
الورقة الأخيرة.. لئلا تُسرق أحلامنا
يونيو 13, 2025
مفهوم السيادة بين الشريعة والأمة
يونيو 13, 2025د. وليد بن عبد الله الهويريني
رحمه الله
يخوض العالم العربي والإسلامي جولة جديدة من جولاته ضد قوى الاستعمار وحلفائه، في سبيل استعادة حريته وريادته التي فقدها منذ عقود. وقادة الرأي والفكر وصُنّاع القرار في الغرب يدركون جيداً أن الأمة الإسلامية لديها كل المقومات الفكرية والبشرية والمادية لاستئناف مسيرتها الحضارية التي شعت بأنوارها هذا العالم لقرون متتابعة، ولذلك عملوا قبيل سقوط الدولة العثمانية على بناء المنظومة الدولية التي تحكم العالم بما يحقق استمرار هيمنتهم عليه، وسخّروا كافة مقدراتهم لضرب أي محاولة يسعى لها المخلصون من رجالات هذه الأمة لأن تنهض من كبوتها.
إن السؤال -الذي شغل عقول العلماء والمفكرين العرب والمسلمين منذ سقوط الدولة العثمانية وحتى اليوم- عن أسباب تخلفنا وتقدم الحضارة الغربية لا يمكن أن يخرج عما قرره الله تبارك وتعالى في كتابه، من أن أهم أسباب المصائب التي تحل بالأمم، هو الانحراف الجزئي أو الكلّي عن شريعة الله تبارك وتعالى وأمره ونهيه، وقد كان عصيان الرماة وهم قلة قلائل لأمر نبوي من ضمن جيش يضم بين أفراده سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه وأبي بكر وعمر أدى لهزيمة المسلمين في موقعة أحد، فجاء القرآن موضحاً بأن الهزيمة نزلت لأسباب داخلية، جاءت من داخل الصف الإسلامي، قال تعالى: ﴿أَوَلـمّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ١٦٥].
فكيف يمكن لنا أن نخرج أنفسنا ونبرّأ ساحتنا في هذه الحقبة من تاريخ الأمة التي تعاني فيها هزيمة على أكثر من صعيد؟
والمخرج الشرعي الصحيح هو تجديد عهد الأمة بربها جل وعلا بالتوبة إليه سبحانه اعتقاداً وقولاً وعملاً، وإحياء فقه التكامل بين العاملين لنهضة الأمة وريادتها.
الفجوات الثلاثة
ثمة ثلاث فجوات كبرى في منظومة الوعي، تهدد جيل الشباب الذي عليه الرهان -بعد عون الله ومدده- في نهضة الأمة، وهذه الفجوات من شأن الوقوع فيها إعادة إنتاج الفشل الذي وقعت فيه أجيال سابقة:
الفجوة الأولى: الانقطاع التاريخي
لقد وُلدت الأجيال الحالية في ظل هيمنة الحضارة الغربية على العالم، وهذه الهيمنة أزعم أنه لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وذلك بسبب أنها تتحكم في حياة الفرد المسلم في مسارات حياته عبر قاطرتين متصلتين:
القاطرة الأولى: إفرازات الدولة الحديثة المعاصرة، وهي منتج دلف على الأمة مع بداية حقبة الاستعمار، فالدولة الحديثة تتسم بتحولها وهيمنتها على حياة الأفراد، فهي تصوغ حياتهم اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، بخلاف النماذج السياسية التاريخية، التي مهما كان حجم انحرافها إلا أن مساحة تدخلها في حياة الأفراد كانت مساحة قليلة، فالمجتمع المسلم تاريخياً كان أكثر تعافياً من السلطة السياسية، حيث كان الفضاء العام تشغله المؤسسات الوسيطة، ممثلة بطبقة العلماء والفقهاء -في التاريخ الإسلامي- بنشر المفاهيم الإسلامية في المجتمعات دون معوقات كثيرة. وهذا سر من أهم أسرار ديمومة وبقاء الحضارة الإسلامية لعشرة قرون، مع شدة المحن والأحداث التي حلّت بها.
وأما في واقعنا المعاصر، ففي حقبة ما بعد الاستعمار، نجد أن معظم الدول الإسلامية بنيت أسسها وأعمدتها وفق مفاهيم علمانية، وهذا أنتج وجود تشوهات عميقة في أفكار ومفاهيم قطاعات شعبية غير قليلة، لأن تلك المفاهيم كان يتم تمريرها عبر قنوات إعلامية وتعليمية واجتماعية واقتصادية، تدخل في كل بيت ويتلقاها كل فرد، ومع مرور السنوات أصبح المسلم يفتح عينيه على الحياة وقد أصبحت تلك المفاهيم والأفكار مستقرة في الفضاء العام للمجتمعات، فأصبحت مسلمات لا يفكر الفرد المسلم في تحليلها ومناقشتها، فضلاً عن نقدها، وتلك المفاهيم المنحرفة تشهد مواسم مد وجزر لدى الشعوب، وقد بلغت أقل مستوياتها مع تمدد ظاهرة الصحوة الإسلامية، وتبلغ أقصى مستوياتها مع تراجع وتهميش دور العلماء والدعاة في المجتمع، فعلاقتها بظاهرة التدين ظاهرة عكسية، ولكنها في كل الحالات لا زالت موجودة ومتغلغلة.
القاطرة الثانية: الهيمنة الغربية الاستعمارية، عندما أقام الغرب المنظومة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وجعل من الدولة الحديثة الوحدة الأساسية التي يمكن قبولها في النادي الدولي، وأحكم قبضته على العالم -ومن ضمنه العالم الإسلامي- بأدوات القوة العسكرية والاقتصادية والثقافية والعلمية، ووظّف أدوات السيطرة تلك لمنع حصول شعوب العالم الأخرى عليها، أصبحت المجتمعات الإسلامية في ظل الاستبداد السياسي والدولة الحديثة مجتمعات مهمشة ومطحونة ومستهلكة للمنتج الغربي الثقافي والمادي، وزاد هذا من حجم تشرب قطاعات من الشعوب الإسلامية للمفاهيم الغربية، فكما أن أجيال النصف الأول من القرن العشرين كانت تعاني من الاستعمار العسكري المباشر، فإن أجيال النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الواحد العشرين تم احتلال شريحة من عقول شبابها، وباتت تعاني أزمة الاستعمار الثقافي. والاستعمار الثقافي هو أقوى الأسلحة الاستعمارية على الإطلاق، لأنه يقتل روح المقاومة في داخل الإنسان، ويجعله تابعاً ذليلاً طوال حياته.
لقد أصيبت ذاكرة المسلم المعاصر بفجوة انقطاع بين فهم تاريخ الأمة وهُويتها والقراءة الفاحصة للحظة السقوط المدوي للأمة في أوائل القرن العشرين في أسر الحضارة الغربية، وما جرى بعدها من ترتيب للبلاد الإسلامية وإعادة تشكيل هُويتها، بما يجعلها مجتمعات تابعة تتسول على باب (العم سام) فتات الحضارة المادية. فهناك دور هام ينتظر المربين والمعلمين وصناع الرأي أن يعالجوا تلك القطيعة في ذاكرة المسلم المعاصر، وجهله بالأدوات الثقافية التي صنعها الاستعمار قبيل تشكل العالم الذي نعيشه اليوم.
يجدر التنويه بأن فجوة الانقطاع المذكورة لا تعاني منها الجماهير فحسب، بل هي موجودة بنسبة كبيرة لدى النخب العربية من مفكرين وفقهاء وأطباء ومهندسين ومعلمين، وأسهم هذا في حدوث تشوهات مؤثرة في منظومتهم الفكرية.
الفجوة الثانية: التعجل التغييري
إن سد فجوة الانقطاع التاريخي في ذاكرة الأجيال لا يكفي لبناء منظومة الوعي لدى المسلم؛ لأن هناك فرقاً بين أمرين:
1- معرفة الواقع وتحدياته وصعوباته بدقة.
2- كيفية التعامل مع هذا الواقع ومعالجة مشكلاته.
من الأسباب التي أدت بالعديد من التجارب الدعوية والجهادية والسياسية للفشل في تحقيق أهدافها ما أسميته هنا بالتعجل التغييري، وأقصد به باختصار: محاولة الجماعة أو الطائفة أو التيار تحقيق أهداف طموحة لا تملك الأدوات الكافية لترجمتها لواقع وفقاً للسنن الكونية التي أودعها الله في هذا الكون.
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك تصور بعض الدعاة أو الجماعات في الحقبة الحالية إمكانية إقامة كيان سياسي يحكم فيه شعباً مسلماً، يحارب فيه الغرب، والشعب الذي يحكمه يتحكم الغرب بمقومات حياته من طعام وشراب ودواء ووقود… إلخ. لك أن تتخيل أن تجارب بهذا الحجم من تدني الوعي جرفت معها الكثير من الطاقات البشرية والموارد المالية والمكتسبات الدعوية، وأن قصارى ما يمكن أن يصفه الناقدون من داخل الصف بكل سهولة، أنه كان اجتهاداً في غير محله!!
إن معرفة الباطل وأهله لا تكفي أن يكون المرء مؤهلاً لهزيمته ودحره، وقد رأينا بعض الجماعات تكثر من الاستدلال بأن الغرب يستهدفها ويعدّ مشروعها ضد مصالح الغرب، والحقيقة أننا لو سلمنا بهذا، فهذا لا يقتضي صحة مشاريعها، ولا قدرتها على تطبيقها وترجمتها لواقع ملموس، فضلاً عن أن يُعدّ المتحفظ أو الناقد لهذا المشروع ظهيراً للغرب، أو عائقاً لنصر الأمة ونهضتها، والذي تم اختزاله لدى البعض في جماعته أو تياره أو تنظيمه.
تفادي فجوة التعجل في التغيير، أو منهجية حرق التدرج في التغيير، يمكن أن تُبنى على ركيزتين:
الأولى: الفهم والاستيعاب العميق القائم على دراسات علمية متخصصة في كافة المجالات بحجم إمكانات أعداء مشروع الأمة الإسلامية في الداخل والخارج.
الثانية: معرفة حجم القدرة على تمدد المشروع الإسلامي في الفضاءات التي تنشأ عن تدافع القوى المختلفة، وحراكها السياسي والدعوي والجهادي.
غالباً ما يكون الوقوع في فجوة التعجل في التغيير في الميادين السياسية والجهادية أكثر من الميادين العلمية والدعوية، وعندما نتحدث عن ردم فجوة التعجل في التغيير، فنحن لا نقصد أنه في حالة ردمها فسيكون النصر حليفها قطعاً، ولكن احتمالات تحقق الانتصار تكون أرجح وأقوى؛ لأن البشر مهما اجتهدوا في تحصيل مرادهم فيبقى جزء غائب عنهم لطبيعة بشريتهم، ربما لم يدركوه، أو فات عليهم تحصيله، أو عاق عائق عن تحصيله، فيكون من تقدير الله عزّ وجلّ أن يكتب لهم النصر المادي على الأرض أو يؤخره لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، ولكن الفرق بين عدم تحقق النجاح قبل ردم فجوة التعجل التغييري وبعدها، أن أهل الاختصاص والمعرفة في المجال المستهدف بالتغيير كالمجال السياسي والعسكري قبل ردم الفجوة يكادون يجزمون بفشل مشروع التغيير في ذلك المجال، وذلك لأن أفراده لم يتحصلوا على الحد الأدنى من القوة التي تمكنهم من منازلة المشاريع المخالفة، بينما تكون احتمالات النجاح أرجح من احتمالات الفشل بعد ردم فجوة التعجل التغييري لدى أهل المعرفة والاختصاص في المجال المستهدف بالتغيير.
الفجوة الثالثة: الفرق المرحلي
إذا كان المصلحون يعالجون اليوم أوضاعاً فاسدة في المجتمعات الإسلامية، فإن هذه الأوضاع السيئة لم تأتِ بغتة، بل جاءت عبر أحداث متراكمة لعقود متعاقبة. ومن الفقه والوعي أن يسلك المصلحون سبيل التدرج في الإصلاح، وتكثر الحاجة إلى منهجية التدرج في الميادين الجهادية والسياسية أكثر من غيرها.
ومكمن الخطورة أن الخطاب المتدرج هو خطاب استثناء من أصل، وهذا الاستثناء أملته المصلحة الشرعية، ولكن الاستمرار عليه لفترة طويلة -لا سيما في حلبة الصراع السياسي- يفضي لإلفه والتعوّد عليه، والغرق في تفاصيله، وبحث كيفية نشره، ومع مرور الوقت يغرق الإنسان في دائرته ويكون أسيراً لحدوده، وتتضخم لديه محدداته، فيفقد القدرة على التفكير خارجه، ويتحول العمل المرحلي إلى محطة نهائية، وينجح الخصوم في جر المصلحين للتعايش مع الأوضاع الفاسدة، مع إصلاحات شكلية أو هامشية لا تهدد سدنة المنظومة الفاسدة، بل تضفي عليها المزيد من المشروعية لدى الجماهير، وأفضل من يقدم خدمة في ردم هذه الفجوة هم علماء الأمة ودعاتها، الذين ينشرون المفاهيم الشرعية في المجتمعات بعيداً عن مقتضيات الصراع السياسي واستحقاقاته، وهذا لا يعني أنهم بمعزل عن هذه الاستحقاقات، ولكنهم أقل من غيرهم وأكثر حرية في بثّ ما لديهم من الخير للناس.
تلك فجوات ثلاث أعتقد أن من الأهمية ردمها في مسيرة المصلحين في العالم الإسلامي ولم أقصد بها الاستيعاب والحصر.
حضارتنا غير قابلة للزوال
من بين ضجيج الخلافات العاصفة التي نراها في المنتديات والمؤتمرات وشبكات التواصل الاجتماعي، تظهر تباشير تدعو المسلم للتفاؤل في المستقبل، برغم كل المآسي والمحن التي تعانيها الشعوب الإسلامية في العراق والشام ومصر وغيرها، فحجم التآمر الغربي الإيراني الذي بدأ يتسع حلقاته قلص من الفجوات بين النخب والشعوب الإسلامية، فلم يعد اليوم خطورة المشروع الإيراني الصفوي محل شك لدى أهل السنة في العراق والشام والخليج ونواح كثيرة من العالم الإسلامي، كما أن مخطط التقسيم -الذي بدأ الغرب في حفره بعمق منذ غزو العراق عام ٢٠٠٣م- بدأ يتضح للعديد من الباحثين والمفكرين العرب والمسلمين بعد الثورة السورية واهتزاز النظام الغربي الرسمي أكثر من أي وقت مضى، فعادوا لقراءة تاريخ التقسيم الأوروبي الأول للعالم العربي في اتفاقية سايكس بيكو، وبدأ شعور متصاعد لدى الأمة بوحدة المصير ووحدة العدو، وهذا الخطاب نأمل أن يتم توسيعه من النخب إلى الشعوب بالمزيد من التواصل والتناصر فيما تمر به من محن وأزمات.
ربما توهم بعض القراء للفصل الأول والثاني من الكتاب عند الحديث عن مخططات التقسيم، وتوظيفه للصراعات التي نشأت خلال الثورات العربية، أن في ذلك تهويناً أو تقليلاً من ثورة الشعوب على الاستبداد وتضحياتها الكبرى في هذا المسار، وهذا ظن في غير مكانه، فهذه الشعوب ما خرجت إلا لتحقيق مصالح مشروعة، واستعادة حقوق ضائعة، وتحرير كرامة مسلوبة، والغرب حتى عندما فكر في تغيير خارطة المنطقة العربية وتغيير حلفائه لم يفعل ذلك مختاراً، بل فعل ذلك مضطراً، وتلبية لمتطلباته الاستعمارية في المنطقة التي فرضتها عوامل كثيرة، من أهمها اعتقاده بأن ضريبة دعم الاستبداد العربي تفوق الأرباح التي يجنيها من دعمه وتثبيته.
كما أن تراجع قوة أمريكا في العالم قلَّل من قدرتها على إحكام قبضتها عليه، وجعلها مضطرة للتفاهم مع قوى دولية أخرى وقوى إقليمية لتتشارك معها في الهيمنة والنفوذ، ويبدو أنه وجد بغيته في المشرق العربي في إيران وذرعنها الطائفية، التي لديها القدرة على خلخلة الأوضاع في أكثر الدول السنّية، وقد رأينا كيف وقف الإيرانيون والأمريكيون وقفة رجل واحد في تزويد الحكومة الشيعية في بغداد لقمع انتفاضة أهل الأنبار في مطلع العام الجاري، وبمضي الوقت يظهر بأن معدل التفاهم بين أمريكا وإيران آخذ في التصاعد.
مما ينبغي الإشارة إلى أننا عندما نسهب في الحديث عن مخططات الغرب وشواهدها في الواقع، لا نقصد سوى إلقاء الضوء على جانب نظن أنه غائب أو مغيب في الإعلام، بسبب أجواء الاستقطاب والصراع التي عاشتها الشعوب خلال الثورات العربية، وليس معنى هذا أن الغرب ينجح في كل ما يخطط له، فالغرب يخطط كثيراً، فينجح حيناً ويفشل حيناً آخر. وكم أفشلت الشعوب والنخبة الشرعية والفكرية الكثير من المخططات الاستعمارية التي أنفق عليها الملايين الدولارات، ولو كان الغرب كلما خطط سدنته لشيء نجحوا فيه، لكانت الشعوب الإسلامية تحولت لمسوخ مشوهة فاقدة لهويتها ودينها ووحدتها، ولكن كيد الكافرين مهما عظم وانتفخ فهو إلى زوال، قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق: 15–17].
وأمة الإسلام برغم كل ما تتعرض له من الأزمات وبرغم كل ما يعتري أفرادها من تقصير أمة كريمة على ربها جل وعلا.. هذه الأمة بصلحائها وعُصاتها هي أمة اختارها الله واصطفاها من بين الأمم، قال تعالى: ﴿ثُمّ أَوْرَثْنَنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر: ٣٢].
ستظل هذه الشعوب -التي عانت ويلات الحروب والاضطهاد والاستبداد- تحلم بغد مشرق، يزخر بقيم الحرية والعدل تحت ظلال أعظم شريعة عرفتها البشرية جمعاء، وسوف تظل هذه الأمة برغم كل العوائق التي أمامها تدرك أن حضارتها حضارة استثنائية، غير قابلة للزوال والاضمحلال ولو تسلح عدوها بأقوى الأسلحة المادية؛ لأن هذه الحضارة ليست مرهونة بأشخاص ودول وأعراق، بل هي حضارة ذات رسالة ربانية، كتب الله لمرجعيتها الخلود إلى يوم القيامة، وشهد نبيها ﷺ ببقاء طائفة من رجالاتها ترفع رايتها لا يضرها من خذلها ولا من خالفها.
كما أن من طبيعة هذه الشعوب أنها برغم ما أصابها من الوهن والمحن لا تزال تتميز بميزة استثنائية عن شعوب أخرى، وهي تُعد عيباً لدى الغربيين، يوضح هذا الأمر العلامة د. سفر الحوالي في خطابه الموجه للرئيس الأمريكي جورج بوش١ فيقول:
“سوف أُذكّركم بعيب خطير فينا نحن المسلمين؛ وهو أننا لا ننسى مآسينا مهما طال عليها الزمن، تصوّر -أيها الرئيس- أننا لا زلنا نبكي على الأندلس ونتذكر ما فعله فريدناند وإيزابيللا بديننا وحضارتنا وكرامتنا فيها! ونحلم باستردادها مرة أخرى، ولن ننسى تدمير بغداد ولا سقوط القدس بيد أجدادك الصليبيين؟ أي: أننا لسنا في نظركم بالقدر من الحضارة الذي يتمتع به الألمان واليابانيون الذين يؤيدونكم على هذا العدوان متناسين ماضيكم معهم. وأشد من ذلك أن الأفريقي من المسلمين الذي أسلم بعد سقوط الأندلس يبكي مع العرب، مثلما يبكي الجاوي الذي لم يسمع عن الأندلس إلا قريباً”.
هذه الروح الإيمانية المتوقدة، وتلك الوشيجة الإسلامية الراسخة، نحتاج أن ننشرها بين هذه الشعوب، بشرط أن يتقدمها العلماء الراسخون، فهذه الأمة لم تشهد نهضة ولا تحرراً في تاريخها إلا إذا تقدمها العلماء، ولا نقصد بذلك علماء الشريعة فحسب، بل الأمة تحتاج للعلماء في كل حقول العلم والمعرفة الذين هم مادة النهوض والتحرر، ومن ضمنهم علماء الشريعة فالتلازم بين نهضة الأمة ودينها يجعل من العلماء العاملين بهذا الدين في طليعة كتائب النصر والتمكين.
مساء الثلاثاء
6 ربيع الأول 1435هـ
ـــــــــــــــــــ