الحافظ ابن حجر العالِم الموسوعي
فبراير 27, 2024(قصيدة) أصداء الخواطر
فبراير 28, 2024حين أراد المنان تبارك وتعالى نقل عبده من الأرض للسماء، ورفعه لمقام الحضرة العلية: لم يكن ثم بشر، ولا أي تدخل إنساني، فهو تعالى قد أسرى بعبده، وعرج به! وحين أمره أن يهاجر كان لا بد من عمل جماعي، منظم ومحسوب: يشمل صُلب المشروع (محمدًا ﷺ وما يمثله)، ومعه آمَنُ الناس عليه، وأعرفُهم به وأحرصُهم! وكانوا مختلفين متباينين بكل المعايير:
صِدِّيق/ وشابّ (عبد الله بن الصديق) وشابّة (أسماء بنت الصديق) وعبدٌ مأمون (عامر بن فهيرة) كان صادق الإسلام، مجاهدًا، حتى قال عدد من مؤرخي السيرة إنه -بعد مقتله يوم بئر معونة- قد رُفع للسماء (ابن سعد في الطبقات الكبرى، وابن الأثير في أسد الغابة، وابن حجر في الإصابة). ومعهم كافر مأمون (عبد الله بن أريقط)! وكانت زيادةُ الحضور من بيت الصديق، تصديقًا لمِثل قوله تعالى في [الأعراف: 58]: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾. وتوثيقًا للاحتياط، وتقليلًا للاحتمالات!
*** هجرة محمد ﷺ كانت بأمر رباني، وليس باقتراح سيدي المصطفى ﷺ الذي قال: “قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ؛ رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ، بيْنَ لَابَتَيْنِ”. وَهُما الحَرَّتَانِ1. لذا فإنها رغم ما حفها من الهوائل كانت مضمونة ربانيًّا، ولذا فلم يُبدِ سيدي المصطفى قلقًا بأي حال: ﴿إنَّ اللهَ مَعَنا﴾ [التوبة: 40]، “كُنْتُ مع النبيِّ ﷺ في الغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ الـمُشْرِكِينَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لو أنَّ أحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قالَ: “ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا”2.
*** بمجرد أن انتقل محمد ﷺ للمدينة زال عنها التثريب، وطابت، وصارت طيبة وطابة، ونسي الناس يثرب، وصارت المدينة بـ (الـ) العهدية، التي تنقل الاسم إلى العلمية! فإذا ذُكر اسم المدينة لم يتبادر لذهن المسلم اسم مدينة أخرى، حتى عاصمة دولته!
*** رصدت قريش جائزة لسراقة مائتي ناقة، ورصد محمد ﷺ له سواري كسرى جائزة، فلم يصمد أمام إغراء جائزة المصطفى ﷺ ؛ لعقله، وإيمانه بصدقه!
*** لا شك أن هجرة المرء تغير حياته تمامًا، وتنقله لمعطيات فوق الحسبان، سلبًا وإيجابًا، إلا ما كان لله تعالى، فكله خير، ولو بدا غير ذلك!
*** هجرة الأفراد تغير حيواتهم، وبعضِ من حولهم، أما هجرة الإمام، أو القائد فإنها تغير التاريخ، كهجرات الرسل، والأنبياء عليهم السلام، والأئمة المصلحين، بل وحتى المفسدين!
*** من مقتضيات الهجرة الخسارة الكثيرة أو القليلة، ومن ثمارها الفتح المبين!
*** رمزية اجتماع سيوف فتيان قريش لتفريق دمه ﷺ في القبائل، إشارة إلى اجتماع الشرور، والمصاعب في وجه المهاجر لله تعالى، والتي تصل إلى قطع الرقبة!
*** ولّدت كلمة الهجرة ظلالًا، وصنعت عِلمًا كثيرة: الهجرة الجسدية، من أرض الكفر أو الجور إلى أرض العدل والأمن! وهجرة الجوارح للمآثم، وهجرة القلب للشقاق والنفاق، والشرك والكفر “والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”، وهجرة الدنيا ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ ومفاصلة الباطل، ﴿وإنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾! وقسمها النبي ﷺ لهجرة حق؛ كالانتقال بالدين والنفس إلى حيث أمن الدين والنفس! وهجرة ما نهى الله تعالى هنا، وعواقبها تمتد حتى: نصر قريب، وفتح مبين، ورضوان من الله أكبر! وهجرة باطلة، وعاقبتها سوأى: (لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها)، والمعنى هنا فسيح جدًّا، يتناول أشكالًا كثيرة. فكم من مهاجر لغير الله تعالى، جازف وترك خلفه كل شيء، ثم لم يجنِ غير خسارة كل شيء: ترك لغته، وعوائده، وجذوره، وخسر دينه، وأبناءه وأحفاده وآخرته! وقد رأيت أناسًا وصلوا لذروة المجد العلمي في الغرب، ثم نسوا العربية، وسموا أبناءهم أيفان، وليز، وكريستينا، وتركوا الصلاة والصيام، ونسوا لا إله إلا الله!
ولعل من المهم أن أشير هنا إلى أكذوبة خوف أوربا من زيادة عدد المسلمين؛ حتى يكونوا أكثرية بها! فهي سحابة دخانية يثيرها ساستهم وإعلامهم؛ لأن الذين يرتدّون أكثر ممن يسلمون؛ فمن الإحصاءات المهمة جدًّا التي لم يسمع بها كثيرون: ارتداد نسبة أكبر من نسبة معتنقي الإسلام في المستقبل القريب؛ فوفقًا لتوقعات لمركز بيو للأبحاث للفترة بين 2010-2050 حول أعداد المسلمين، لن يكون التحول إلى الإسلام سببًا في نمو السكان المسلمين في أوروبا، حيث -وفقًا لنفس الدراسة- ستتخطى أعدادُ تاركي الإسلام أعدادَ المتحولين عنه في أوروبا بنسبة طفيفة، وسيبلغ صافي الخسارة (60,000) بسبب التحول الديني، ويتوقع المركز أن يتحول 1,580,000 إلى الإسلام في مقابل ترك 1,640,000 شخص له، خلال هذه الفترة! كما وثقت ويكيبيديا3.
*** تحول محمد ﷺ إلى مشارط، بعد أن كان مطاردًا، ففي البخاري: لَمَّا أقْبَلَ النبيُّ ﷺ إلى المـَدِينَةِ تَبِعَهُ سُرَاقَةُ بنُ مَالِكِ بنِ جُعْشُمٍ، فَدَعَا عليه النبيُّ ﷺ فَسَاخَتْ به فَرَسُهُ قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لي ولَا أضُرُّكَ، فَدَعَا له.
وفي البخاري ومسلم: فارتحلْنَا والقومُ يطلبونَنَا؛ فلمْ يدركْنَا أحدٌ منهم إلا سُراقَةُ بنُ مالكٍ بنِ جُعْشُمٍ، على فرسٍ له! فقلتُ: يا رسولَ اللهِ هذا الطلبُ قد لَحِقَنَا! فقال: لا تحزنْ إنَّ اللهَ معنَا! حتَّى إذا دَنَا منَّا فكانَ بينَنَا وبينَهُ قَدْرَ رُمْحٍ أو رُمْحَيْنِ أو ثلاثةٍ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ هذا الطلبُ قد لحقَنَا، وبكَيْتُ! قال: لِمَ تبْكِي؟ قلت: أما واللهِ ما على نفسِي أبكي ولكنْ أبكِي عليكَ! قال فدعَا عليه رسولُ الله ﷺ فقالَ: اللهُمَّ اكفِنَاهُ بما شئتَ! فساخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ إلى بَطْنِهَا؛ في أرضٍ صلْدٍ! ووثَبَ عنها، وقالَ: يا محمدُ: قد علَمْتُ أن هذا عملُكَ؛ فادعُ اللهَ أن ينجِّيَنِي مما أنا فيهِ، فواللهِ لأعَمِّيَنَّ مَن ورائِي من الطَّلَبِ! وهذه كِنَانَتِي؛ فخُذْ منها سهمًا، فإنك ستَمُرُّ بإبِلِي وغنَمِي في موضِعِ كذا وكذا، فخُذْ منها حاجتَكَ! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: لا حاجةَ لِي فيها! وَدَعَا له رسولُ الله ﷺ فَأُطْلِقَ، فرجعَ إلى أصحابِهِ”4.
وروى البغوي في شرح السنة: “فناديتُهم بالأمانِ، فوقفوا فركبتُ فرسي حتى جئتُهم، ووقع في نفسي حين لقيتُ ما لقيتُ من الحبسِ عنهم أن سيظهرُ أمرُ رسولِ اللهِ ﷺ، فقلتُ له: إنَّ قومَك قد جعلوا فيك الدِّيَةَ، وأخبرتُهم أخبارَ ما يريد الناسُ بهم، وعرضتُ عليهم الزادَ والمتاعَ، فلم يرْزَآني، ولم يسأَلاني إلا أن قال: أَخْفِ عنا. فسألتُه أن يكتُبَ لي كتابَ أمنٍ، فأمر عامرَ بنَ فُهَيرَةَ، فكتب في رقعةٍ من أَدمٍ5.
*** الهجرة لملك لا يُظلم عنده أحد أمر مهم، وفاصل، وهي نهج نبوي؛ ما لم يكن عن تنازل عن الدين، والكرامة، وهذا يبرر موقف سيدي جعفر رضي الله تعالى عنه أمام سيدي النجاشي رضي الله تعالى عنه: (أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ أن ننطلقَ معَ جعفرَ بنَ أبي طالبٍ إلى أرضِ النَّجاشيِّ، فبلغَ ذلِكَ قومَنا فبعثوا عَمرو بنَ العاصِ وعمارةَ بنَ الوليدِ، وجمَعوا للنَّجاشيِّ هديةً! فقَدِمنا وقَدِما علَى النَّجاشيِّ، فأتَوهُ بِهَديَّتِهِ فقبِلَها وسجدوا، ثمَّ قالَ لَهُ عَمرو بنُ العاصِ: إنَّ قومًا منَّا رغِبوا عن دينِنا وَهُم في أرضِكَ. فقالَ لَهُمُ النَّجاشيُّ: في أرضي؟ قالوا: نعم. فبعثَ إلينا فقالَ لَنا جعفرٌ: لا يتَكَلَّمُ منكُم أحدٌ أَنا خطيبُكُمُ اليومَ. فانتَهَينا إلى النَّجاشيِّ، وَهوَ جالسٌ في مَجلسِهِ، وعَمرو بنُ العاصِ عن يمينِهِ، وعمارةُ عن يسارِه، والقسِّيسونَ والرُّهبانُ جلوسٌ سماطينِ، وقد قال لهُ عمرو بنُ العاصِ وعمارةُ: إنَّهم لا يسجدونَ لَكَ. قال فلمَّا انتَهَينا، زَبَرَنا مَن عندَهُ منَ القسِّيسينَ والرُّهبانُ (زجرونا): اسجدوا للملِكِ. فقالَ جعفرٌ: لا نسجدُ إلَّا للَّهِ!
فلمَّا انتَهَينا إلى النَّجاشيِّ قالَ:
ما يمنعُكَ أن تسجُدَ؟
قالَ: لا نسجُدَ إلَّا للَّهِ قالَ لَهُ النَّجاشيُّ:
وما ذاكَ؟ قالَ: إنَّ اللَّهَ بعثَ فينا رسولَهُ، وَهوَ الرسولُ الَّذي بشرَ بهِ عيسَى ابنُ مريمَ برسولٍ يأتي من بعدي اسمُهُ أحمدُ، فأمرَنا أن نعبدَ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شيئًا، ونقيمَ الصَّلاةَ، ونُؤْتيَ الزَّكاةَ، وأمرَنا بالمعروفِ، ونَهانا عنِ المنكرِ.
فأعجبَ النَّجاشيَّ قولُهُ، فلمَّا رأى ذلِكَ عَمرو بنُ العاصِ قال: أصلحَ اللَّهُ الملِكَ، إنَّهم يخالفونَ في
ابنِ مريمَ.
فقالَ النَّجاشيُّ لجعفرٍ: ما يقولُ صاحبُكَ في ابنِ مريمَ؟ قالَ: يقولُ فيهِ قَولَ اللَّهِ: هوَ روحُ اللَّهِ وَكَلمتُهُ، أخرجَهُ منَ البتولِ العذراءِ الَّتي لم يَقربَها بشرٌ!
فتَناولَ النَّجاشيُّ عودًا منَ الأرضِ، فقالَ: يا معشرَ القسِّيسينَ والرُّهبانَ، ما يزيدُ ما يقولُ هؤلاءُ علَى
ما تقولونَ في ابنِ مريمَ ما يزنُ هذِهِ، مرحبًا بِكُم وبمَن جئتُمْ من عندِهِ، فأَنا أشهدُ أنَّهُ رسولُ اللَّهِ، والَّذي بشرَ بهِ عيسَى ابنُ مريمَ، لَولا ما أَنا فيهِ منَ المُلكِ لأتَيتُهُ حتَّى أحملَ نعلَيهِ، امكثوا في أرضي ما شئتُمْ وأمرَ لَنا بطعامٍ وَكِسوةٍ، وقالَ: ردُّوا علَى هذَينِ هديَّتَهما6!
*** جزاء المهاجر لله تبارك وتعالى أكبر كثيرًا من مجرد الجزاء الدنيوي، بل يملك فاعله الجنة كلها: ربضها وأوسطها وأعلاها، يتنقل فيها حيث شاء، وتأمل قيمة هذه الجائزة الخيالية: فعن سيدي فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه، مرفوعًا: “أَنا زعيمٌ -والزَّعيمُ الحميلُ- لمن آمنَ بي، وأسلمَ وَهاجرَ، ببيتٍ في رَبضِ الجنَّةِ، وببيتٍ في وسطِ الجنَّةِ! وأَنا زعيمٌ لمن آمنَ بي، وأسلَمَ، وجاهدَ في سبيلِ اللَّهِ، ببيتٍ في ربضِ الجنَّةِ، وببيتٍ في وسطِ الجنَّةِ، وببيتٍ في أعلى غُرَفِ الجنَّةِ! من فعلَ ذلِكَ فلم يدَع للخيرِ مطلبًا، ولا منَ الشَّرِّ مَهْربًا، يَموتُ حيثُ شاءَ أن يموتَ”7.
*** الفواريق يصنعون المراحل، كما نقل عمر رضي الله تعالى عنه المسلمين:
– من مرحلة الاستسرار بالدعوة للتعالن بها، كما ورد: قلت يا رسول الله ألسنا على حق؟ قال: “بلى” قلت: ففيم الإخفاء؟ فخرجنا صفين أنا في أحدهما وحمزة في الآخر حتى دخلنا المسجد، فنظرت قريش إليّ وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة شديدة، لم يصبهم من قبل مثلها، فسماني رسول الله ﷺ الفاروق يومئذ لأنه أظهر الإسلام وفرق بين الحق والباطل8.
– والاستخفاء بالهجرة لإعلانها،كما جاء في الأثر: اتَّعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص ابن وائل السهمي التناضب، من أضاة بني غفار [حي على بعد 13كيلو من مكة]، فوق سرِف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمضِ صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام، ففتن فافتتن9.
– ثم صناعة أولياته التي لم يسبق لها، حتى قال فيه سيدي المصطفى ﷺ: أُرِيتُ كَأَنِّي أنْزِعُ بدَلْوِ بَكْرَةٍ علَى قَلِيبٍ، فَجاءَ أبو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا، أوْ ذَنُوبَيْنِ، فَنَزَعَ نَزْعًا ضَعِيفًا واللَّهُ، تَبارَكَ وتَعالَى يَغْفِرُ له، ثُمَّ جاءَ عُمَرُ، فاسْتَقَى فاسْتَحالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرْيَهُ، حتَّى رَوِيَ النَّاسُ وضَرَبُوا العَطَنَ10.
والعبقري المتقن المتمرس الحاذق في فعل ما يوكل له، ومعناه: لم أر سيدًا يعمل عمله عمَلَ عمر، وينهج نهجه. قال النووي في شرحه على مسلم: “اتفقوا على أن معناه لم أر سيدا يعمل عمله، ويقطع قطعه، وأصل الفري بالإسكان القطع. يقال: فريت الشيء أفريه فريا قطعته للإصلاح، فهو مفري، فري وأفريته إذا شققته على جهة الإفساد، وتقول العرب: تركته يفري الفري إذا عمل العمل بإجادة، ومنه حديث حسان رضي الله تعالى عنه: لأفرينهم فري الأديم؛ أي: لأقطعنهم بالهجاء كما يقطع الأديم”.
– ومن ذلك أنه رضي الله تعالى عنه هاجر علنًا، متحديًا قريشًا وجبروت بعض رجالها، فقد ذكر أصحاب السيرة أن عليًّا رضي الله عنه قال: ما علمت أحدًا من المهاجرين هاجر إلا مختفيًا، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همَّ بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهمًا، واختصر عنَزته، ومضى قِبَلَ الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعًا متمكنًا، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحِلَق واحدة واحدة، وقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن يُثكِل أمه، أو ولده، أو يرمل زوجته؛ فليلقني وراء هذا الوادي! فلم يتبعه أحد إلا قوم من المستضعفين، علمهم ما أرشدهم إليه، ثم مضى لوجهه!
*** الاستعانة بغير مسلم عند الاقتضاء لا إشكال فيها، وإطلاق منع المسلم من الاستعانة بالمشرك في مهام أموره غير منطقي؛ ما لم تكن ريبة، أو غلبة ظن! خصوصًا في زماننا، مع اختلاط الشعوب، والعقول، والتشارك في مكان العمل، ويمكن التقييد هنا، بالاستعانة في أمور، وتركها في أمور!
وقد استعان ﷺ بكافر أمنه على سر الهجرة؛ بنص حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: وَاسْتَأْجَرَ النَّبيُّ ﷺ، وأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِن بَنِي الدِّيلِ، ثُمَّ مِن بَنِي عبدِ بنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا -الخِرِّيتُ: المَاهِرُ بالهِدَايَةِ- قدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ في آلِ العَاصِ بنِ وائِلٍ، (وهو علَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ) (فأمِنَاهُ) فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، ووَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فأتَاهُما برَاحِلَتَيْهِما صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلَاثٍ، فَارْتَحَلَا وانْطَلَقَ معهُما عَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ، والدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ، فأخَذَ بهِمْ أسْفَلَ مَكَّةَ، وهو طَرِيقُ السَّاحِلِ11.
وقد ورَدَ أنَّ النَّبيَّ ﷺ استعانَ ببَعضِ المشْرِكين؛ فاستعانَ بصَفوانَ بنِ أُميَّةَ قبْلَ إسلامِه، فاستعارَ منه أدْرُعًا يومَ حُنَينٍ، فقال: «أغصْبًا يا محمَّدُ؟ قال: لا، بلْ عاريَّةٌ مَضمونةٌ»، رواهُ أبو داودَ وأحمدُ، وقدْ أخَذَت طائفةٌ مِن العلماءِ بالحديثِ على إطلاقِه، أي: لم يُجِيزوا الاستعانةَ بمُشركٍ على أيِّ حالٍ، وقال آخَرون: إنْ كان الكافرُ حَسنَ الرَّأيِ في المسْلِمين ودَعَت الحاجةُ إلى الاستعانةِ به، استُعِينَ به، وحَمَلوا الحديثينِ على هذينِ الحالينِ12.
وللكلام بقية، وبالله الاستعانة!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-البخاري: 2297.
2-البخاري/ 4663، ومسلم/ 2381.
3- The Future of World Religions p.159 Projected Religious Composition of Europe in 2050, With and Without Religious Switching: SCENARIO WITH SWITCHING (10.2%), SCENARIO WITHOUT SWITCHING (10.1%)!
4- البخاري 3652، ومسلم 2009.
5- شرح السنة، 7/106.
6- الوادعي، صحيح دلائل النبوة، 104.
7- صحيح سنن النسائي، 3133.
8- تاريخ الخلفاء، 93.
9- السيرة النبوية لابن هشام 2/129، وطبقات ابن سعد: 3/271-272.
10- رواه البخاري 3682، ومسلم 2393.
11- البخاري، 2263.
- dorar.net/hadith/sharh/152183