
بركة الشام
مارس 16, 2025
نحو منهج حركي في دراسة السيرة النبوية 2
مارس 17, 2025الشيخ حسن شبّاني – سفير الهيئة العالمية لأنصار النبيّ ﷺ بكندا
الحمد لله وكفى والصّلاة والسّلامُ على النبيّ المصطفى وبعد..
فقبل يومين قرأتُ مقالاً صادماً على موقع (الجزيرة) الإخباري بعنوان: “إسرائيلُ تقرر إنشاء إدارة خاصة للهجرة الطّوعية من غزّة”، وفوجئتُ بسرعة استجابة حكومةِ الكيان الصهيوني لهرطقات الرئيس الأمريكي وهذيانِهِ، رغم الاستنكار الدولي الواسع لفكرة تهجير الفلسطينيين من أرضهم، واستيلاء شركات العقار الأمريكية على غزّة وربما الضفة الغربية في المستقبل القريب أو البعيد -لا قدّر الله- إذا نجحت مخططات الأعداء في إخراج الفلسطينيين من أرضهم، ولا أظنُّ أن هذه المخططات سوف يكتبُ لها النّجاح ولكن هذا من باب بيان ما يُخطّط له الكيان الصهيوني وداعموه من أحزاب اليمين المتطرف في الدول الغربية، والذّين يعتقدون أنّ لهذا الكيان الغاصب حقاً توراتياً في أرض فلسطين!
وأمام هذه التطورات الصّادمة والأحداث المتسارعة لا بدّ من همسات في آذان أحبابنا وإخواننا وأبنائنا من أهل الرباط في الأرض المباركة. وقبل أن نذكّرهُم بما يعرفه الكثيرُ منهم عن شرف المرابطة في تلك الأرض المباركة وعن الأجور العظيمة التي أعدّها ربُ البريّات لأهل الرباط، قبل هذا كلّه ينبغي أن نعترف جميعا أنّ التّضحيات التي قدّمها أهل غزّة بعد السّابع من أكتوبر تفوقُ الخيال وتتجاوز حسابات البشر كلها، فالحساباتُ الماديّة للربح والخسارة لا وُجُود لها في قلُوب أهل غزّة، ولا يمكنها أن تتحكم في المعادلة التي جرت على نسقها الأحداثُ التّاريخية في أرض غزّة بعد السّابع من أكتوبر.
فلم تبقَ لنا إلا حسابات السّماء، فهي الضامنُ الوحيدُ بعد الله سبحانه وتعالى لقدرة أهل غزّة على الثّباتِ والصّمُودِ ونبذ مخططات التّهجير.
فضل الرباط في سبيل الله
ونصُوصُ الشريعة تعدُ المرابطين في سبيل الله بالأجُور العظيمة والمنازل الرفيعة، ولا بدّ لأهل الإيمان من استحضارها وتداولها أثناء الأزمات التي تعرّضُ أوطان المسلمين لخطر الاجتياح أو الاحتلال الأجنبي.
وقبل ذلك لابُدّ من التّذكير أنّه لا يُوجدُ عسرٌ لا يعقبُهُ يُسرٌ، بل لا بُدّ من الفرج بعد الشّدة، وهذه سنّةُ المولى عزّ وجلّ في أهل البلاء، فقد روى الإمام مالك في (الموطأ) عن زيد بن أسلم قال: كتبَ أبو عبيدة بن الجرّاح إلى عمر بن الخطّاب يذكُرُ له جموعاً من الرّوم وما يتخوّفُ منهم، فكتب إليه عمر: “أمّا بعد: فإنّهُ مهما ينزل بعبدٍ مؤمنٍ من مُنزَلِ شدّةٍ، يجعلُ اللهُ بعده فرجاً، وإنّهُ لن يغلب عسرٌ يسرين، وأنّ الله تعالى يقولُ في كتابه ﴿يَا أيّهَا الْذِينَ ءامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقوا اللهَ لَعَلّكمْ تُفْلِحُونَ﴾”1.
أمّا الرباطُ الذي هو: حبسُ النّفس بالإقامةِ في الثُغُورِ التي يخشى فيها من هجماتِ العدُوِّ، من أجل تقوية المسلمين والدّفاع عن أراضيهم وأعراضهم وما يملكُون.. فلهُ فضلٌ كبيرٌ عند الله عزّ وجلّ.
فقد روى مسلمٌ في صحيحه عن سلمان الخير رضي الله عنهُ قال سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: “رباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيام شهرٍ وقيامه، وإن ماتَ جرى عليه عمله الذّي كان يعمله، وأجريَ عليه رزقُهُ وأمنَ الفُتّان”2.
ومعنى هذا الحديث3 -والله تعالى أعلم- أنّ رباط يوم وليلةٍ خيرٌ من عبادة مسلم يصومُ شهراً كاملاً في سبيل الله ويقومُ لياليَ ذلك الشهر، وإن ماتَ هذا المُرابطُ في سبيل الله أثناء رباطهِ جرى عليه عملُهُ الذّي كان يعمله قبل موته، ولا تنقطعُ أجورُ أعماله التي كان يعملُها أثناء الرّباط وأوّلُها المرابطةُ على الثغُور ثمّ تكتبُ له سائرُ الأعمال كالفرائض والنوافل من صلاةٍ أو صيامٍ أو ذكرٍ وتسبيحٍ، كلّ ذلك لا ينقطعُ أجرُهُ بخلافِ بقيّةِ النّاسِ كما هو معروفٌ من الحديث المشهور الذي قال فيه الحبيب ﷺ: “إذا مات الإنسانُ انقطعَ عنه عمله إلا من ثلاثة: إلّا من صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنتفعُ به أو ولدٍ صالحٍ يدعو له”4.
ثمّ قال: “وأجري عليه رزقه”، وهذا في البرزخ يأتيه من نعيم الجنّةِ وطيّباتِها ما يلتذّ به وتقرُّ به عينه، ثم قال: “وأمِنَ الفُتَّان” والمقصودُ بهذا هو سُؤالُ الملكين يأتيان كلّ ميّتٍ يسألانه عن ربّه ودينهِ ونبيّه ﷺ وهذه فتنةٌ لكلِّ إنسان، فيُحتمَلُ ألا يأتيانه أصلاً وقد يأتيانه للسؤال، ولكن لا يحصُلُ له ما يحصل لغيره من الانتهار والخوف.
وهذه المعاني العظيمة وردت في أحاديث أخرى منها ما رواهُ أبو داود في سننه من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قال: “كلُّ الميّتِ5 يُختَمُ على عمله إلا المرابطُ فإنّهُ ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمَّنُ من فتّانِ القبر”6.
وآخرُ همسة في أذُنِ كلّ من يرغبُ في مغادرة الشام إلى غيرها من البلاد7، هي ما قالَه الحبيبُ ﷺ لصاحبه عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه: “عليك بالشام، فإنّها خيرةُ الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده”8.
فيا أهل الشّام، الثبات ثمّ الثبات! الزموا أرضكم تكونوا من خيرة عباد الله واجتمعُوا لتدمير مخططات الأعداء وإفشالها، فالمحنة عظيمة والألم عميق، ولكن ما بعد شدّة الظلام إلا الفجر وإنّ غدا لناظره قريب.
ولئن كان الرباط على أرض فلسطين واجباً شرعياً متحتماً على أهل الأرض، فكذلك بقية الأمة من الأفراد والجماعات والحكام، واجبهم المرابطة على جبهات العطاء والدعم السياسي والإعلامي والمعنوي وجميع أشكال الدعم التي يمكنها أن تخفف من معاناة الشعب الفلسطيني أو تُمكِّنَه من الثبات على أرضه والقيام بواجب الرباط على أحسن الوجوه وأتمّها.
فكما أنّ الحبيب ﷺ سمّى المداومة على الصلاة في المسجد رباطاً شرعياً يُثاب عليه المحافظُ على الصلوات الخمسة في جماعة9، يمكننا أن نقتبس من هذا التشبيه النبوي الشريف فكرة تشبيه المداومة على الدعاء للمنكوبين، والمقاطعة الاقتصادية بجميع أشكالها، والاستمرار في التبرع والعطاء المادي بالمرابطة التي يثاب فاعلها، والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمُون.