
بيان من علماء الأمة حول تصريحات اترمب بشأن تهجير سكان غزة والسيطرة الأمريكية على القطاع
فبراير 14, 2025
بعد أن نفذ الاحتلال شروطها.. المقاومة تطلق سراح الدفعة السادسة للأسرى الصهاينة
فبراير 15, 2025سوريا الجديدة – النموذج والتطبيق
الشيخ حسن شبّاني – سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ في كندا
الحمد لله وكفى وصلاة وسلام على النبي المصطفى وبعد:
فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد باب من أبواب الفقه يجهله كثيرٌ من الناس بسبب غلبة العاطفة على مشاعر النّاس، خاصّة في القضايا العامة التي تشغل بال النّاس هذه الأيام والتي قد تختلط فيها المصالح والمفاسد أو تتزاحم المصالح فيما بينها، حتى يحتار المرء في كيفية الترجيح بينها.
فينظرُ أناسٌ إلى أمر ما من زاوية واحدة وينظر إليه آخرون من زاوية أخرى، وعندها يحدث التعارض بين الآراء وتكثرُ المشاكسات بين النّاس على وسائل التواصل الاجتماعي أو في واقع حياتهم اليومية.
والسبب الآخر في عدم انتشار هذا الفقه بين عوام النّاس هو قلة المتحدثين حوله من الفقهاء والعلماء والدّارسين لشريعة ربّ العالمين.
وهو علم قد تمنّى الحبيب ﷺ أن يزداد منه، حيث تمنّى أن يكون موسى عليه السلام قد صبر مع الخضر عليه السّلام، كي يقصّ علينا الثاني من أعاجيب هذا العلم وغرائبه أثناء رحلة موسى عليه السّلام في طلبه للعلم والتعلم من نبي من الأنبياء1 جمع الله له بين العلم والرحمة2.
فقد روى الشيخان في حديث طويل قوله ﷺ: “يرحمُ الله موسى، لوددت أنّه كان صبر حتى يقُصَّ علينا من أخبارهما”3.
قد يقول قائل: ألم يعلم النبيّ ﷺ أنّ الله قد قدّر لقصة موسى مع الخضر ﷺ أن تنتهي إلى هذا الحدّ الوارد في سورة الكهف لعلمه سبحانه وتعالى أنّ هذا القدر كافٍ في إقامة الحجّة على النّاس حتى يتعرفوا على أسرار هذا العلم وقواعده؟
والجوابُ: بلى، فالرسول ﷺ أعلمُ النّاس بأسرار الوحي وحكمة الله البالغة في التنزيل، ولكنّه المعلم الأوّل لهذه الأمة، فلربما قال ما قال رغبة في الحث على تعلم هذا العلم الذّي يسمّيه الفقهاء “فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد”.
فكلما علا شأنُ علم من العلوم في نظر الطالبين، اجتهد الدّارسون وأهل الفضل والفقه في تحصيله وسبر أغواره، والله أعلم بمراده ومراد رسوله ﷺ.
وقد لخّص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الهدف الأساسي من هذا الباب الدقيق من أبواب الفقه، فقال: “وقد كتبت ما يشبه هذا في “قاعدة الإمارة والخلافة”، وفي أنّ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنّها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما”4.
والمطالعُ لسنة الحبيب ﷺ يجد أنه قد مارس هذه الموازنات بين المصالح والمفاسد أو بين المفاسد على اختلاف مراتبها، فقد يتحمّل مفسدة صغرى في مقابل دفع مفسدة كبرى واضحة المعالم يُتوقّعُ حصولها إذا لم تندفع بوقوع المفسدة الصغرى.
والأمثلة كثيرة منها:
- أنّ النبي ﷺ ترك صلاة الجنازة على مَن مات وعليه دَين لم يترك في مقابله وفاءً، فقد روى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في حديث طويل قال في آخره: “ثمّ أُتِيَ بالثالثة، فقالُوا: صلّ عليها، قال: هل ترك شيئا قالُوا: لا، قال: فهل عليه دينٌ، قالوا: ثلاثةُ دنانير، قال: صلُّوا على صاحبكم، قال: أبو قتادة: صلّ عليه يا رسول الله، وعليّ دينه، فصلّى عليه”5. وهنا جاز لرسول الله ﷺ أن يترك صلاة الجنازة على المدينِ الذي لم يترك وفاءً لدينه. وهي مفسدة خاصة تقع بفوات مصلحة وبركة دعاء النبيّ ﷺ للميّت رغم ما قد يؤدّي ذلك إلى انكسار خواطر أقاربه ومحبيه، ولكنّها تبقى مفسدةً محدودةً في مقابل دفع مفسدة أكبر منها قد تنتُجُ عن التساهل في قضاء الديون وضياع الحقوق المالية بين النّاس.
- ومن ذلك أيضاً الموازنة التّي بنى عليها النبيّ ﷺ قبوله لشروط كفار مكة في صلح الحديبية، فبعض هذه الشروط كانت قاسية ومجحفة في حقّ المسلمين حيث أحدثت صدمة لدى بعض الصّحابة رضي الله عنهم. روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قوله في قصة صلح الحديبية: “فاشترطوا على النبيّ ﷺ أنّ من جاء منكم لم نردَّهُ عليكم، ومن جاءكم منّا رددتموه علينا، فقالُوا: يا رسول الله، أنكتب هذا؟ قال: نعم، إنّه من ذهب منّا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعلُ الله له فرجا ومخرجا”6. وقد ذكر علماؤنا7 المصالح الظاهرة المترتبة على هذا الصلح رغم ما فيه من بعض المفاسد التي أنكرها بعض الصّحابة لعجزهم عن إدراك أسرار هذه الموازنة التي ذهب إليها النبي ﷺ، بسبب كمال فقهه وعلمه بأسرار الشريعة وقواعدها، أو لصدور أفعاله وتصرفاته من منطلق الوحي الربّاني. فكان هذا الصلح فاتحة خير على المسلمين بشّر الله بها نبيّه ﷺ عندما أوحى إليه بسورة الفتح وهو في طريق العودة إلى المدينة النبويّة.
- وهناك أمثلة أخرى لا يتسع المقام للتفصيل فيها، كعدول النبي ﷺ عن قتل كبار المنافقين الذين كانُوا يسعون بالفتنة داخل المجتمع المسلم، خشية أن يقول النّاسُ إنّ محمّداً ﷺ يقتلُ أصحابه، وهذا قد يجر إلى مفسدة كبرى وهي نفور الناس من الدعوة الإسلامية وخوفهم من اللحاق بجماعة المسلمين بسبب ما يخشونه من القتل والتنكيل.
سوريا الجديدة أمام التحديات
الحمد لله الذي منّ على المسلمين في سوريا بزوال حكم عائلة الأسد، ومهّد لهم الطريق لبناء دولتهم الجديدة على أسس مختلفة وقواعد متينة راسخة، ولكنهم يواجهون تحديات كبيرة ومشاكل لا حصر لها، تركها النظام البائدُ وراءه، فأورثهم دولة متهالكة ومجتمعاً مليئاً بالانقسامات الطائفية والعرقية وبنية تحتية في غاية الضعف والوهن.
وأمام هذه العقبات والمشاكل والتحديات لا بد للقائمين على الإدارة الجديدة من الاستعانة -بعد الله عز وجل- بهذا الموروث المبارك من فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، ولا بد من استشارة الخبراء والفقهاء الذين أنعم الله عليهم بنعمة الفقه في الدين وعندهم قدرة على خوض غمار هذه الترجيحات والموازنات.
والواجب هو أن يقوم المختصّون من أهل الفقه والعلم وأئمة المساجد في تلك البلاد بنشر قواعد هذا العلم وتبسيطه لعامة الناس، حتى يلتمسوا العذر للقيادة الجديدة إذا أقبلت على ترجيح مصلحة على أخرى أو ارتكاب مفسدة صغرى في مقابل دفع ما هو أعظم من المفاسد والشرور.
والعاقل الحكيم تكفيه الإشارة والله سبحانه وتعالى الموفق لكل خير، يهدي الله لنوره من يشاء، ومن يُرد الله به خيراً يفقهه في الدّين.
والحمد لله ربّ العالمين.
ـــــــــــــ
1 الصّحيح من أقوال أهل العلم أنَّ الخَضِر عليه السلام كان نبيّاً يوحَى إليه، ولم يكن مجرد وليٍ من الأولياء، والقول الثاني قد فتح أبواباً من الشرّ كانت الأمة المسلمة في غنًى عنها وعن آثارها السيّئة.
2 ينظر إلى: سورة الكهف (آية 65).
3 رواه البخاري في كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أيُّ النّاس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله، رقم: 122. المصدر: موسوعة الحديث الشريف، ص: 13، دار السلام للنشر و التوزيع، الرياض، ط: 3 ورواه مسلم -واللفظ له- في كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر عليه السلام، رقم: 2380 المصدر نفسه، ص: 1096.
4 مجموعة الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، المجلد العاشر (ص:20-30) دار الوفاء، المنصورة، ط: 2 عام 1419هـ 1998م.
5 رواه الإمام البخاري في كتاب الحوالات، باب: إذا أحال دين الميّت على رجل جاز، رقم: 2289، المصدر: موسوعة الحديث الشريف.
6 رواه مسلم في كتاب الجهاد، باب: صلح الحديبية، رقم: 1784 المصدر: موسوعة الحديث الشريف، ص: 996.
7 منهم الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم عند الكلام على شرح هذا الحديث.