لكن لا يفقهونها فقهاً صحيحاً، ولا يستطيعون أن يفهموا ما دلت عليه هذه الأحاديث، وهؤلاء لا شك أنهم نفعوا الأمة بحفظ الحديث، لكن نحن أحوج إلى من يستطيع أن يستفيد من الأحاديث ويُنـزلها على الوقائع ويستخرج منها حكم الله ورسوله ﷺ على المسائل
الأمر الرابع: أننا بحاجة إلى مشروع في السنة النبوية، وهو: إيجاد ديوان جامع، يعني: كتاب تُجمع فيه الأحاديث النبوية الصحيحة عن رسول الله ﷺ، وقد يقول قائل: الأحاديث النبوية الصحيحة مجموعة، فأقول: كلا، صحيحٌ أن البخاري جمع أحاديثاً صحاحاً، ومسلم كذلك، لكن لم يستوعبا كل الصحيح، وهناك علماء آخرون ألفوا في الصحيح، أنا أعتقدُ أن المسلمين اليوم بحاجة إلى كتاب شامل يلتزم فيه مؤلفه أن لا يُورِد إلا ما صح، وكيف يعرف أن الحديث صحَّ أو لم يصح؟ إذاً لا بد من دراسة الإسناد، لكن مع دراسة الإسناد لا بد أن يلتزم -قدر الإمكان- بسرد أقوال الأئمة، وخاصة الأئمة المتقدمين في تصحيح الأحاديث.
فأنا عندما تقول لي: إن هذا الحديث صححه الإمام أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والبخاري يكون عندي اطمئنان بأن الحديث صحيح، لكن عندما يقول لي -مثلاً- محقق حقَّقَ رسالة ماجستير أو دكتواره أو كتاب صغير: إن الحديث إسناده صحيح، فلا أطمئن؛ لأنني لا أعرف مدى سعة وباع هذا الإنسان في العلم، فنحن بحاجة إلى كتاب كهذا بحيث يجمع ما صَحَّ من حديث رسول الله ﷺ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المقال مقتطف من محاضرة (مفهوم التجديد في الإسلام) للدكتور سلمان العودة، باختصار يسير، موقع (إسلام ويب)، رابط إلكتروني: shorturl.at/aotJU.