السيرة النبوية لابن هشام
فبراير 8, 2024درس في الوطنية
فبراير 8, 2024لقد عرف العلماء الهجرة بأنها انتقال من أرض إلى أخرى، وفي المصطلح الإسلامي هي: الخروج من أرض الكفر إلى أرض الإسلام. والهجرة من وطن إلى آخر لها ظروف كثيرة تصنعها، فتختلف بحسب الزمان والمكان والأقوام، فمهاجر من أجل دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، أو لقمة عيش يحصلها، أو مكره على الخروج لنشوب الحروب وحدوث الزلازل وغيرها.
وتلك لعمر الله هجرة قاصرة بحسب أهلها ورؤيتهم المحدودة والمكتوبة حتماً لهم، ولكن الهجرة لنصرة الدين وإرادة التمكين هي الهجرة الحقة التي تبنى بها الأجيال، وتتحقق فيها الآمال، وتصقل فيها مواهب الرجال، وتصنع منها خيوط الأمل فتصبح واقعاً كالجبال، ولقد كانت هجرة الأنبياء والرسل أمراً من الله سبحانه وتعالى لتثبيت الرسالة، وإحياء للخليقة من موات الشرك إلى حياة النور، وبذراً في أرض قابلة للحياة، حينما تضيق الجاهلية بالدعوة الوليدة التي تسفه أحلامها، وتنسف أصنامها، وتبطل أحكامها الظالمة الجائرة. فهذا خليل الرحمن عليه السلام من أوائل الصادحين بها {إني مهاجر إلى ربي} [العنكبوت: 26] فما أعظمها من كلمة تنسف الهجرة لغير الله تعالى، وتعلق العبد بمولاه.
إن الهجرة لله تتسع أمامها آفاق، وتزداد في رحابها أرزاق، وتجتمع حولها خلائق لها فطر نقية، وأذواق راقية. لقد ضاقت أرض مكة بما رحبت أن تضم دعوة النبي ﷺ فاحتاجت الدعوة إلى أرض جديدة تستقبل الهادي المنير، وكان لزاماً أن تبحث الدعوة الوليدة عن كنف لنشرها وصيانتها وتأمينها وحماية أتباعها من بطش الجبارين. لئن كان النبي ﷺ قبل وفاة عمه أبي طالب في منعة من قومه، فإن كثيرا من الصحابة لم يجدوا من يحميهم من بطش آلة الكفر والبغي والاستكبار، فما كان منه ﷺ إلا أن أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لأن فيها ملكاً عادلاً لا يُظلم عنده أحد، ولأن أرضه صالحة لاحتضان المضطهدين، وإن كانت لا تصلح لاحتضان النبي ﷺ لعدة فروق، فهاجروا ووجدوا عنده مأمناً على عقيدتهم، ودينهم، فامتد شعاع النور ليغزو قلب الملك وبعض حاشيته فأسلم، فربحت بذلك الدعوة أرضاً محتملة لبناء الدولة، ولكن جاء الإذن للمدينة لتستقبل خير مهاجر عرفته البسيطة.
ولطالما بحث النبي ﷺ بين قبائل العرب عن قبلية تؤويه وتنصره، ولكن كانت شروطهم لأنفسهم لا لله فتركها، لأن الدعوة تحتاج إلى تجرد وتوحيد من غير شرك النديد، ولم يتقدم للنبي عليه الصلاة والسلام الإذن في الهجرة إلى أرض خارج مكة كرمها الله، اللهم إلا ما كان من خروجه للطائف فما لقي منهم لطائف.
الفئة المباركة
هاهي يثرب تلقي بفلذات أكبادها في رحاب البيت العتيق لتفوز بالنصرة لنبي الإسلام، فلم يكد ينصرم عام من رد أهل الطائف وجفوتهم للهدى، حتى فتح الله قلوب الأوس والخزرج فوافوا النبي ﷺ في العقبة مبايعين له على أن ينصروه ويحموه مما يحموا منه نساءهم وأبناءهم، فهنيئاً لأهل الدار بخير جار، ولقد تدرج معهم الهادي البشير في بيعتهم لتكون الأرض القادمة صلبة البناء تصد كل صنوف العداء، فبايعهم في الأولى على الأخلاق والفضائل والطاعة، فلما كان منهم السمع والطاعة بايعوا على النصرة والجهاد، فوفوا ما عاهدوا الله عليه.
في طريق البناء
خرج عليه الصلاة والسلام مهاجراً واتخذ جميع الأسباب الحسية والمعنوية لنجاح المسيرة، ولتقتدي به الأجيال في الأصال والبكور والظهيرة، واصطحب معه خير صاحب ونصير سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، واحتملوا الزاد واختاروا الدليل والرواحل، وسلكوا سبيلاً لتضليل الطالب، ونيل المطالب، وبذلك كان يشرع ﷺ في كل خطوة ونفَس لأمته عملاً لتقتدي به، وهذا الذي تحتاجه الأمة اليوم من هذه الهجرة المباركة، في رسم خطة جديدة تهجر بها الإفك والعصيان، وتفك عنها الحصار، وتتزود بزاد التقوى، وتصطحب الأخيار لتخرج للعالم بثوب تتجدد معه معالم الدين، فتوقظ الغافلين وتنقذ المضللين من حياض الإسلام السمح الذي يحمل طوق النجاة، ومخارج الفرج من نكد الحضارة البائسة، القلقة المضطربة، الحائرة في دروب الضياع والتيه. فيا لها من هجرة تغنى بها الإنس والجن، والأخضر واليابس، وطربت لخطوها السماء واحتضنتها البسيطة:
جزى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائهِ رفيقيـنِ قالا خيمتِـيْ أمّ معبـدِ
هما نزلاها بالهدى، واهتـدتْ بـهِ فقدْ فازَ منْ أمسى رفيـقَ محمـدِ
فيا لقصـيٍّ مـا زوى اللهُ عنكـمُ بهِ من فخـارٍ لا يبـارى وسـؤددِ
ليهنِ بَنِي كعـبٍ مقـامُ فتاتـهمْ ومقعدهـا للمؤمنيـنَ بمـرصـدِ
سلوا أختكمْ عن شاتها وإنائهـا فإنكمُ إنْ تسألـوا الشـاةَ تشهـدِ
هجرة الداعي لخلاص المدعو
إنه من دواعي فقه الهجرة للدعاة اليوم أن يسلكوا طريقاً للهجرة النفسية والروحية، هجرة من الركود والتنازع، إلى الحركة والتآخي، هجرة من التفكك والضياع وكيل التهم، إلى الوحدة والتصافي والتلاحم، هجرة من التصنيف إلى توظيف الرسالة بكل أبعادها، هجرة من المكر والخديعة إلى الصفاء والنقاء والسير خلف ركب الرسل والأنبياء.
هجرة لإنقاذ البشرية من زيغ الإلحاد، وضلال أبرهة في صناعته لدين جديد يجمع بين حناياه الكفر والإيمان، في صورة مقززة تجمع بين عابد البقرة والصليب، وبين المسلم صاحب التوحيد في طهره الرحيب. هجرة ترد الحاكم للشريعة، والمرأة للفضيلة والحياة البريئة، هجرة ترد المعلم لتربية الجيل، والتاجر للنبل والرحمة والرفق الأصيل. هجرة ترد المجتمع من ضياعه، وتوقظه من سباته لحمل الراية، وبناء الحضارة، وترشيد الأجيال القادمة، وتقويم الحاضرة، والاستفادة من الماضية، فيرسو البناء ويثبت الانتماء.
الهجرة وبناء الدولة
“بلغ الأنصار مخرج رسول الله ﷺ من مكة وقصده المدينة، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد حر الشمس رجعوا على عادتهم إلى منازلهم. فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة خرجوا على عادتهم فلما حمي حر الشمس رجعوا. وصعد رجل من اليهود على أطمة من آطام المدينة لبعض شانه فرأى رسول الله ﷺ وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يتمالك وصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة – وقيلة امرأة تنسب لها الأوس والخزرج – هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم – أي حظكم – الذي تنتظرونه”.
ووالله لهو نعم الحظ العظيم الذي جعله الله من نصيب الأنصار محياهم ومماتهم.
فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله ﷺ، وسُمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحاً بقدومه، وخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه بتحية النبوة فأحدقوا به مطيفين حوله والسكينة تغشاه والوحي ينزل عليه: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} [التحريم: 4].
وما إن وطأت قدماه الشريفتان تراب المدينة حتى سارع لتوطيد وإرساء الحقوق المشتركة للتعايش بين الأطراف المتنافرة والمتباينة، فعقد وثيقة تحفظ لجميع الأطراف حقوقها وتحدد مسؤوليتها، وتبين عواقب هدم الوثيقة ونقضها، ثم أسس الجامع لتجتمع القلوب، وتتآخى الأرواح المؤمنة، وليكون مدرسة الحياة وسفينة النجاة في تعليم الناس دينهم، واستقبال الوفود، وعقد ألوية الحق لزهق الباطل حيثما كان في أودية الضلال ما دام الباطل صادّاً عن سبيل الله، مانعاً البشرية من ارتشاف رُضاب الدين المعسول.
ثم ثلّث بشراء البئر ليستقل المسلمون في معيشتهم، إذ كانوا أصحاب زروع ونخيل وحيوان، فاشتراها سيدنا عثمان رضي الله عنه بخير منها في الجنان.
وربّع بإنشاء السوق لتكون محلاً لإدارة اقتصاد الدولة الناشئة بعيداً عن جشع اليهود وسماسرة المال، الذين ضاعت أخلاقهم وراء سعار الماديات، كما يفعلون اليوم تماماً، وهل تنسى الأفعى سمها؟ هيهات، ولكننا نحن الذين نسينا أو أُنسينا عبر عجلة تدور آناء الليل وأطراف النهار لتمحو ذاكرة خلصتنا من الاستعباد المادي والروحي، ومن تراث زاخر رفعنا من الحضيض إلى الريادة، فيا ليت قومي يعلمون أننا كنا بعد الهجرة سادة الدنيا وقادتها فأصبحنا نستحي من ماضينا، ونعاديه حباً في رضا الغرب الكافر.
وخمّس بعقد ألوية السرايا ليحصن الدولة الناشئة خشية أن تتخطف في مهدها، كما تفعل المنظمات الدولية في قرصنتها ومحاربتها كل من تسول له نفسه إحياء مجد الأمة وردها لعزتها وحضارتها، وهل الشريعة إلا مصحف يهدي وسيف ينصر؟
إن تلك المعالم عندما ضاعت من واقع أهل الإسلام تحكم في لقمة عيشهم الغريب والقريب، وحينما تاهت بوصلة التربية والتزكية من الجوامع نشأت أجيال مشوهة العقيدة متزعزعة الأخلاق تتقاذفها الشبهات، وتغرقها في حماتها الشهوات، وحينما نضب ماء الحياة من جداولها يبست أغصانها الوارفة وثمارها الطيبة.
لا هجرة بعد الفتح
لقد كان لفتح مكة وقع فاصل بين مرحلتين عاشتهما الدعوة، وقد رفعت صحائف من قاتل وأنفق قبل الفتح حينما كانت الدعوة تسقى بالداء والدموع والآهات والتشريد، والتقتيل والتجويع والحصار، وعندما انتقلت إلى السعة والتمكين والمنعة، فشتان بينهما.. قال تعالى:
{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير} [الحديد: 10].
لقد تغيرت الموازين وحق لها أن تتغير حينما وجدت الدعوة بعد الهجرة أرضاً آمنة مطمئنة، وعصبة مؤمنة تبيع النفوس من أجل دينها رخيصة لإعلاء كلمة الله فتعلو بها في الدارين، حينها انقطع فضل الهجرة، وبدأ عهد البناء وصرح الحبيب ﷺ أنه لا هجرة بعد الفتح، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ يوم الفتح، فتح مكة:
“لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استُنفرتم فانفِروا”.
أهم العبر من الهجرة
1- أن الحق مهما حوصر فلابد من النصر.
2- أن الفئة المؤمنة لا ينبغي أن تكبلها قوانين الجاهلية بل لها أن تبحث دائماً عن موطن تتمدد فيه، ومن ثم لابد من محاولة التنوع في إيجاد أكثر من حاضنة للمشروع الدعوي.
3- التنازع وعدم رؤية الهدف مدعاة للذوبان في المجتمعات الجاهلية.
4- اختيار الصحبة الصالحة الواثقة بنصر الله الآخذة بالأسباب، من أهم الركائز في بناء مجتمع واعٍ بدينه، متمسك بقيمه، متوثب للعطاء دون كلل ولا ملل.
5- تهيئة الأنصار الصالحين لحمل المشروع في بيئات مختلفة قد يكون من أهم أسباب النجاح.
6- وأخيراً الثقة بنصر الله ورمي الاتكال على الأسباب مع الأخذ بها سبيل الفوز والفلاح في الدارين.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.