
ماذا يريدون من كتائب القسام
يونيو 13, 2025
الورقة الأخيرة: أحلامنا الخالدة التي لن تموت
يونيو 13, 2025د. وليد بن عبد الله الهويريني
رحمه الله
ما جرى به القلم في هذا الكتاب، والذي شرعت خلاله في تقديم قراءة مختلفة لأبعاد الثورات العربية؛ لا يستهدف -حال الاقتناع بها أو بشيء منها- أن يسيطر على المرء الشعور بالإحباط وسوداوية الرؤية، بل المقصود تحفيز العقول والأذهان للمزيد من التأمل والرصد والوعي بحقيقة ما يجري حولنا من أحداث، في عصر أصبحت معظم منابر الإعلام -التي تصوغ مفاهيم الناس- في أيد غير أمينة على هُوية الأمة الإسلامية وثقافتها.
كما أن في هذه الأحداث مكاسب جمة وفتوحات عظيمة، فالغرب لم يشرع في مشروع الشرق الأوسط الكبير أو في غيره من المخططات، إلا لشعوره بأن هذه الأمة الإسلامية -على الرغم من كل هذا التسلط والعدوان وإغراقها بكل أدوات التغريب والإفساد- لا تزال أبيّة على الذوبان، يقول المفكر الأمريكي الاستراتيجي (فوكوياما) المبشر بسيادة الحضارة الغربية: “الإسلام هو الحضارة الرئيسية الوحيدة في العالم التي يمكن القول بأن لديها بعض المشاكل الأساسية مع الحداثة”.
ونحن معاشر المسلمين نؤمن إيماناً جازماً بأن هذا الدين وهذه الحضارة يستحيل فناؤهما؛ لأننا نملك وعداً إلهياً ربانياً بذلك ﴿هُوَ الّذي أرسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ علَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣٣]، ويقول ﷺ: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”.
لكننا في الوقت نفسه، ندرك أن الله وضع سنناً كونية وأسباباً شرعية، من حصّلها فاز بالنصر والتمكين، وبقدر تحصيلها تُؤتَى هذه الأمة نصر وتمكين، وبقدر ما تفرط فيها تُبتلَى وتُختبر، ونحن ليس لدينا ضمان من الله تعالى ألا تتحول المجتمعات الإسلامية من اليقظة الإسلامية في العلم والدعوة والسلوك إلى مفاهيم وسلوكيات محصورة في فئة قليلة من الناس.
قبل ٥٠ عاماً فقط كنت تدخل للجامعات العربية في مصر والشام والعراق، فيندر أن تجد فتاة محجبة، وكنت تدخل إلى الجوامع، فقلما تبصر شاباً حافظاً للقرآن يؤم الناس، وكانت مظاهر التدين والالتزام بالشعائر في انحسار كبير، ثم منّ الله على هذه الأمة بصحوة إسلامية عارمة، شعت بأنوارها آفاق الأرض، فانتشر الحجاب حتى أصبح مظهراً سائداً، وأقبلت الأجيال على حفظ كتاب ربها، وطلب العلوم الشرعية والعمل الدعوي والإغاثي، وكما كان لهذه الصحوة الإسلامية منجزاتها ومكاسبها، فقد كان لها عثراتها وانتكاساتها، ومع ذلك كله فعندما تعقد مقارنة خاطفة، طبقاً للمعايير الشرعية بين أجيال الصحوة الإسلامية والأجيال التي سبقتها، والتي انتشر فيها الأفكار القومية والماركسية والبعثية؛ فإنك تدرك الفرق الهائل والبون الشاسع بين الجيلين، ولكن في الوقت نفسه هذا لا ينسينا أن أجيال الصحوة المباركة كانت نتاجاً لجيل مؤمن مجاهد في عهود سطوة العلمانية العربية، كان أحدهم يقبض على دينه كالقابض على الجمر، لا تزيده سخرية الهازلين ولا احتقار المتكبرين إلا مضاء وتضحية وجهاداً وثباتاً .
إن ما سبق الحديث عنه لا يعني أن الواقع سلبي كله! وأن النفوس مدْبرة عن الخير إلى الشر، لكنه محاولة للرصد والتحليل المجرّد، بيد أنَّ الواثق بمراد الله ووعده لا تثني عزيمته بعض التغيرات الحاصلة في الواقع، ولا تؤثر فيه حمى التراجعات ولو كانت من ذوي السابقة والفضل والديانة، ما لم تكن متطابقة مع حكم الشريعة ودائرة في فلكها، بل ينبغي عليه أن يستثمر هذه الأحداث بتجريد العبودية لله، فهو طواف بمنازل العبودية في حال الرخاء والدعة، وفي حال البلاء والشدة، فهو يتعبد اللهَ بالشكر على النعمة والخير والتمكين في الأرض، ويتعبده كذلك بالثبات في حال الفتن وسلب مقومات التمكين، وبروز غيرهم من مناوئي الدعوة وخصومها أو المبدلين لها، ويعلم أن سبب هذا بذنب وتقصير وتفريط وبما كسبته أيدينا، ويتعبد الله بالتمسك بدينه والصبر على المحن وشهوة التغيير وشرف المناصب، وأن يعلم أن حال المؤمن خير كله في سرائه وضرائه، فهو دائر بين منزلتي الشكر والصبر، وهي من منازل السائرين إلى الحق، ومن مقامات الصالحين العارفين بالله.
والمؤمن مبتلى في طريقة سيره إلى الله، وقد استدل هرقل على صحة نبوة النبي ﷺ بأن الحرب سجال بينه وبين قومه يدال عليه مرة ويدال عليهم أخرى، فإذا كانت هذه حال الأنبياء في مرحلة الجهاد فينهزمون وينكسر جيشهم، ومنهم من قد يُقتل هو ومَن معه من أصحابه وحواريه وخلق كثير، وهم أكمل البشر وأصحاب اليقين التام وسادات الأولياء، فيقع عليهم البلاء ولا يمكّن لهم أحياناً في الأرض على عدوهم؛ فكيف بحال غيرهم من الناس ممن هم أقل شأناً وأكثر ضعفاً وفي حالة الرخاء والسلم؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على حديث هرقل: “هذا من علامات الرسل فإن سُنة الله في الأنبياء والمؤمنين أنه يبتليهم بالسراء والضراء لينالوا درجة الشكر والصبر.. فمن الحِكم تمييز المؤمن عن غيره، فإنهم إذا كانوا دائماً منصورين لم يظهر لهم وليّهم وعدوهم، إذ الجميع يظهرون الموالاة، فإذا غُلبوا ظهر عدوهم. ومن ذلك أن يمحص الله الذين آمنوا فيخلّصهم من الذنوب، فإنهم إذا انتصروا دائماً حصل للنفوس من الطغيان وضعف الإيمان ما يوجب لها العقوبة والهوان.. وقد شهدنا أن العسكر إذا انكسر خشع للهِ وذلّ وتاب إلى الله من الذنوب وطلب النصر من الله وبرئ من حوله وقوته متوكلاً على الله.. وشواهد هذا الأصل كثيرة.. وهو أمر يجده الناس بقلوبهم ويخشونه ويعرفونه من أنفسهم ومن غيرهم، وهو من المعارف الضرورية الحاصلة بالتجربة لمن جربها والأخبار المتواترة لمن سمعها.. ثم ذكر حكمة أخرى فقال سبحانه: ﴿ويمحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤١]، وذلك أن الله سبحانه إنما يعاقب الناس بأعمالهم، والكافر إذا كانت له حسنات أطعمه الله بحسناته في الدنيا، فإذا لم تبقَ له حسنة عاقبه بكفره، والكفّار إذا أديلوا يحصل لهم من الطغيان والعدوان وشدة الكفر والتكذيب ما يستحقون به المحق، ففي إدالتهم ما يمحقهم الله به”.
ثمة مكاسب كبرى -لا تخطئها عين المسلم- من هذه الأحداث، ومن ذلك: جريان سُنة الله تبارك وتعالى في الطغاة والمستبدين، بعد عقود من الظلم والاستبداد وشعور عامة المصلحين من دعاة ومفكرين وعلماء بانسداد الأفق وحتمية التعايش مع الاستبداد، حتى بدأت تنشأ توجهات فكرية وشرعية تؤصّل وتقعّد لتجميل وجه الاستبداد القبيح والتعايش معه، وحصر سبل الحياة في مضايقه وتحت رماح عساكره، فجاءت هذه الأحداث لتسقط ورقة التوت عن هذه الطبقة الطفيلية التي ظلت لعقود تقتات من فتات الاستبداد، وتسبغ المشروعية الدينية والقانونية والأخلاقية على حراسه وسدنته، وفي هذا من المكاسب الشرعية والأخلاقية الكثير .
كما كان للثورة السورية قصب السبق في تعرية العدو الصفوي وفضحه، والذي ظلت زرافات من الشيوخ والمفكرين الإسلاميين لعقود تدافع عنه وتثني على ثورته الطائفية، وتزعم صدق مزاعمه في الدفاع عن قضايا الأمة، وتصف المحذرين منه بالهوس العقائدي أو بضيق الأفق أو بتفريق كلمة المسلمين، فيشاء الله ويكتب أن يتجلى الوجه الطائفي البغيض مع الاحتلال الغربي في بغداد الرشيد، ثم تكتمل سلسلة فظاعاته ومجازره على أرض الشام المباركة .
مضى على الساحة الإسلامية حين من الدهر كان الثناء على نظام الملالي وأذرعته الطائفية علامة على حنكة الرجل السياسية، وشهادة على منهجيته الوسطية، وبرهاناً على عدائه للصهيونية، ثم تكشّف القناع الطائفي، فأعلن بعض هؤلاء الفضلاء رجوعهم عما قالوه، وهذا من محامدهم ومآثرهم التي يُشكرون عليها، ولكن هذا لا يمنع من القول اليوم بكل صراحة وأريحية:
نجح نظام الملالي في إيران وأذرعته الطائفية في لبنان والعراق وغيرها أن يخدع شرائح من الإسلاميين لأكثر من ثلاثين عاماً، كما نجحوا في توظيف عدد لا بأس به من قيادات العمل الإسلامي من حيث لم يشعروا في تقديم النظام الإيراني والنظام السوري للشعوب الإسلامية بوصفهما نظامين ممانعين وقوى مصطفة مع الأمة الإسلامية، بعيداً عن الأهداف الطائفية، والمقصود من هذه الإشارة التذكير بقدرة أعداء الأمة على مختلف عقائدهم ومشاريعهم على إحداث اختراق في وعي بعض النخب الإسلامية، مهما ظهر من حال هذه النخب من كثرة اطلاعها وممارساتها للعمل السياسي، فهي ليست عصيّة على الخداع والمكر الغربي الذي يُحاك لهذه الأمة ليل نهار، ومن هنا فالمأمول أن يفتح الإسلاميون صدورهم وآفاقهم لتبادل وجهات النظر المختلفة، وكثرة المراجعة والتدقيق في التحديات المحدقة بالأمة، في ظل تداعيات الثورات وما نجم عنها من زوال نظم وتبدل تحالفات وفوضى أمنية وتحولات سياسية وفكرية واجتماعية .
إن انفتاح مناخ الحريات الذي أعقب سقوط بعض النظم خلال الثورات العربية؛ يستلزم استثمار الدعاة والمفكرين والمصلحين على اختلاف مواهبهم وتوجهاتهم لهذا المناخ في مضاعفة الجهود للدعوة والإصلاح، ولن يجد المصلحون أكثر بركة وأعظم أثراً وأرسخ ركناً من دعوة الناس إلى الإسلام بقيمه وشرائعه وأحكامه، فكلما كان المجتمع المسلم أكثر تديناً واستقامة ورشداً؛ كان أكثر قوة وإقداماً في مواطن النزال والإقدام، وكان أشد تآلفاً وتماسكاً بين أفراده عند الاضطراب والاختلال، وكلما ضعف التدين وخفتت أنواره وتراجعت آثاره، كلما نجح الأعداء في اختراق المجتمع المسلم والتلاعب بمكوناته وتدمير مكتسباته.
إن المؤمن المستيقِن بوعد ربه جل وعلا لا يخشى من زوال هذا الدين، فالدين محفوظ بحفظ الله له، ولكن الخشية على جيل اليوم الذي تضغط عليه القيم الغربية الليبرالية لمسخ هُويته ودينه، مستخدماً العدو في ذلك أسلحته كافة المادية والمعنوية، ومستثمراً احتياجاته الأساسية في الجنس والغذاء والأمان لحقنها بأجندته التغريبية، ولئن كانت العلمانية العارية والشيوعية الملحدة هي الذخيرة الفكرية التي نهشت أجيال الخمسينيات والستينيات من الشرق والغرب، فإن الذخيرة الفكرية لحرب الأفكار اليوم بين الحضارة الغربية والعالم الإسلامي يقوم على إعدادها محسوبون على الحالة الإسلامية أو متصالحون معها في الظاهر، والمحصلة هو نشر القيم الغربية الليبرالية بغطاء إسلامي شفاف لتقبله الشعوب المسلمة، وهؤلاء ليسوا سوى أداة مرحلية لهذه الحقبة، سيتم التخلص منهم حال استنفاد دورهم، أسوة بحلفاء الغرب السابقين من الطغاة والمستبدين، الذين أقر الله عيون المستضعفين ببداية انفراط عقدهم ﴿فما بكت عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ [الدخان: ٢٩ ] .
وليد الهويريني – الأحساء
صفر ١٤٣٤هـ