
من القيد إلى الحرية كيف كانت الهجرة تحريراً للإنسان
فبراير 7, 2024
طلائع الهجرة
فبراير 7, 2024
لم تزل حركة المؤمنين عبر تاريخهم، سائرة في ظل الوعود الربانية. سواء أوصلت تلك الوعود للمؤمنين من خلال الكلمات الإلهية، أو الكلمات النبوية، أو الرؤى المعصومة من الأنبياء، أو الرؤى المبشرة من المؤمنين.
ما الحكمة من الوعد؟
إن الوعد يبث اليقين بالنهاية، فيحفز النفس البشرية على العمل، لأن للعمل نتيجته المرجوة، ويعقبه الجزاء، ويعينها على الصبر في مواجهة مشاق الطريق، لأن للصبر مدته المقضية، وتعقبه الراحة. إذ أنه لا عمل بلا أمل، ولا صبر بلا غاية. و ليس مثل الوعد الرباني يحيى آمال نفوس البشر، ويريهم غايتهم يقينا في القلوب. ولأجل هذه الحكمة العظيمة، والمصلحة المرتبطة بطبيعة النفس البشرية وباحتياجاتها، أوصل الله – تعالى – وعوده للمؤمنين.
هل يتأخر تحقق الوعد؟
لقد حكى الله – عز وجل – لنا عن وعده الكريم لرسله وللمؤمنين {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر 51]. وحكى لنا مع ذلك أنهم قد لا يضبطون موعد تحقق الوعد، وربما يتأخر ذلك التحقق عما كانوا ينتظرون {حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّه} [البقرة 214] مع أن تحققه يقين، ووقوعه قريب {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة 214].
مثال يحل الإشكال:
في العام السادس من الهجرة النبوية الشريفة، رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في منامه أنه يطوف بالبيت الحرام*، ورؤيا الأنبياء وحي معصوم، وحق لا شك فيه. فبشر – صلى الله عليه وسلم – أصحابه، وحثهم على الخروج معه للعمرة، فخرج – صلي الله عليه وسلم – ومعه نحو ألف وخمسمائة من الصحابة – رضي الله عنهم -.
ثم كان ثمرة ذلك الخروج للعمرة صلح الحديبية بين المسلمين ومشركي مكة، و الذي سماه الله فتحا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح 1] ففتحت كثير من القلوب لدعوة الإسلام، و تضاعف أنصاره في الأرض مرات ومرات، و فتحت خيبر اليهود، والتي كانت وكرا للمؤامرات، ثم توج ذلك بفتح مكة في العام الثامن من الهجرة ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
أما وعد العمرة والذي كان المسلمون يتوقون لتحقيقه في العام السادس من الهجرة، والذي حصل ببركة السعي لتحقيقه لما ذكرنا، فإنه لم يتحقق في ذلك العام.
لقد كان من شروط صلح الحديبية أن يرجع الرسول – صلى الله عليه وسلم – و أصحابه، فلا يعتمرون في ذلك العام. ثم يعودون في العام التالي ليعتمروا. وهكذا تأخر تحقق وعد العمرة إلى العام السابع من الهجرة، ثم تحقق في عمرة القضاء. [سيرة ابن هشام 3/320] وصحيح البخاري [حديث 2542].
أين المشكلة؟
إن المشكلة ليست أبدا في الوعد الرباني، ولا في تحققه. لكن المشكلة دائما ما تكون في عجلة الإنسان، وهي من لوازم النقص البشري {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الانبياء 37].
فعندما يتصور الإنسان موعدا لتحقق الوعد، باجتهاد في فهمه بحسب علمه، و بما تشتاق إليه نفسه، ثم لا يتحقق الوعد في هذا الموعد، فإن الإنسان قد يصدم و يتألم . و لهذا صدم الصحابة -رضى الله عنهم – لأنهم لم يكونوا يتصورون بعد استبشارهم برؤيا النبي – صلى الله عليه وسلم – و بعد خروجهم للعمرة معه، ألا يعتمروا في ذلك العام. حتى دار ما دار بين أبي بكر وعمر – رضى الله عنهما – و هما خير هذه الأمة بعد نبيها – صلى الله عليه وسلم – حين قال الفاروق: ألم يخبرنا أنا نأتي البيت، ونطوف به؟ فأجابه الصديق: أقال لك: عامك هذا؟ فإنك آتيه ومطوف به. وقد كان الأمر كذلك.
فلم يكن توقع موعد التحقق يقيناً، كما كان نفس تحقق الوعد يقيناً. والواقع الحقيقي لا يعارض الموعد الحقيقي، لكنه قد يعارض فهما اجتهادياً وشوقاً بشرياً. لتتحقق بهذا الأجل في الحقيقة، وبهذا التأخر في حس المؤمنين، حكم أخرى عظيمة، قد توازي حكمة الوعد، أو قد تزيد عليها.
ما الحكمة من تأخر تحقق الوعد؟
إن لتأخر تحقق وعد الله بالنصر – خاصة – حِكماً عامة لا تخطئها عين البصيرة، كتنقية الصدور من أطماع الدنيا، وتصفية الصفوف من غير الأصفياء، مصداقاً لقول رب العالمين – عز و جل -: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران 140 -141]، {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران 179].
ثم إن لتأخر تحقق الوعود الربانية التفصيلية، حكما أخرى كثيرة تفصيلية، كما كان في وعد العمرة الذي حكى الله تحققه: {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح 27] وحكى طرفا من عظيم حكمته وفضله في تأخيره: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح 27].
وهكذا في كل تأخر في تحقق وعد رباني.. يتألم ناس و يصدمون، وربما يتشكك ناس أو ييأسون، والله – تعالى – يعلم ما لا يعلمون. فيجري – عز وجل – قدره بالوعد وبالتأخير جميعاً لتتحقق الحكمة البالغة وليتحقق الوعد في موعده الحقيقي. بعد أن يتحقق بالتأخير ما لم يكن ليتحقق لولاه مما قد يكون أعظم من تحقق الوعد نفسه، ومما قد يكون هو أفضل طريق لتحقق الوعد، وإن خفي أكثر ذلك على أكثر الناس، لنقص العلم، و لعجلة الطبع. لكن الله لا يعجل لعجلة أحدكم وهو – سبحانه – {لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف 100].
سر الجواب
إن لكل وعد رباني حكمة، فلا تضيعوا ثمرته، ولا تسمحوا لوقت ما طال أو قصر قبل تحقق الوعد أن يشوش عليها في قلوبكم. وإن لكل أجل قبل تحقق الوعد – وإن كان تأخيراً لذلك التحقق في حس المؤمنين حكم أخرى عظيمة، فلا تغفلوا عنها، بل تلمسوها وإن لم تحيطوا بها علماً، إذ يبقى الغيب من أسرار الله في خلقه. وإن في بعض حكم تظهر في الطريق، لمعونة وتثبيت للمؤمنين، كما إن في بعض وعود أخرى جزئية تتحقق في الطريق، لزيادة في اليقين، و لطف بالعباد المساكين {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة 143].
————–
الشيخ أشرف عبد المنعم، مقالك الوعد والأجل لماذا يتأخر تحقق الوعد الرباني، 13 يونيو 2019م، موقع “الجبهة السلفية” الإلكتروني.