
قرآن الثورة والجهاد
أبريل 4, 2025
الاستدراكات التوضيحية حول تعقُّبات دار الإفتاء المصرية على فتوى الاتحاد العالمي للنفير العام
أبريل 8, 2025د. عبد الحي يوسف – عميد أكاديمة أنصار النبي ﷺ
بسم الله الرحمن الـرحيم..
إذا ما مات ذو علمٍ وتقوى ** فقد ثُلِمت من الإسلام ثُلمة
وموتُ الحاكم العدل المولّى** بحكم الشرع منقصةٌ ونقمة
وموت فتىً كثير الجود محْلٌ ** فإن بقاءه خَصْبٌ ونعمة
وموت العابد القوّام ليلاً **يناجي ربَّه في كل ظلمة
وموت الفارس الضرغام هدْمٌ** فكم شهدت له بالنصر عزْمة
فحسبك خمسة يُبْكَى عليهم ** وباقي الناس تخفيف ورحمة
وباقي الخلق هُم همَجٌ رِعاعٌ** وفي إيجادهم لله حكمة
ما أصدق هذه الأبيات في حق الشيخ المبارك أبي إسحاق الحويني! تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنته، ورفع درجته في عليين، وحشره في عداد الشهداء المقربين، وجعل مرضه كفارة وطهوراً، اللهم آمين!
الشيخ رحمه الله تعالى يصدق فيه كذلك قول نبينا ﷺ: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”.
نحسبه -والله حسيبه- كان على رأس هؤلاء العدول في زماننا، فقد بذل وقته وجهده وطاقته وصحته في الذبَّ عن سنة خير البشر ﷺ، وتحمل في ذلك اللأواء والضراء، ولم يُثْنِ عزمَه شدةٌ يلاقيها أو بلاءٌ ينزل به؛ مع طيب نفس وعلو همة، أسأل الله تعالى أن يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء، وأن يرزقنا الاقتداء به!
وما مثلي يكتب عن مثله، وثنائي عليه لا يقدِّم ولا يؤخر، لكن في حياة الشيخ رحمه الله تعالى محطات لا بد من الوقوف عندها والتنويه بها، وذلك في نقاط معدودات:
أولها: أن الشيخ المبارك -رحمة الله عليه- لم يكن من أهل الاختصاص في العلوم الشرعية ابتداء، بل تخرج في كلية الألسن متخصِّصاً في اللغة الإسبانية، لكن حبَّب الله إليه العلم الشريف؛ فبذل فيه الغالي والنفيس، وانقطع له وأوقف حياته على تحصيله وتوصيله، ولم يرضَ بالدون، ولم يقنع بأن ينال من العلم جُمَلاً من هنا وهناك، بل سلك الطريق الذي يتهيبه الكثيرون وتتقاصر عنه همم الآخرين، وأتى البيوت من أبوابها ورحل –كعادة الأولين– يطلب العلم من مظانه، حتى صار مثلاً لأهل زمانه في علو الهمة وحسن القصد.
ثانيها: موسوعيته في طلبه للعلم؛ حيث لم يقتصر -كعادة كثير من معاصريه ممن اشتغلوا بعلم الحديث- على فنه الذي برع فيه، بل علم يقيناً أن العلوم الشرعية متضافرة وأن بعضها يخدم بعضاً؛ فحرص على أن يتبحر في التفسير والفقه والسيرة والتاريخ، مع تفنُّن في العبارة وتألُّق في الأسلوب يذكِّرك بالفقهاء الأدباء والمحدِّثين الفصحاء والدعاة الألبّاء.
ثالثها: اهتمامه بقضايا أمته؛ حيث تناول سائرها بلسان الشرع وأبطل أراجيف المفترين وأكاذيب المبطلين وكان شجىً في حلوق أعداء الإسلام في كل مكان؛ بما يجلو من أفكار وما يقرر من حقائق، بل كان الناطق بالحق المبين حين خسرت ألسن كثيرة، وقد جلى صارمه البتار -بما أوتي من علم واسع وحجة بالغة- لدحض افتراءات المنافقين وتزييف شبهاتهم وردِّ الناس عن بُنَيَّات الطريق.
رابعها: عفة لسانه وسلامة منطقه؛ حيث لم يَخُض في أعراض الدعاة، ولا اتخذ من علمه تكأة للحكم على نوايا الناس وتصنيفهم، والحدة التي تعتريه في بعض كلامه هي عادة أهل العلم حين يسمعون ما ينكرون؛ كما بيَّن ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في توجيهه لقول ابن عباس رضي الله عنه في نوف البكالي (كذب عدو الله)، وقد شهدت مجلساً في بيت الشيخ القرضاوي رحمه الله تعالى في الدوحة، حيث جاءه الشيخ أبو إسحاق زائراً؛ فهبَّ الشيخ من كرسيِّه المتحرك ليصافحه فما كان من أبي إسحاق إلا أن أهوى على يد الشيخ مقبِّلاً، فرأيت -رأي عين- صنيع العلماء حين يلقى أحدهم أخاه، ثم دار بين الشيخين -بمشاركة من الجلوس الكرام وكلهم أهل علم وفضل- حوار عفّ، تناول قضية رجم الزاني المحصن، وكانت ردود وإجابات، أسأل الله تعالى أن يرحمهم جميعاً ويسبغ عليهم عفوه ومغفرته.
خامسها: الشيخ أبو إسحاق كان دمث الأخلاق دائم البشر هيناً ليناً سهلاً عفواً صفواً، وقد زرته مراراً في منزله بالدوحة، ثم قبل وفاته بأسابيع في المستشفى، فكنت أجد منه الترحاب والتهلل وبسط الوجه، لكن الخلق الذي يميزه -مع هذا كله- وفاؤه النادر لشيخه الذي أفاد منه وتأثر به، أعني العلامة المحدِّث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى، فقد عُهد من بعض الناس -عافانا الله- أنه إذا نبتت له في العلم نابتة فسرعان ما يتنكر لشيوخه ويسل قلمه مهاجماً إياهم منتقصاً منهم، أما الشيخ أبو إسحاق رحمه الله تعالى فقد كان أدبه قمحاً وعلمه ملحاً؛ فنفع الله به الخلائق وأجرى ألسنة الناس بالثناء عليه.
سادسها: قد كان رحمه الله تعالى كيِّساً فطناً؛ حريصاً على نشر علمه بكل وسيلة متاحة -مسموعة أو مرئية أو مكتوبة- ولم يتوانَ على كبر سنه وتتابع علله عن بذل وقته في التحقيق والتدقيق والإجابة على السائلين، واستقبال الزائرين والمستفتين، وكان رحمه الله ضانّاً بوقته أن ينفقه في غير نفع.
سابعها: الشيخ رحمه الله تعالى أحسبه ممن كان آية في العبادة والنسك؛ حيث كان حريصاً على صلاة الجماعة، مع كونه قد بترت إحدى ساقيه ويتنقل على كرسي متحرك، مع شدة حر الدوحة، ومع ذلك ما كان يفرط في الجمعة ولا الجماعة، حريصاً على صلاة القيام في ليالي رمضان، وبلغ به الحرص على العلم أن يسعى في تعلُّم القراءات على الشيخ العلامة أحمد عيسى المعصراوي أمتع الله بحياته، وهو الذي صلى عليه عند مماته.
وقد اختار الله تعالى لعبده أبي إسحاق أن يقبضه ليلة السابع عشر من رمضان، بعد مرض طال معه عناؤه، وهو في دار غربة بعيداً عن أهله وبلده؛ فهنيئاً له وبشرى فيما رواه الإمامان أحمد والنسائي وغيرهما من حديث سيدي عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ باِلْمَدِينَةِ ممن ولد بِهَا، فَصَلى عَلَيْهِ رَسُولُ الله ﷺ، ثمُ قَالَ: “يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِه”. قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ الله؟ قال: “إن الرجل إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ، قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الجنّةِ”.
فهنيئاً له ما بين مسقط رأسه إلى الدوحة في الجنة!
أو كما نقل السيوطي عن الطيبي: المراد أَنه يُفسح لَهُ فِي قَبره مِقْدَار مَا بَين قَبره، وَبَين مولده، وَيفتح لَهُ بَاب إلى الجنة!
وبعد: فإني لأراني في حرج عظيم أن أكتب عن جبل من جبال العلم، ورأس من رؤوس السُّنة، لكن لا بأس أن يمدح الصغير الكبير، ويثني المفضول على الفاضل، تذكيراً بمناقبه ونشراً لمآثره، وإني لأرجو أن يكون في عقب الشيخ وتلاميذه من يحرص على بث علمه وإبقاء أثره؛ لتكون البشارة العظمى من نصيب الشيخ: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتَفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
وقد قال السيوطي رحمه الله تعالى معدداً تلك المآثر:
إذا مات ابن آدم ليس يجري ** عليه من خصال غير عشرِ
علوم بثها ودعاء نجل ** وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر ** وحفر البئر أو إجراء نهرِ
وبيت للغريب بناه يأوي ** إليه أو بناء محل ذكرِ
وتعليم لقرآن كريم ** فخذها من أحاديث بحصرِ
أسأل الله تعالى أن يرفع درجته في المهديين، وأن يخلفه في عقبه في الغابرين، وأن يجعله من أصحاب اليمين، وأن يكرمه بشفاعة خير المرسلين، ويجمعنا به في جنات النعيم!
﴿ٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَـٰبَتۡهُم مُّصِیبَةࣱ قَالُوۤا۟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّاۤ إِلَیۡهِ رَ ٰجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٥٦].