
طوفان الأقصى يغرق النظام العالمي
مايو 7, 2024
رسالة إلى شعبنا المسلم في فلسطين
مايو 8, 2024بعد الحديث عن غرق فرعون انتقلت الآيات للحديث عن بني إسرائيل وما منّ الله عليهم به… بدأت الآيات بقول الله تعالى: ﴿وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِینَ كَانُوا۟ یُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَاۖ﴾ [الأعراف: ١٣٧]. فذكرتْ أول صفة من صفاتهم، وهي الاستضعاف، ولكن الله تبارك وتعالى خلصهم من نير العبودية فمنعهم ظلم العدو ومنحهم نسمات الحرية ليشكروه، وتمت كلمة ربك الحسنى عليهم؛ بما كانوا يتحلون به من الصبر.
ولكن هذا الصبر في حياة كثير من الأمم لا يستقر على مفهومه، بل يخرج عن معناه، فبدلاً من أن يكون فضيلة تقوى بها النفوس على لمقاومة الباطل، فإنه يُفهم على غير حقيقته ليصير رذيلة تقبل بها النفوس كل ظلم باطل. وأصبح هذا المفهوم للصبر في حياة كثير من المسلمين الأساس الذي ينطلقون منه.
اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة!
ويفاجأ كل ذي لب. فبعد أن يغرق الله فرعون ومَن معه ويدمر ما كانوا يصنعون ويعرشون ويجتاز ببني إسرائيل البحر إلى البر الأسيوي، يمرون على أقوام -لعلهم من العرب- يعكفون على أصنام لهم، وكان المتوقع من بني إسرائيل أن يطلبوا من موسى عليه السلام أن يأذن لهم بمحاربة هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، أو على الأقل أن يرشدوهم ويعظوهم، ولكن لم يكن هذا ولا ذلك، وربما يظن أن القوم تركوهم وشأنهم فلا قتال ولا إرشاد، حتى هذه مع صعوبتها يمكن أن توجد لها الأعذار والمسوّغات.
ولكن القوم لم يكن منهم شيء من هذا، بل الذي كان منهم لا تتصوره العقول ولا يخطر ببال هؤلاء الذين رأوا آيتين عظيمتين كانت واحدة منهما كافية لإيمان أبعد الناس عن التوحيد، وهم السحرة من المصريين، كانت الأولى منهما يوم أن ألقى موسى عصاه ﴿فَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِینَ * قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ﴾ [الشعراء: 45-47] وثبتوا على إيمانهم رغم تهديد فرعون بالعذاب وبالقتل والتصليب، مع أنه كان يمكن أن يكون لهم شأن ولم يؤمنوا إذا لم يكونوا كذلك مستضعفين؛ لأنهم لم يكونوا إسرائيليين. ومن هنا كانت الرسالات دائماً لا يحملها إلا ذووا النفوس القوية. وأما الآية الثانية، فلقد كانت قريبة العهد بهم لم تجف أرجلهم من الماء حينما منّ الله عليهم بالسير في البحر، ومع هاتين الآيتين العظيمتين، فإنهم لما رأوا عباد الأصنام ﴿قَالُوا۟ یَـٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةࣱۚ﴾ [الأعراف: ١٣٨].
لا أودّ أن أقارن بين هذه النفوس التي يشهد واقعها بأن التوحيد لم يكن متغلغلاً في نفوسهم ولم يكن مستقراً كذلك رغم طول الأمد، وبين أولئك الذين استقر التوحيد في قلوبهم لمجرد إيمانهم به فكانوا حرباً على الباطل والوثنية أينما كانت، وما أعظم الفرق بين أولئك الذين قالوا ما قالوه وبين أولئك الذين قالوا لفرعون وقد هددهم وتوعدهم ﴿إِنَّا نَطۡمَعُ أَن یَغۡفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـٰیَـٰنَاۤ أَن كُنَّاۤ أَوَّلَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [الشعراء: ٥١].
اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة! وماذا عساه أن يقول لهم بعد الذي رأوا من الآيات؟ لقد بكّتهم وأنكر عليهم ولكن ذلك كله لم يكن ليردعهم، لقد سمعوا موسى يدعو إلى توحيد الله ومع ذلك يريدون منه أن يعينهم على الشرك مع أنه كان يتوقع منهم أن يطالبوه ويستأذنوه بتحطيم هذه الأصنام، ما أعظمه من جهل! لهذا يقول موسى عليه السلام: ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾. ثم إذا كانوا يريدون أن يكونوا مثل هؤلاء فكان من الممكن أن يستمروا مع فرعون، وكما أغرق فرعون وتُبر ما هو فيه ودُمر وبطل عمله؛ فإن أولئك كذلك. هكذا يقول موسى لبني إسرائيل: ﴿إِنَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ مُتَبَّرࣱ مَّا هُمۡ فِیهِ وَبَـٰطِلࣱ مَّا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٣٩].
ثم ينكر عليهم ويستهجن مقالتهم، وفي هذا الأسلوب كذلك إنكار على غير الله أن يكون إلهاً، ﴿قَالَ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِیكُمۡ إِلَـٰهࣰا وَهُوَ فَضَّلَكُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأعراف: ١٤٠] الذين تعايشونهم في زمانكم بما خصكم به من النبوة، ثم يذكرهم بالنعمة الكبرى، وهي انجاء الله لهم من آل فرعون، وكانوا يريدون لهم أشد العذاب وأنكاه: تذبيحاً للأبناء، وإذلالاً للنساء، وفي ذلك بلاء ما مثله بلاء. ولكن ترى هل ارعوى بنو إسرائيل وأنابوا؟ هل استسلموا وتابوا؟ اللهم: لا!
سبيل الغي
وهذه صنيعة أخرى لا تقل عن سابقتها سوءاً، يحدثنا القرآن الكريم أن الله قد وعد موسى أن يعطيه التوراة فيها التشريع لبني إسرائيل بعد إغراق فرعون، ووعد الله موسى ثلاثين ليلة ولكنه زادها عشراً فتم ميقات ربه أربعين ليلة، وترك موسى أخاه هارون في بني إسرائيل، وهو يدرك ما سيحدث منهم من إفساد وتخريب، وتعكير صفو، وإفساد جو، مع أنه قد ذهب ليأتيهم بما فيه عزهم ومجدهم، وأين هؤلاء من الذين كانوا إذا عرفوا الوحي يتنزل على رسول الله ﷺ سكنت نفوسهم، واطمأنت قلوبهم، فرحين مؤملين؟
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ** إذا جمعتْنا يا جرير المجامع
وما أشد حاجتنا إلى أن يقتدي الأبناء بالآباء!.
يخرج موسى عليه السلام وهو يحدث نفسه بما يمكن أن يُحدثه قومه من بعده، يدلنا على ذلك تلك الكلمات التي قالها لأخيه هارون: ﴿ٱخۡلُفۡنِی فِی قَوۡمِی وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِیلَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾ [الأعراف: ١٤٢]، إنها كلمات تحمل ما تحمل من هموم موسى مما لا حاجة لأن نعلق عليه.
تحدثنا الآيات بعد ذلك عن أن موسى جاء للميقات وكلمه ربه، وقال: ﴿رَبِّ أَرِنِیۤ أَنظُرۡ إِلَیۡكَۚ﴾، وكان ما كان، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكࣰّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقࣰاۚ فَلَمَّاۤ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [الأعراف: ١٤٣]. ويصطفيه الله تبارك وتعالى برسالاته وكلامه فليأخذ ما آتاه الله بقوة وليشكر الله على نعمه، ويكتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لما يحتاجون إليه، فليأخذها بقوة وليأمر قومه أن يأخذوا بأحسنها. وهنا يحدثنا الله في كتابه عما سيكون من بني إسرائيل مقابل هذه النعم وهذا الفضل الإلهي سأريكم دار الفاسقين، وهو تهديد يتوعدهم به إن لم تعملوا بما في الألواح وتنفذوه، فسأجازيكم منتقماً وأريكم دار الفاسقين. فالإراءة ليس المقصود بها التفرج والنظر، وإنما المقصود بها العذاب والنكال.
ثم تذكر الآيات الكريمة بعض صفات أولئك، فأولاً: أن آيات الله تبارك وتعالى ليس جديراً بها الذين يتكبرون بها بغير الحق، بل إن الله سيصرف عنهم هذه الآيات ويمنعهم من نورها وبركتها هؤلاء الذين يتكبرون على الحق وقد كانوا مستضعفين للباطل، هذا أولاً.
وأما ثانياً: فرغم عظم الآيات إلا أنها لا تؤثر فيهم ﴿وَإِن یَرَوۡا۟ كُلَّ ءَایَةࣲ لَّا یُؤۡمِنُوا۟ بِهَا﴾ [الأعراف: ١٤٦]، وماذا يريدون أكثر من أن أصبح البحر يبساً؟ بعد أن رأوا من إيمان السحرة حينما ألقى موسى عصاه؟ إنه فساد في الطبع إذن هو الذي حملهم على أن يكون الانحراف ديدنهم، وعلى أن تكون طبائعهم غير منسجمة مع الحق.
إن الدافع لذلك كله تأرجح العقيدة وعدم ثباتها، كل ذلك تبينه الآية الكريمة، وهي تشرح لنا طبيعتهم التي ينبئ الله بها موسى عليه السلام: ﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَایَـٰتِیَ ٱلَّذِینَ یَتَكَبَّرُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن یَرَوۡا۟ كُلَّ ءَایَةࣲ لَّا یُؤۡمِنُوا۟ بِهَا وَإِن یَرَوۡا۟ سَبِیلَ ٱلرُّشۡدِ لَا یَتَّخِذُوهُ سَبِیلࣰا وَإِن یَرَوۡا۟ سَبِیلَ ٱلۡغَیِّ یَتَّخِذُوهُ سَبِیلࣰاۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَكَانُوا۟ عَنۡهَا غَـٰفِلِینَ * وَٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَلِقَاۤءِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡۚ هَلۡ یُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾ [الأعراف: 146-147].
ومن هذه القاعدة، ومن هذا الوصف تبدأ الآيات الكريمة تفصل لنا بعض التفصيل لبعض ما كان من أولئك، وكل فعلة تفوق ما قبلها شناعة وتعظمها انحرافاً وعتواً! فماذا كان منهم بعد ذلك كله؛ كان منهم ما حدثنا عنه القرآن، وهو أنه بعد أن ذهب موسى لمناجاة ربّه، والمدة التي تركهم فيها لم يطل عليها الأمد، ولكنهم مع ذلك اتخذوا من بعده من الحُلي التي كانت معهم والتي هي للمصريين في الأصل جمعوها واتخذوا منها عجلاً جسداً له خوار: أي صوت يشبه صوت البقر، وهل ذلك الخوار كان على سبيل الحقيقة أم كان بسبب حذق في الصنعة؟ ذلك ما لا يتعلق لنا به بحث ويمكن أن نعلق عليه في سورة طه.
ها هم القوم الذين عاينوا آيات الله وشاهدوها يتخلون، ونبيهم بين أظهرهم وخليفته وأخوه وهو نبي كذلك ينهاهم، ولكن النفوس حينما تنحرف فإنها يسهل عليها أن تتلاعب بالحقائق. لقد أخبرهم موسى أنه سيغيب عنهم أربعين ليلة فماذا فعلوا؟ قسموا اليوم قسمين: جعلوا نهاره قسماً وليله قسماً آخر، وبهذه الطريقة استطاعوا أن يتلاعبوا بالعدد، فلما مضى عشرون يوماً قالوا: هذه عشرون ليلة خلت ومثلها عشرون نهاراً فتلك أربعون! إذن لم يأتِ موسى؟
إن هذا الأسلوب الذي بدأه بنو إسرائيل في عهد موسى عليه السلام نجده اليوم يظهر في أشكال متعددة؛ إن التلاعب بالحقائق الدينية هو شر من إنكارها، ولا يقل خطراً عن هذا الإنكار، اتخذ قوم موسى هذا العجل محاولين أن يقنعوا أنفسهم بهذا الخوار الذي يسمعونه، ولكن أي شيء في الخوار حتى لو كان حقيقاً؟ ﴿أَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّهُۥ لَا یُكَلِّمُهُمۡ﴾ إذن كيف يمكن أن يتخذوه إلهاً وقد خص الله موسى بالتكليم؟ ﴿وَلَا یَهۡدِیهِمۡ سَبِیلًاۘ ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُوا۟ ظَـٰلِمِینَ﴾ [الأعراف: ١٤٨]. وصفهم موسى بالجهل حينما طلبوا أن يجعل لهم إلهاً، لكن الله هنا وصفهم بالظلم؛ ولكل من الوصفين ركائزه وآثاره.
﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِیۤ أَیۡدِیهِمۡ﴾، وهو تعبير قرآني رائع جديد، لما اشتد ندمهم وحسرتهم عضوا أيديهم ندماً على ما فرط منهم فأسقطوا أفواههم في هذه الأيدي؛ فكأن الفاه ساقطٌ، واليد مسقوط فيها، ورأوا ما هم فيه وتيقنوا من ضلالهم قالوا وقد خافوا العذاب لا رجوعاً إلى الحق: ﴿قَالُوا۟ لَىِٕن لَّمۡ یَرۡحَمۡنَا رَبُّنَا وَیَغۡفِرۡ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ﴾ [الأعراف: ١٤٩].
عودة موسى
أما موسى عليه السلام، فلما رجع إليهم غضبان أسفاً، شديد الغضب على ما كان منهم وعلى ما فعلوه بعده، أنكَر عليهم أشد الإنكار. لقد وجد موسى من قوم فرعون مَن آمن به ودعا قومه للإيمان به كذلك -كما عرفنا ذلك من قبل- فما بال أولئك؟! أنكر عليهم موسى بقوله: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰۤ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَـٰنَ أَسِفࣰا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِی مِنۢ بَعۡدِیۤ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ﴾ [الأعراف: ١٥٠]. جاء ومعه الألواح التي فيها خيرهم وهديهم.
وتصور لنا الآيات هذا الغضب والتأثر والغيظ والألم الذي لحق بموسى عليه السلام، ألقى الألواح على الأرض، ولعلنا نتصور كيف كان هذا الإلقاء بعنف من الحديث الذي حدثنا القرآن، حيث أخذ موسى رأس أخيه يجره إليه، وهو النبي، وهو الذي طلب من ربه أن يرسل معه أخاه إلى فرعون، ولكنه هنا يأخذ برأسه بعنف وقوة وشدة يلومه ويعنفه على هذا الذي كان.
وهارون هذا الذي شهد له موسى من قبل بما شهد ربما يؤهله لأن يكون وزيراً ونبياً مثله، يقول لأخيه وقد رأى منه ما رأى يتودد إليه ويتحبب ويتلطف ويتقرب بكونه أخاه ابن أمه المؤمنة الصادقة التي تحملت ما تحملت، وهو يحدثه عن صفات أولئك القوم الذين جُبلوا على الاستعباد ولكنهم اليوم وقد آنسوا من أنفسهم حرية ما لابد أن يستضعفوا غيرهم، وتلك علة الضعفاء المستعبدين دائماً، لا يعتدل مزاجهم؛ فهم لا يستمرءون إلا الظلم، فإن لم يجدوا أحداً يظلمهم فليظلموا هم مَن يجدون.
بهذا أوحت كلمات هارون، وهو ما حدثنا عنه القرآن الكريم: ﴿إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِی وَكَادُوا۟ یَقۡتُلُونَنِی﴾ [الأعراف: ١٥٠] فحري بك يا موسى أن لا تشمتهم بي؛ لأنهم يحبون أن يستعينوا بكل منا على الآخر حتى يخلو لهم الميدان، ويتم لهم الأمر، وهكذا الباطل دائماً وأهله يجدون بغيتهم وضالتهم في تمزيق أهل الحق، وتصديع بنيانه وهدم أركانه، يقول هارون لموسى: ﴿فَلَا تُشۡمِتۡ بِیَ ٱلۡأَعۡدَاۤءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِی مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾؛ فأنا لست منهم، وهنا يرقّ موسى ويلين قلبه، وكذلك شأن المؤمنين فضلاً عن أن يكونوا رسلاً؛ فيسأل ربه أن يغفر له ولأخيه: ﴿قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِی وَلِأَخِی﴾ [الأعراف: ١٥١]. وهو لا يذكر أحداً بعد ذلك، وهذا يدلنا على أبعاد نفسيّة منه -عليه السلام- ويدلنا على ما تحمّله ولاقاه منهم، ﴿وَأَدۡخِلۡنَا فِی رَحۡمَتِكَۖ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّ ٰحِمِینَ﴾ [الأعراف: ١٥١].
أما الذين اتخذوا العجل فسينالهم الغضب والذلة في الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر، وتلك سُنة الله لأولئك المفترين على الحق، أما من عملوا السيئات ثم تابوا وآمنوا فإن ربك من بعدها لغفور رحيم.
ويسكت عن موسى الغضب -وهو تعبير قرآني فيه روعة التصوير وعظمة الإبداع- ويأخذ الألواح التي ألقاها بشدة وعنف من قبل ﴿وَفِی نُسۡخَتِهَا هُدࣰى وَرَحۡمَةࣱ﴾، ولكن لمن؟ هنا سر قرآني رائع لم يقُل القرآن: هدى ورحمة لقومك يا موسى -كما وجدنا ذلك التعبير من قبل لبني إسرائيل- بعد أن كان منهم ما كان، ولكن: ﴿لِلَّذِینَ هُمۡ لِرَبِّهِمۡ یَرۡهَبُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٤].
ثم يختار موسى من قومه سبعين رجلاً ليستغفروا الله عما فرط من قومهم1، وتأخذهم الرجفة ويحزن موسى على ذلك: ﴿قَالَ رَبِّ لَوۡ شِئۡتَ أَهۡلَكۡتَهُم مِّن قَبۡلُ وَإِیَّـٰیَۖ﴾، وهو حزن القائد على مَن يمكن أن يكون معه من خيرة قومه ممن يعوّل عليهم، ﴿أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَّاۤ﴾؛ فما هو إلا ابتلاؤك واختبارك يا رب تضلّ به من تشاء وتهدي مَن تشاء ﴿أَنتَ وَلِیُّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۖ وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلۡغَـٰفِرِینَ * وَٱكۡتُبۡ لَنَا فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰ وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ﴾ [الأعراف: 155-156] فإنا تبنا إليك.
ويقول الله: ﴿عَذَابِیۤ أُصِیبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَاۤءُۖ﴾ وهذا مع تحقق أن الله لا يظلم أحداً، أما رحمتي فقد ﴿وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ﴾ [الأعراف: 156]، وهذا تعريض ببني إسرائيل؛ لأن ما فرط منهم من أعمال كان بعيداً كل البعد عن مفهوم التقوى، وفيه كذلك إشارة إلى ما جُبلوا عليه من البخل، وهذا ما أشارت إليه الآيات في غير هذا الموضع.
ثم بينت الآيات بعد ذلك أن هذه الرحمة ستُكتب لأولئك الذين اجتمعت فيهم هذه الصفات، ولمن يجيء بعدهم ﴿ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ ٱلَّذِی یَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِیلِ یَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰۤىِٕثَ وَیَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَـٰلَ ٱلَّتِی كَانَتۡ عَلَیۡهِمۡۚ فَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُوا۟ ٱلنُّورَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ مَعَهُۥۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٧].
ثم وفي هذا السياق بالذات يتوجه الخطاب إلى سيدنا رسول الله ﷺ ليعلن رسالته للناس جميعاً، وهذا له مغزاه في سياق الحديث عن بني إسرائيل وعما لقيه موسى منهم، له دلالته ذات الجوانب المتعددة، فمع ما فيه من عموم رسالة النبي ﷺ فهو تبيين للمسلمين عظم المسؤولية، وثقل الأمانة وضخامة الأمر الذي حملوه، وهو مع هذا وذاك نعي على بني إسرائيل، وتسجيل عليهم عدم إيمانهم بالرسالتين: الرسالة الخاصة بهم، والرسالة العامة؛ رسالة موسى ومحمد عليهما السلام، وهو رابعاً: تسلية للنبي ﷺ لما سيراه من أولئك الذين لم يؤمنوا بنبيهم، فلا يعجبنّ مما يلاقيه منهم.
وبعد هذا الإعلان العام ﴿قُلۡ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُمۡ جَمِیعًا ٱلَّذِی لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ یُحۡیِۦ وَیُمِیتُۖ فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِیِّ ٱلۡأُمِّیِّ ٱلَّذِی یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَـٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٨]، بعد هذا يعود السياق لبني إسرائيل لينصفهم القرآن الكريم من أن بهم أمة ﴿یَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ یَعۡدِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٩] ولكن هؤلاء الذين يهدون بالحق قلة إذا قيسوا مع غيرهم كثرة وجمعاً.
صفات بني إسرائيل بين الأمس واليوم
ثم تبين الآيات الكريمة ما جُبلوا عليه من الحسد والنعرة العرقية الضيقة الممقوتة، هذه النعرة العرقية الضيقة الممقوتة هي الأساس للنظرة المعوجة والسلوك السيئ الذي يظهر من تصرفاتهم، فلقد قطعهم الله اثنتي عشرة أمة أسباطاً أمماً، وهذا هو عدد أولاد يعقوب عليه السلام، ولما كانوا في الصحراء القاحلة الحارة حيث لا ماء ولا ظل ولا شجر، ويستسقي القوم موسى عليه السلام، ويوحي الله إلى موسى حين ذلك أن يضرب بعصاه الحجر فتنبجس منه اثنتا عشرة عيناً يعرف كل أناس عينهم الخاصة بهم، ولا نظن أن هناك سبيلاً للمقارنة بين هؤلاء وبين أولئك الصفوة المختارة الذين وضعوا كل ما منّ الله عليهم في سبيل الله، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
ألم ترَ أن السيف ينقص قدره ** إذا قيل هذا السيف خير من العصا
يعرف كل أناس مشربهم، وكان يمكن أن تكفيهم عين واحدة، ولكنه القرآن يلقي لنا الظلال، ويبين من الإشارات ما هو حري بالوقوف عنده والإمعان فيه، وبعد أن تحل مشكلة الماء تحل المشكلات الأُخر؛ فمن أجل أن لا يؤذيهم الحر يظلل الله عليهم الغمام، وكذلك ينزل عليهم المن والسلوى ليكون عنصراً غذائياً تاماً لهم، تلك الطيبات التي رزقهم الله، ولكن مع ذلك يبين القرآن أنهم لم يشكروا هذه النعم الكثيرة مما كان سبباً في ضياعها: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ﴾ [الأعراف: ١٦٠].
ثم تنتقل بنا الآيات إلى مشهد آخر وهو أنهم طبعوا على المخالفة، لا من حيث الأعمال فحسب، بل من حيث القول كذلك، فقد أمروا أن يدخلوا القرية ليأكلوا منها ويدخلوا الباب سجداً، وأن يقولوا كلمات أمروا بقولها “حِطّةٌ”؛ ولكنهم بدّلوا القول والفعل معاً؛ فيستحقون العذاب بسبب الفسق والظلم.
ثم تتحدث الآيات عن تلاعبهم في دين الله، فلقد كانوا في قرية قريبة من البحر تأتيهم الحيتان يوم السبت شُرّعاً؛ لأنه كان محرماً عليهم الاصطياد يوم السبت، والله الذي خلق فسوى وقدر فهدى جعل السمك يُلهَم هذه الحقيقة وهي عدم اصطياده يوم السبت فكان يأتي السواحل القريبة منهم، وفي بقية أيام الأسبوع ما كان السمك ليقدم على هذه الخطوة، كل ذلك كان ابتلاء من الله ليختبر دينهم، ولكنهم عدوا في السبت وبدأو يصطادون فيه، ولم يؤثر فيهم وعظ الواعظين، فأُخذوا بعذاب بئيس، وأنجى الله الناهين عن السوء؛ ولكنهم حينما تمادوا في غيّهم قال الله لهم: ﴿كُونُوا۟ قِرَدَةً خَـٰسِـِٔینَ﴾ [الأعراف: ١٦٦]، ومن أجل هذا تكفل سبحانه أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب.
أما ما لهم اليوم من دولة، فإن ذلك إنما هو ابتلاء للمسلمين؛ ليدركوا سُنة الله في عقابهم حينما يعرضون عن الحق، ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِیعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾ [الأعراف: ١٦٧]. وقطّعهم في الأرض أمماً، كل هذا لأنهم أخلدوا إلى الأرض، وأخذوا العرَض الأدنى مدعين أنه سيُغفر لهم، زاعمين أنهم شعب الله المختار، أما الذين يمسّكون بالكتاب ويقيمون الصلاة فأولئك هم المصلحون الذين لن يضيع الله أجرهم.
وأخيراً تذكر السورة الكريمة ما تختم به الحديث عنهم، وهو أن تدينهم لم يكن مبدأ تتفاعل معه قلوبهم، وإنما كان خوفاً، وحينما يكون الالتزام بالمبدأ خوفاً من العقاب فقط فإنه سرعان ما يتحول إلى مخالفات، وهذا ما نراه من نظرة الكثيرين إلى القوانين الوضعية، فلقد نتق الله الجبل فوقهم -أي دفعه- كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم، وقيل لهم إن خرجتم عن الحق فسيقع هذا الجبل عليكم، فكان تمسكهم بالحق نتيجة لهذا الخوف، ومثل هذا التدين لا يغني عن صاحبه شيئاً.
ـــــــــــــــــــــ
* أ.د فضل حسن عباس، القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته، ط: دار الفرقان/عَمّان، ط1، 1407هـ، ص274-282.
1 هذا ما يراه بعض المفسرين، ويرى بعضهم أن هذا كان قبل اتخاذ العجل حينما جعل الله الجبل دكاً وخرّ موسى صعِقاً.