
يا أمنا.. ويا زوجتي
مايو 17, 2024
فلسطين … روح الأمة الإسلامية
مايو 17, 2024ولم تضِع الفرصة، حيث لا يزال طريق الهدى والصلاح سهل المسلك؛ فمفتاحه كتاب الله تعالى الذي هو بأيدينا على حكمه كيوم نزل على نبي الإسلام، بحروفه، وكلماته، وآياته، وسوره، ومصباحه سُنة رسول الله ﷺ، وخارطته عمل الخلفاء الراشدين، وليس على المسلمين إلا سلوكه، ومتى سلكوه وصلوا إلى مجدهم الخالد، وعزهم التالد، فالجادة أمامنا وكل مَن سار على الدرب وصل، ولا أخرنا عن التقدم إلا تقاعدنا عن طلب السعادة من طريقها الذي سلكه سلفنا الصالح.
مرض أصاب المسلمين
وهنا أذكر المرض الذي أصاب المسلمين في أرواحهم ونفوسهم، وأوجب التفكك والتخاذل والانحلال فيما بينهم، وهذا المرض على قسمين:
- القسم الأول: هو البدع والضلال اللذين دخلا على المسلمين في عقائدهم الدينية؛ ففرّقتهم شر تفرق، من معتزلة، وخوارج، ورافضة وما تفرع عن ذلك حتى صار الدين عبارة عن صفق، ورقص، وزمر، وطبل، ومغنى، وغير ذلك كما هو معلوم ومفهوم عند من نوّر الله بصيرته من المسلمين، فوجّه ذلك وجهة العامة إلى غير سبيل المهتدين.
- والقسم الثاني: تمزُّق المسلمين باسم الوطنية الجوفاء والعصبية الجنسية، اللذين هما من اختراعات الاستعمار، وابتكارات المستعمرين على قاعدة (فرّق تسُد).
فباسم الوطنية تفرق الإسلام شيعاً وقبائل، وباسم الوطنية أصبح المسلم عدو المسلم، وباسم الوطنية صار الجار المسلم لا يغيث أخاه المسلم المجاور له، لأن الوطنية فرّقت بينهم وأصبحت الحيلولة الكبرى دون ارتباطهم ببعض.
ولأضرب لك مثلاً؛ فهذا الفلسطيني يصرخ صرخاته المتتابعة وينادي بأعلى صوته باسم الوطنية فلم يجبه أخوه المسلم؛ لأنه يعدّ نفسه أجنبياً عنه لأنه لم يكن فلسطينياً. وهذه سوريا تنادي باسم الوطنية السورية فلا يلبي نداءها الأفغاني، ولا الإيراني، ولا حتى الفلسطيني أو المصري. وهذه مصر تصرخ صرخاتها العالية فلا يستطيع الحبشي المسلم، ولا الصومالي، بل ولا المغربي أن يغيثها.
وقِس على ذلك عموم البلاد الإسلامية التي تمزّقت شر ممزق، فلا مغيث من المسلمين لبعضهم البعض، ولا مجير، ولا مدافع، ولا معين.
فكل ذلك سببه الدعوة الوطنية، والذي يوجب الأسف أن نصراء الوطنية والذين أبحّوا أصواتهم من الصراخ بالوطنية لم يفهموا حتى الآن عدم المنفعة من النداء بالوطنية ولم يفكروا في علاج غير الوطنية يتخلصون به من البلاء الذي وقعوا فيه. وربما يسخر المتهوسون من قولي هذا ويظنونه حديث خرافة أو جهلاً مركباً، وسبب السخرية منهم لقولي هذا هو أن أستاذهم في المدرسة لقّنهم التحيز للوطنية، فشبّوا على ذلك وشابوا، وتصلبت أدمغتهم وأذهانهم على النداء بها دون أن ينظروا أو يفكروا في الثمرة التي جنوها منها طيلة هذه المدة، وكأنهم فرحون بهذه الشنشنة التي لا طائل تحتها، ولا فائدة منها.
ولو فكروا قليلاً وتبصّروا في تاريخ حياة سيد الأمم من عرب وعجم لعلموا أن العلاج الوحيد هو الانضمام إلى الجامعة الإسلامية والنداء باسمها، وأن ذلك أقوى وأعظم وأنفع من النداء بالوطنية؛ حيث النداء باسم الجامعة الإسلامية إنما ينادي أربعمائة مليون من المسلمين، فيهم القوي، والغني، والمفكر، والعظيم، وصاحب الشوكة والبأس، وغير ذلك؛ كما قال النبي ﷺ: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً”. ولم يقُل: الوطني للوطني يشد بعضه بعضاً!
هل حب الوطن من الإيمان؟
وربما يعترض معترض على قولي هذا بأن النبي ﷺ قال: “حب الوطن من الإيمان”. فهذا صحيح وقولٌ حق، فحب الوطن لا شك فيه وهو مقدس، فالواجب يقضي على كل إنسان أن يفتدي الوطن بنفسه، وماله، وولده، وكل عزيز لديه، غير أن هذا لا يتعارض مع نظريتنا، ولا يتخالف معها، إذ أن حب الوطن بحث، والنداء بالوطنية بحث آخر.
فحب الوطن يدعو الإنسان إلى عمارة الوطن وإصلاحه والمدافعة عنه، وردّ كل معتدٍ عليه، والنداء بالوطنية قطع تلك القطعة من الجسم الإسلامي، وفصلها عن الجامعة الإسلامية، وجعلها أكلة سائغة للعدو يبتلعها متى شاء، وكيف شاء، حيث إن الجامعة الإسلامية هي الحصن الحصين لعموم مواطن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وهي وطن عموم المسلمين.
وما جاء الإسلام إلا ليجمع الناس على كلمة واحدة، وهي: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ومبدأ واحد وهو: (إعلاء كلمة الله تعالى)، وطريقة واحدة وهي: (الجامعة الإسلامية)، أو (الرابطة الإسلامية)، حتى يكون المسلمون كتلة واحدة، وجسمها واحداً، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها بالألم والضجر، وأخذ يفكر في إصلاح ذلك العضو، بماله، ونفسه، وأهله، وولده، وكل عزيز له.
وقد أبديت هذه النظرية بين كثير من المفكرين، وناظرني بعضهم في عدم تطبيقها وقال: لو قلت وأنا في أحد أمصار المسلمين المستعمرة: يا أيها العالم الإسلامي أغثنا فهل يتسنى لأحد منهم أن يلبي دعوتنا، أو يجيب نداءنا، فيغيثنا، أو يجيرنا، أو ينقذنا من مصابنا؟
فأجبته على الفور: أن قدوة المسلمين في عموم أعمالهم هو رسول الله ﷺ، وهو المرشد الوحيد لعموم العالم في عقائدهم، وعباداتهم، وأعمالهم، وسياستهم، واجتماعهم، فإنه لما بُعث ما قال: “يا أيها الناس كونوا مسلمين” فصاروا في الحال مسلمين. بل علّم، وأرشد، وناظر، وصبر، وربّى أناساً من أصحابه حتى صاروا أهلاً للعمل، فمجرد النداء لا يجدي نفعاً، ولا يأتي بفائدة في هذا العصر الحاضر الذي نحن فيه، بل يكون صرخة في وادٍ أجدب، أقحل، خالٍ من السكان. لأن الآذان لم تألف سماع هذا النداء حتى أنها بمجرد سماعها صوت المنادي تلبي نداءه وتجيب دعوته -حيث إن المسلمين أصبحوا بعد تقاعدهم أزماناً طويلة عن تتبع آثار نبيهم وتعاليم دينهم- صُمّ الآذان عن سماع هذا النداء، بُكم الأفواه عن إجابة المنادي.
بل ربما سخروا من داعي الله ورموه بالجنون! لأنه أهل العصر صاروا يرون الرجل المتمسك بدينه متعصباً، والمتتبع لآثار نبيه متأخراً أو رجعياً، وهذه الألقاب قد بثها الملحدون في أرواح الناشئة الإسلامية بواسطة أساتذتهم في المدارس، وخطبائهم في الأندية والمجتمعات، فكيف بعد هذا كله يُرتجى منهم إجابة الداعي إلى الجامعة الإسلامية، وهم متمزقون شر ممزق، في رابطتهم الاجتماعية وعقائدهم الدينية وسياستهم الإسلامية؟!
وهنا يحق لنا أن نتساءل عن كيفية الوصول إلى ربط أواصر الإسلام، وجمع كلمة المسلمين، بعد هذا التفكك الشنيع، والتخاذل المميت، والتمزق المريع؟
فأقول: لا بد وأن نحطم أولاً هذه القيود التي قيدنا بها أساتذة التبشير، والاستعمار، والإلحاد، في مدارسنا، ونرجع إلى الوراء ألف وثلاثمائة وخمسين سنة، نرجع إلى تعاليم المؤسس لهذه الجامعة الإسلامية، وهو رسول الله ﷺ، ثم نتبصر في أعمال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك العصر السعيد؛ فنتتبع آثار النبي ﷺ في الأخلاق والتشريع، والاجتماع، والسياسة، والإدارة، ونسير عليها سيراً حسناً منظماً.
ثم ننظر كيف كوّن رسول الله ﷺ من فلذة أكباد المشركين القرشيين بمكة المكرمة بعد صرف جهود عظيمة مدة خمس سنين كتلة مشكلة من مائة شخص منهم الرجل والمرأة، والشيخ والشاب، والقوي والضعيف، والسيد والمولى، وكيف صبرت تلك الكتلة على أذى المشركين، الذين هم الآباء والإخوة لهذه الكتلة، وكيف ثابرت على التقدم في أعمالها رغماً عن كل ما قام به المشركون من تعذيبهم وإرهاقهم على الإسلام؛ فكان الرجل من المشركين يعذب ابنه وأخاه الصغير لأجل أن يرتد عن دين الإسلام ولم تأخذه الشفقة الأبوية أو الرحمة العائلية… وما قصة أبي جندل مع أبيه سهيل بن عمرو ببعيد. ولم يؤثر ذلك فيهم بل قوّى ثباتهم.
ثم تحملوا مشاق الهجرة إلى الحبشة والتشتت في الآفاق، حتى صارت هجرة النبي ﷺ مع أصحابه إلى المدينة، فآخَى بين المهاجرين والأنصار، وبين الشريف والوضيع، والسيد والمولى، والغني والفقير، وقال: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوي». كما قال تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ﴾ [الحجرات: ١٣]. فجعل الله سبحانه وتعالى التقوى أساس الاجتماع.
وعلى هذا الأساس بُني صرح الجامعة الإسلامية، وبه صار الإسلام جسماً واحداً، وكان المسلمون روحاً واحدة، وبموجب ذلك قال الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو أن سخلة بوادي الفرات أخذها الذئب لَسُئل عنها عمر”. معناه أن أمير المؤمنين -الذي هو رأس هذا الجسد الإسلامي- مسؤول عن (السخلة) التي هي ولد الغنم ساعة وضعه إذا أكلها الذئب! فإذا كان أمير المؤمنين مسؤولاً عن سخلة لا قيمة لها فما بالك بمسؤوليته عن الممالك الإسلامية؟
وإني أنتقل بالقارئ الكريم إلى العصر العباسي وأذكره بنداء الأسيرة المسلمة في بلاد الروم حين قالت: “وامعتصماه” فأجابها الخليفة المعتصم العباسي من فوق عرشه ببغداد: “لبيك، لبيك، أتاك المعتصم”. فخرج من بغداد بجيش جرار وغزا الروم وخلص الأسيرة المسلمة.
وأذكّره بالحضارة العباسية في الشرق، والحضارة الأموية في الغرب، وأذكره بالساعة التي أرسلها أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى ملك فرنسا، فلما وصلت إليه ظن أهل أوربا في ذلك العصر أن فيها عفاريت من الجان يحركونها!
فهل قال لكم الدين الإسلامي تقاعدوا عن العمل والاختراع والاكتشاف، واتركوا ذلك لأوروبا وغيرها من الأمم العاملة اليوم، وكونوا عالة عليها حتى في سم الخياط؟ أم كنتم تقاعدتم عن ذلك من تلقاء أنفسكم جبناً وكسلاً؟ أم أصغيتم إلى قول الملحدين: إن الدين الإسلامي هو الذي أقعدكم عن العمل؟ فهذا الذي دعاني إلى أن أرجع بالمسلمين إلى الوراء أكثر من ألف عام، أرجع بهم إلى العصور التي كان فيها الإسلام سيد العالم، وصاحب السيطرة على معظم الكرة الأرضية، وكان بيده نظام العالم والأمم.
أما طريق الوصول إلى ذلك المجد وربط أواصر العالم الإسلامي الذي أصبح اليوم يربو على أربعمائة مليون من النفوس، ويقطن من رأس الرجا الصالح بأقصى أفريقيا الجنوبية، إلى أقصاها شمالاً، ومن المحيط الأتلانتيكي غرباً إلى أقصى الصين شرقاً، ومن جزر الأقيانوس جنوباً بما فيها جزر جاوا، والهند، والإيران، والأفغان، وتركستان، وبخارى، والقفقاص، إلى تخوم روسيا شمالاً، وأواسط آسيا، وأطراف أوروبا، وغير ذلك من المعمورة.
فهنا طريقان..
- أحدهما: أن العالم الإسلامي يختار منه رجالاً أشداء مخلصين في إسلامهم وجامعتهم الإسلامية، غيورين على أبناء جلدتهم من المسلمين من عموم أجناس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فيضعون فريقاً منهم في عموم المدارس بعد أن تُخلّى من أساتذتها المتشبعين بالإلحاد الذين هم الداء العضال على الناشئة الإسلامية، فيتولوا تدريس أبناء المسلمين على قاعدة الإيمان الصحيح، وعلى تغذية أرواحهم بالجامعة الإسلامية، والإخاء الصادق، ومكارم الأخلاق.
- والطريق الثاني: تشكيل جمعيات من أولي العزم يلقون محاضرات في الأندية، والمجتمعات، ويسيرون إلى الأمام بقدم ثابتة، وقلب صلد، ورباطة جأش، فلا يهزهم التهديد، ولا يصدهم الوعد والوعيد، يتسلحون بالصبر والثبات، كما صبر رسول الله ﷺ على أنواع البلاء وأشد الإيذاء، فإذا ثابروا على ذلك بضع سنين فلا شك في نجاحهم؛ ولا يمضي على المسلمين برهة من الزمن إلا وقد صار الإسلام قوي الجانب، عظيم الهيبة، مصاناً في وطنه، وأهله، وماله.
وهذا الطريق هو الطريق السلمي، حيث لم يكن الإسلام بالفتاك أو الأشر، كما يقول أعداؤه، بل الإسلام هو المرشد الحكيم إلى سلوك سبيل الهدى والرشاد، ومُرقّي العالم والأمم، والرؤوف الرحيم بالفقراء والضعفاء والمساكين، ولم يستعمل الشدة إلا للمتمردين على الإنسانية والجانين على مكارم الأخلاق، والتاريخ شاهد على ذلك، والله الهادي إلى صراطه المستقيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* مؤرخ الحرمين، ومن أبرز شخصيات القرن الماضي، وعضو مجلس الشورى السعودي. المصدر: حسين عبد الله باسلامة، حياة سيد العرب، 3/197 وما بعدها.