لا هجرة بغير تضحية
فبراير 7, 2024من القيد إلى الحرية كيف كانت الهجرة تحريراً للإنسان
فبراير 7, 2024
اللهم صل وسلم، وزد وبارك، على السيد المصطفى، والحبيب المجتبى، وعلى آله، وصحبه، ومن نهج نهجه، واقتفى أثره، وأورِدنا اللهم حوضه، وارزقنا شفاعته، وأسعدنا بجواره، يا ذا الفضل العظيم.
أما بعد؛ فأستعين الله لأسوق جملة أفكار حول الهجرة البشرية عامة، والنبوية خاصة، ودورها الإيجابي في حركة الحياة، والعمران، والأفكار، وهي تقبل المناقشة والحوار، أجملها ثم أفصلها:
* كثير جدًّا من عناصر الطبيعة تهاجر: الحيوان، والطير، والأسماك، والماء، والرياح، والسحاب، والكواكب، وغيرها؛ وربما كان ذلك الأصل!
* الدول التي تقوم على سواعد المهاجرين، من أقوى الدول وأغناها، ويوم تتوقف الهجرات تشيخ الأمم، ولنا مثَل في دولة المدينة المنورة، ثم في دول المهاجرين: أميركا، وكندا، وأستراليا، وإسرائيل، وحتى دول الخليج العربية!
* كل أنبياء الله عليهم السلام، من آدم حتى محمد ﷺ، هاجروا، أو هُجروا رغمًا عنهم، وتركوا ديارهم، وأهليهم، وأموالهم، ولو عادوا لها بعد أن تبدلت الأحوال!
* هجرة المؤمن فريضة إذا وجد مخارج يحفظ بها دينه، وإيمانه، وينشر بها عقيدته!
* حدث الهجرة في الإسلام، هو الذي ثبت دعائم الدين، وأسس الدولة، ونشر النور لأقصى أرجاء الدنيا! وفطن لذلك سيدي عمر الملهَم المحدَّث فجعله بداية التأريخ للأمة!
* المهاجرون المسلمون هم السبب الحقيقي في نشر الإسلام، في مصر، والعراق، والشام، وشمال أفريقيا، ومنطقة الروملي، وأوربا الغربية حتى الأندلس! وأرخبيل الملايو، وامتداده شرقًا للصين!
* للهجرة آثار سلبية عالجها رسول الله ﷺ، ولا نحسن الآن علاجها!
* ثم سأقف أطْول أمام حدث الهجرة بعد ذلك لو وفق ربي سبحانه!
أولًا: كثير جدًّا من عناصر الطبيعة تهاجر؛ إن لم تكن كلها: الإنسان، والحيوان، والطير، والأسماك، والماء، والرياح، والسحاب، والكواكب، وغيرها؛ وربما كان ذلك الأصل!
أعتقد أنني لا أحتاج لجهد للتدليل على أن الهجرة نمط شائع في الكائنات كلها من صغيرها لكبيرها بشكل يحتاج تأملًا وقراءة متفحصة؛ فإذا افترضتُ صحة أن آدم وحواء عليهما السلام التقيا وتعارفا في مكة على عرفات، أو على جبال أرارات، أو في مجمع أي بحرين، أو أي سهل، فإن أبناءهما بعدهما تكاثروا، وانساحوا مهاجرين في أرجاء البسيطة، ليعمروها، مهاجرين لاتجاهات مختلفة، حتى اختلفت مع الزمن ألوانهم، وألسنتهم، ومعطياتهم الحضارية!
ونرى وبأعيننا، ونقرأ عن هجرات الطيور والأسماك، حتى إن طائرًا صغير الحجم (يقطع أكثر من 11,700 كلم في رحلة واحدة بدون توقف في هجرته من ألاسكا وحتى نيوزيلاندا) كما عثر على نسر روسي (قطع آلاف الأميال خلال رحلاته على مدار 20 عامًا، منطلقًا من روسيا في الشتاء مرورًا بدول شمال شرق آسيا جميعًا حتى السودان والسعودية وبعض دول الخليج العربي! وقد نُشرت خارطة رحلاته، وهي مدهشة حقًّا!
ورأينا الحيوان يهاجر بصورة واسعة، والأسماك، والرياح اللواقح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، والماء (الذي لا يمر بالمكان نفسه مرتين) وحركة الكثبان الرملية التي تشبه الهجرة، والانزياحات الأرضية، وحركة القارات قديمًا، بل حتى الكواكب، فقد قرأت عن (هجرة الكواكب Planetary migration الناتجة عن التفاعلات الجاذبية بين كوكب، أو تابع نجمي آخر، مع كوكب مصغر، أو مع قرص الكوكب الأولي الذي يقع حول النجم، الذي يدور حوله هذا الكوكب؛ ما يغير مداره، ولا سيما نصف محوره شبه الرئيسي الأمر الذي يسبب في هجرة الكوكب نحو أو بعيدًا عن نجمه! معدلات الهجرة محدودة بشدة بالنسبة للإجرام المنخفضة الكتلة، ولكنها مفهومة بشكل معقول في حالة الكواكب العملاقة)!
وليس هنا مجال الكلام عن هجرات الكائنات وأسبابها، وأنواعها، ونتائجها السلبية والإيجابية!
ثانيًا: الدول التي تقوم على سواعد المهاجرين، من أقوى الدول وأغناها، ويوم تتوقف الهجرات تشيخ الأمم، ولنا مثَلٌ في دولة المدينة المنورة، ثم في دول المهاجرين: أميركا، وكندا، وأستراليا، وإسرائيل، وحتى دول الخليج العربية!
فأما دولة المدينة التي وفد إليها مؤمنو أهل مكة، ثم المسلمون بعدُ فقد غيرت وجه العالم دون خلاف، وأما المَهاجرُ المعاصرة، فتحسن امتصاص طاقات المهاجِرةِ، والإفادة منهم، ونسبةَ عطاءاتهم لها، فأميركا متورمة بالمهاجرين من أنحاء العالم، وعطاءات كثير منهم في التكنولوجيا، والطب، والمعلوماتية، وعلوم الطبيعة، وغيرها، لمهاجرين، نجحت في استقطابهم، أو الإفادة منهم، وصيرتهم شواحنَ طاقةٍ في جسدها! وحسبك أن تعلم أن ثلاثة أرباع النساء العاملات في وادي السيليكون: الذي يدير عقل الدنيا، في مجالات الحواسيب، والرياضيات، والهندسة، والمعمار، وأن 70 بالمائة من الموظفين الرجال مولودون خارج أميركا! وجلهم آسيويون!)[1]
وهنالك عدة دراسات قامت بها الجامعة العربية ومنظمة يونسكو والبنك الدولي بأن منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي تسهم بثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية، وأن 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من الكفاءات والعقول العربية يهاجرون إلى أوروبا وأستراليا وكندا وغيرها من البلاد. بدأت ظاهرة هجرة العقول العربية منذ قرن التاسع عشر وازدادت في القرن العشرين، وخصوصًا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية! وأن 54% من الطلاب العرب الدارسين بالخارج لا يعودون لبلادهم، ويشكل العرب وحدهم 34% من مجموع الأطباء في بريطانيا. ويهاجر نحو 100 ألف من العلماء والمهندسين والأطباء كل عام من مصر، والأردن، والعراق، تونس، المغرب، والجزائر[2].
ناهيك عن العقول المهاجرة من الصين، والهند، وباكستان، لتكون خلايا عافية، ودافعية في الجسد الأوربي! وكم ضج أهل العقول من نزف العقول المسلمة، وتسربها، نتيجة أسباب كثيرة، كالمطاردة، وانعدام الأمن، وسوء التقدير، وفقر البيئات العلمية، والفقر المادي وغيرها. ولا أطيل في هذه النقطة، فهي ليست من صلب الحديث في الهجرة النبوية.
ثالثًا: دعوى أن كل أنبياء الله عليهم السلام، من آدم حتى محمد ﷺ – خصوصًا الخمسة الكبار أولي العزم – هاجروا، أو هُجِّروا، وتركوا ديارهم، وأهليهم، وأموالهم، ولو عادوا بعد تبدل الأحوال! ثم لأسباب مختلفة هاجر أبناء آدم لكل أصقاع الأرض، من أشدها حرارة لأقرصها برودة، وعاشوا وأقاموا حضارات، وثقافات، وتركوا آثارهم خلفهم: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين، وبالليل؛ أفلا تعقلون)؟ الصافات:137!
**** فقد أُخرج آدم أبونا عليه السلام من الجنة أو هُجِّر، لحكمة لم تعرفها الملائكة، ولعلها إقامة هذه الحضارات، والعطاءات البشرية، واصطراع الخير والشر، (واستعمركم فيها) هود: 61!
كما أهبط إلى الأرض بمعرفة كاملة، فقد علمه ربه العلام الأسماء كلها (البقرة: 31) وأوتي معها سنة المدافعة والاصطراع؛ ابتلاء؛ ولئلا يستنيم وأولاده للدعة، ويركن للراحة: (إن الشيطان لكما عدو مبين) الأعراف:22! كما أن بسنة المدافعة ينجلي التفكير، وتهطل الاختراعات، والإبداعات الإنسانية، والإمكانات التي غيرت وجوه الحضارات عبر القرون!
**** ثم هاجر نبي الله نوح عليه السلام، راكبًا فُلكًا مشحونًا انتقل به بعيدًا، حيث استقر على الجودي؛ بعد أن غسل الله تعالى الأرض من الشرك، والكفر، والمحادة لله تعالى، ولنوح رسول الله! لتبدأ البشرية بداية جديدة، تقوم على توحيد الله عز وجل.
هاجر بعد إذ هدده قومه بالموت رجمًا بالحجارة: (قالوا: لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) الشعراء:116، وكان الرجم سائدًا في الأمم الوثنية والهمجية بشكل كبير، منذ قوم نوح فمن بعدهم حتى جاء الإسلام، وعقَّده…
وكانت تلك المرة الثانية التي تمحض فيها كلُّ من في الأرض مسلمين، فلم يحصل هذا قبل إلا مرة واحدة، حين أهبط آدم من الجنة، ثم بعد ذلك ما تمحضت الأرض لأهل الإيمان قط ولن تتمحض، لكنها ستكون لأهل الكفر فقط عند قيام الساعة! كما في مسلم/1924: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية)! (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله) مسلم:148! وبذلك كانت هجرة نوح عليه السلام نجاة بالمؤمنين، وحياة للدين، وهلاكًا للكافرين، وبعثًا لحضارة جديدة، وناس مختلفين!
**** وهاجر صالح عليه السلام، بعد أن عانده قومه، ورفضوا دعوته، وذبحوا الناقة الآية، وتحدوا ربه، وقالوا: ليُنزل علينا عذابه إن شاء: ولم يرع عميان البصائر، ولم يفهموا الرسالة، (وعتوا عن أمر ربهم، وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا، إن كنت من المرسلين) (فتولى عنهم، وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين) الأعراف:77، وخرج عن القرية قبل نزول العذاب، وأوعدهم ثلاثة أيام، وانتقل عنهم لا يُصبْه العذاب: (فعقروها، فقال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام؛ ذلك وعد غير مكذوب* فلما جاء أمرنا نجينا صالحًا، والذين آمنوا معه، برحمة منا، ومن خزي يومئذ، إن ربك هو القوي العزيز* وأخذ الذين ظلموا الصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين* كأن لم يغنوا فيها؛ ألا إن ثمود كفروا ربهم! ألا بعدًا لثمود) هود:65-68!
**** وقبلهم أوعد سيدي هود عليهم السلام أمة غبية أخرى، هي عاد، في الأحقاف – جنوبي جزيرة العرب ما بين اليمن وعمان، على تخوم الربع الخالي الجنوبية – بعد أن دعاهم إلى توحيد الله تعالى، وحذرهم، فاستعصموا بأوثانهم، ودين آبائهم، وتحدوه أيضًا أن يُنزل عليهم العذاب: (واذكر أخا عاد؛ إذ أنذر قومه بالأحقاف، وقد خلت النذر من بين يديه، ومن خلفه: ألا تعبدوا إلا الله؛ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم* قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا؟! فأتنا بما تعدنا؛ إن كنت من الصادقين) الأحقاف:21-22! وأرسل الله عليهم عذابه عاجلًا فعلا!
والغريب أنهم حين رأوا السحاب المركوم الذي يحمل العذاب، عموا وصموا، واستكبروا، وكذبوا، وقالوا: هذا مجرد سحاب، يحمل لنا الخير والمطر: (فلما رأوه عارضًا، مستقبل أوديتهم، قالوا: هذا عارض ممطرنا! بل هو ما استعجلتم به: ريح فيها عذاب أليم* تدمر كل شيء بأمر ربها! فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم! كذلك نجزي القوم المجرمين* ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه، وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) الأحقاف:24-26!
**** وهاجر نبي الله إبراهيم عليه السلام، بعد أن وجد معاندة ومعارضة، وسوادًا في القلوب، وتهديدًا بالقتل من أقرب الناس له: (لئن لم تنته لأرجمنك) مريم:46، فانطلق عن قومه بعيدًا (وقال: إني ذاهب إلى ربي؛ سيهدين) الصافات:99، وتنقل عليه السلام، من بابل العراق، للشام، لمصر، لجزيرة العرب، وترك ابنه وسريته في مكة التي بارك الله فيها بعد أن أذن بالحج، ودعا ربه بأن تجبى إليها ثمرات كل شيء (القصص:57) وأن تهفو إليها أفئدة الناس، إلى قيام الساعة (إبراهيم:37) وبذلك كانت هجرة إبراهيم عليه السلام توسعة لأرض التوحيد، وزيادة لرقعتها، وإرهاصًا بمحمد ﷺ، الذي جعل ربه له الأرض كلها ميدانًا للدعوة/ والبشر كلهم من بعثته ليوم الدين، أمة الدعوة/ والزمان كله له؛ حتى قيام الساعة زمنًا للدعوة!
**** ثم (آمن له لوط، وقال إني مهاجر إلى ربي) العنكبوت:26، متبعًا خطا نبي الله إبراهيم عليه السلام، ثم هاجر ثانية، من سدوم وعمورة، بعد أن آذاه قومه، وضيقوا عليه، وهددوه بالنفي من بلده: (قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين) الشعراء:167، وعلم أنهم معذَّبون، فأسرى بأهله بقطع من الليل، حتى انتقل إلى عالم أرحب، وأصلح للدعوة لله تعالى!
**** وبعد أن ألقى بنو يعقوب عليه السلام أخاهم يوسف في الجب، حُمل إلى مصر صغيرًا، وظل بها، حتى عزّ وحكم، وتمكن في الأرض، واستهجر أباه يعقوب، وإخوته، فجاؤوا إلى مصر، في حركة هجرة عن قوة، إكرامًا من يوسف عليه السلام، الذي: (آوى إليه أبويه، وقال: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين* ورفع أبويه على العرش) إكرامًا وتحقيقًا للرؤيا! وظل يعقوب فيها سنين حتى قاربه الأجل، فعاد إلى الخليل ليدفن مع أبويه إبراهيم وإسحق، عليهم صلوات الله وسلامه!
**** وهاجر موسى – وهارون عليهما السلام- من مصر إلى مدين، خوفًا ونجاة بنفسه: (ففررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي حكمًا، وجعلني من المرسلين) وبقي فيها عشر سنين أو أكثر قليلًا، وقضى الأجل، وسار بأهله، عائدًا؛ ليحاج فرعون عليه لعائن الله، الذي استمر في غطرسته، وتمرده، وادعائه الألوهية، وصادم موسى ﷺ، ونوى إقامة مذبحة ثانية لبني إسرائيل، بعد مذبحة الأطفال المشهورة، فاضطر سيدي موسى عليه السلام ثانية للخروج بقومه، (فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا) يونس:90، ففر موسى للنجاة بنفسه وبقومه، واتجه عليه السلام إلى فلسطين، في هجرة دائمة، فبقي الإسرائيليون حتى أبيدوا؛ بما كسبت أيديهم!
**** وهاجر نبي الله شعيب عليه السلام، بعد أن خيره قومه بين الكفر بما أُرسل به، وبين التهجير من البلد: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه: لنخرجنك يا شعيب، والذين آمنوا معك، من قريتنا؛ أو لتعودن في ملتنا) الأعراف:88، فخرج بمن آمن به، وأهلك الله تعالى الظالمين الجاحدين من قومه بالصيحة: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين* كأن لم يغنوا فيها؛ ألا بعدًا لمدين كما بعدت ثمود) هود:95!
**** وخرج سيدنا يونس عليه السلام، مغاضبًا قومه، قبل أن يأذن الله له بالهجرة، لعله يجد قومًا آخرين، ألين قلوبًا، وأنقى طبيعة، وأطوع للهداية: (وذا النون إذ ذهب مغاضبًا، فظن أن لن نقدر عليه) الأنبياء:87، وركب ﷺ البحر، لتجري عليه أقدار الله تعالى، من التقام الحوت إياه، ثم لفظِه بعد حين، بعد أن استغفر ربه، وأناب إليه: (فنادى في الظلمات، أن: لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين* فاستجبنا له، ونجيناه من الغم، وكذلك ننجي المؤمنين) الأنبياء :87، ثم ليعود إلى قومه، النادمين على خروجه، فآمنوا به واتبعوه: (وإن يونس لمن المرسلين* إذ أبق إلى الفلك المشحون* فساهم فكان من المدحضين* فالتقمه الحوت وهو مليم* فلولا أنه كان من المسبحين* للبث في بطنه إلى يوم يبعثون* فنبذناه بالعراء وهو سقيم، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين* وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم إلى حين) الصافات:139-148!
**** وهاجر سيدنا عيسى المسيح عليه صلوات الله وسلامه – أو هاجرت به أمه- فرارًا من بطش اليهود والرومان! (وقد نشرت جامعة كولون بألمانيا لأول مرة بردية أثرية ترجع إلى القرن الرابع الميلادي، (sis.gov.eg/section/502/12472?lang=ar) تتحدث عن فترة وجود السيد المسيح والعائلة المقدسة في مصر؛ مؤكدة أن طفولة السيد المسيح استمرت نحو أربع سنين (ثلاث سنوات، وأحد عشر شهرًا) مهاجرًا في مصر!
**** وهاجر محمد ﷺ، لينطلق بدينه إلى آفاق أرحب، وقلوب أطوع، وليؤسس دولة كتب الله تعالى لها البقاء حتى يرث سبحانه الأرض ومن عليها؛ مع مراوحات بين القوة والضعف، والانكسار والمنعة!
ولعلها كانت مختلفة في أسبابها، وأهدافها، ونتائجها، عن الهجرات السابقة للنبيين، خصوصًا وأنهم عليهم السلام عادوا إلى بلادهم سريعًا؛ لكن محمدًا ﷺ، بعد أن فتح الله عليه مكة رفض أن يستقر بها، وآثر طيبة الطيبة عليها! يقول العلامة القرضاوي:
إن عددًا من أنبياء الله هاجروا، ولكن كان لهجرة النبي ﷺ سمات خاصة، فلم يكن الهدف منها فرارًا من العذاب؛ ولكن كان الهدف منها إقامة دولة الإسلام، من خلال هذه الهجرة المباركة. ولم تكن هجرة محمد عليه الصلاة والسلام كهجرة موسى عليه السلام حينما قال: (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الشعراء:21، بل كانت سعيًا حثيثًا لإقامة مجتمع جديد، مجتمع إسلامي بمعنى الكلمة: كانت سعيًا لإقامة مجتمع وبناء أمة، وإنشاء دولة جديدة، تقوم على الربانية والإنسانية والأخلاقية والعالمية، كان هذا هو هدف محمد عليه الصلاة والسلام من هذه الهجرة، وفعلًا استطاع أن يقيم هذه الدولة، وأن يؤسس هذا المجتمع، وينشئ هذه الأمة الجديدة خير أمة أخرجت للناس)!
رابعًا: جعل الله تعالى هجرة المؤمن فريضة إذا ضُيِّق عليه، وأوذي في دينه، ولم يستطع أن يقوم به في نفسه، وينقله للعالم، ووجد مخارج يحفظ بها دينه، وإيمانه، وينشر بها عقيدته: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض! قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم؛ وساءت مصيرًا* إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؛ لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلًا* فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوًّا غفورًا* ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا، وسعة! ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله، ثم يدركه الموت، فقد وقع أجره على الله، وكان الله غفورًا رحيمًا) النساء:97-100!
وقد ندب النبي ﷺ الانتقال إلى مناطق تسود في العدالة، والأمن على الدين، ففي سير أعلام النبلاء/ 1/208 عن سيدتي أم سلمة رضي الله تعالى عنه: لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله ﷺ وفُتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان هو في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره، مما ينال أصحابه. فقال لهم رسول الله ﷺ: (إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده؛ فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا). فخرجنا إليه أرسالًا، حتى اجتمعنا، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا.
وكانت هجرة رسول الله ﷺ – بأمر الله تعالى – أنموذجًا تطبيقيًّا لحركة الهجرة الراشدة، بأحكامها التي سيأتي الحديث عنها بعد: ففي البخاري من حديث سيدتي أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها/ 2138: لَقَلَّ يوم كان يأتي على النبي ﷺ، إلا يأتي فيه بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، فلما أُذن له في الخروج إلى المدينة، لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهرًا، فخبر به أبو بكر، فقال: ما جاءنا النبي ﷺ في هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل عليه قال لأبي بكر: (أخرج من عندك)، قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، يعني عائشة وأسماء، قال: (أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج). قال: الصحبة يا رسول الله، قال: (الصحبة)!
[1] Foreign-Born Engineers Dominate Bay Area Tech Jobs spectrum.ieee.org/foreign-born-engineers-dominate-bay-area-tech-jobs-says-joint-venture-silicon-valley
[2] reachimmigration.com