
مستوطنون يقيمون بؤرة بالخليل ويعتدون على أهالي رام الله
يوليو 5, 2025
سننتصر بأمر الله رغم كل من كفر ومن خَذَلْ
يوليو 5, 2025كامل زكي
باحث شرعي
لم يخلُ زمانٌ من قوي يأكل حق ضعيف، ومعتدٍ وضحية، وظالم ومظلوم. خُلِق الإنسان ظلوماً جهولاً. وقد نصب الله الحساب يوم القيامة، حتى تقتص الشاة الجلحاء من القرناء، يومها يُنادَى: لا ظلم اليوم.
لكن، هل كُتب على المؤمنين تلقي الظلم في الدنيا؟ هل الصبر على القهر هو السبيل الوحيد إلى الجنة؟ هل سعينا للآخرة يمنعنا من الدفاع عن أرضنا؟ هل الاستضعاف قدرنا المحتوم؟
يختلف جواب السؤال بين المسيحية والإسلام..
فوفق (الكتاب المقدس) جاء يسوع إلى عالم شرير لا ليواجه شرّه، بل ليموت على صليبه فداء للبشرية وتكفيراً لخطيئتها: “ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ”1، “هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ”2، “المسيح قد ذُبح لأجلنا”3.
جاء ليتحمّل الظلم لا ليرفعه، مبشراً المظلومين بأجر الآخرة: “طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ.. افرحوا وتهللوا، لأن أجركم عظيم في السماوات”4.
سيدعو ويُبشّر ويصنع المعجزات، فإن أرادوا النَيْل منه لن يقاوم، بل يستسلم كحمل سيق إلى الذبح، ماشياً إلى صليبه بقدميه.
فماذا عن الإسلام ونبيه ﷺ؟
في البخاري: “لِي خَمْسَةُ أسْماء..”.، ومنها: “وأنا الماحِي الذي يَمْحُو اللَّهُ بي الكُفْر”5.
“الماحي” هو من جاء بمهمة واضحة: أن يُزيل الكفر ويقيم الإيمان.
فإن تم ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة فبها ونعمت، يُعرض الحق فتلين القلوب، فُيمحى الكفر وتتم المهمة!
أما والكفر ليس مجرد أفكار في عقول البشر أو عواطف في قلوبهم، وإنما يتمثل على الأرض في قوة وسلطة ونُظُم مادية متكاملة تحميه وترسّخه، فإن مهمة محو الكفر ودفع الظلم ستتطلب ما يزيد على مجرّد الدعوة والبلاغ، من امتلاك القوة: ﴿تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ﴾ [الأنفال: 60]. وتقويض لهذه المنظومات المادية “وإن الله أمرني أن أحرّق قريشاً”6، وإقامة نُظُم الحق التي فيها يحيى المسلمون آمنين، يعبدون الله لا يشركون به شيئا ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنࣰاۚ یَعۡبُدُونَنِی لَا یُشۡرِكُونَ بِی شَیۡـࣰٔا﴾ [النور: 55].
وفق هذه الفلسفة، لن يُذبح نبي الإسلام ﷺ مستسلماً أو يُصلب للفداء، بل سيقاوم، بل وينتصر. ومهمته التي بدأت بالموعظة الحسنة لن تتم إلا بنصر عسكري، حين يفتح مكة رفقة عشرة آلاف مقاتل!
حمل مذبوح وماحٍ للكفر
وبين “حمَل مذبوح” و”ماحٍ يمحو الكفر”، ستختلف السِّيرتان وتتباين الشريعتان.
فيسوع طالب الموت لم يحتمِ من الرومان، أما محمد طالب النصر فاحتمى بأبي طالب ثم المطعم بن عدي ثم الأوس والخزرج، أهل السلاح.
يسوع علم أن مقتله في أورشليم فسار إليها “وَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِالأَنْبِيَاءِ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ لأَنَّهُ يُسَلَّمُ إِلَى الأُمَمِ وَيُسْتَهْزَأُ بِهِ وَيُشْتَمُ وَيُتْفَلُ عَلَيْهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَقْتُلُونَهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ”7.
أما محمد لما علم بمؤامرة قريش لقتله.. هاجر ونجا.
يسوع عرف خائنه يهوذا، فتركه يخونه، ما أدّى لمقتله، أما محمد فما علم برسالة حاطب إلى قريش يُفشي سر الفتح، إلا وتعقبها وصادرها!
بطرس يستلّ سيفه دفاعًا عن يسوع فينهاه8، بينما يندب النبي ﷺ أصحابه للدفاع عنه يوم أُحُد: “من يردّهم عنا وله الجنة”9.
يسوع يُضرب ويُصلب فيدعو لشانئيه: “يا أبت اغفر لهم”10، أما محمد فيدعو على من آذاه: “اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بأَبِي جَهْلٍ، وعَلَيْكَ بعُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وشيبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، والوَلِيدِ بنِ عُتْبَةَ، وأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وعُقْبَةَ بنِ أبِي مُعَيْطٍ”11.
في كل موقف تشعر وكأن يسوع يسير إلى حتفه حاملاً صليبه، كما قال لأتباعه “إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي”12، بينما تشعر كأن محمداً حريص ألا ينال منه عدوه، بل يتجهز للإجهاز عليه، وهكذا أمر أتباعه وفق ما قاله الله عز وجل: ﴿وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ﴾.
المسيحية ترى العالم شريراً: “لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَم”13. وتعلّم أن رئيس هذا العالم هو إبليس14.
بينما الإسلام يرى العالم نعمة: ﴿خَلَقَ لَكُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعاً﴾ [البقرة: 29]، والمستخلف عليها هو الإنسان ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30].
يسوع ينفي انتماءه للعالم: “أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْق، أنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ”15. وكذا يسلّي أتباعه: “وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ”16.
بينما يقرر محمد انتماءه لهذا العالم، بل للمتواضع منه: “إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد”17. ويعلّم أصحابه: “كلكم بنو آدم، وآدم من تراب”18.
لن يصارع يسوع عدوه على هذا العالم: “لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ”19.
أما محمدٌ فسيطلب مُلك هذا العالم لأمته: “إن الله زوي لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها”20. ويجاهد من يظلمه وفق ما قاله الله عز وجل: ﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِینَ…﴾ [النساء: ٧٥]؛ بل ويسير إلى أرض الظالمين فاتحاً: “نُصرت بالرعب مسيرة شهر”21.
في المسيحية: “لا تقاوموا الشر”22.
في الإسلام: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251].
النصر في المسيحية هو القتل والصلب والاستشهاد: “وهم غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ”23. “ثقوا أني قد غلبت العالم”24.
النصر في الإسلام قتال وكسر للعدو: ﴿قَـٰتِلُوهُمۡ یُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَیۡدِیكُمۡ وَیُخۡزِهِمۡ وَیَنصُرۡكُمۡ عَلَیۡهِمۡ وَیَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمࣲ مُّؤۡمِنِینَ﴾ ومآله المنشود: التمكين في هذه الدنيا ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ [النور: 55].
المسيحية ستُعلّم: “مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا”. “وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا”23!
بينما سيعلّم الإسلام: ﴿وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ و﴿والجُرُوحَ قِصاصٌ﴾ بل إن “مَن قُتِلَ دون ماله فهو شهيد”!
المسيحية تطالب صاحب الحق بأن يكون “مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ”24.
في الإسلام يُعظّم طلب الحق، حتى يقال لمن أغلظ على النبي ﷺ نفسه: “دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا”25.
تمتدح المسيحية الوديع: “طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ”26.
يذم الإسلام الضعيف: “وأهلُ النَّارِ خَمسةٌ: الضَّعِيفُ الذَّي لَا زَبْرَ لَه”27.
في المسيحية: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم28.
في الإسلام: ﴿قَـٰتِلُوهُمۡ یُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَیۡدِیكُمۡ وَیُخۡزِهِمۡ وَیَنصُرۡكُمۡ عَلَیۡهِمۡ وَیَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمࣲ مُّؤۡمِنِینَ﴾ [التوبة: ١٤].
في المسيحية: “لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟”29.
في الإسلام: ﴿فَٱمۡشُوا۟ فِی مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا۟ مِن رِّزۡقِهِ﴾ [المُلك: 15]. و: “إنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا”30.
في المسيحية: “وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ، وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا… فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟”31.
في الإسلام يُسأل النبي ﷺ عن الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةً؟ فيقول: “إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ”32.
حتى الطير، تُرزق في المسيحية بلا فعل منها: “اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا؟”33.
في الإسلام تُرزق إذا فعلت: “تغدو خماصاً وتروح بطاناً”34.
المال ضد الله في المسيحية: “لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ”35.
المال في الإسلام نعمة واستخلاف، إن جمعه المرء للخير يُثاب، وإن جمعه للشر يُتوعّد بالعقاب، الخيل لثلاثة، لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجلٍ وزر”36.
في المسيحية مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ37.
في الإسلام قد يكون المال باب الجنة: “ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر”38، و”ما ضرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم”39. وفي ثواب صدقات الأغنياء ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء40.
في عظة الجبل: “طوبى لكم أيها الفقراء فإن لكم ملكوت السماوات”41،
في دعاء النبي ﷺ: “اللَّهمَّ إنِّي أَعوذُ بكَ منَ الكُفرِ والفَقر”ِ42. والاستعاذة من المغرم، معللاً “إن الرَّجلَ إذا غرِمَ استدانَ، حدَّثَ فكذَبَ وَوعدَ فأخلفَ”43.
يطلب ذو مال نصيحة يسوع، فيقول: “بعْ كل ما لك وأعطِ الفقراء فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني”، فيتردد، فيقول يسوع: “إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت الله”44.
يأتي سعدٌ إلى رسول الله ﷺ ليبذل ماله كله للفقراء: فلا يأذن له إلا في “الثلث، والثلث كثير… فإنك إن تَذَر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس”45، ومن ثم كانت خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى46. أي التي يبقى صاحبها بعدها غنياً!
المسيحية إذن تطلب جنة السماء بمعارضة نواميس الأرض، وتطالب الناس لا بما يخالف هواهم فقط، بل فطرتهم، وترسم نموذجاً ” سماوياً” لا يكاد يلتزمه أحد، لذا قال تلامذته: “فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟”47.
بينما سيطلب الإسلام الجنة محترماً سُنن الأرض، وينشد مملكة السماء بالتمكين أولاً في الأرض، ويكلّف الناس مراعياً طبيعتهم الأرضية وضعفهم الفطري ﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَـٰنُ ضَعِیفࣰا﴾ [النساء: ٢٨]، فيندب إلى القليل المستطاع، الذي إن التزمته دخلت الجنة: “أفلح إن صدق”48.
لذلك، فما بدأت به المسيحية من رأفة ورحمة تطوّر مع الوقت إلى “رهبانية” مبتدعة تدعو المسيحي إلى الانسحاب من العالم الذي يحيا فيه، وتنهاه عن المطالبة بحقه أو مقاومة من ظلمه، بل “ليحمل كل منكم صليبه”، وهنيئاً لمن يذبحه عدوه، كحمل مذبوح!
بينما راعى الإسلام هذا الملمح منذ البداية، مدركاً أن الاستسلام يخالف الفطرة، بل ويمكّن للكفر ويرسّخ للظلم، ويقوّض الدين ويفضّ الناس عنه، إذ البشر تقصر هممهم عن استدامة العيش تحت سياط الجلادين، فنَدَبَهم إلى المقاومة، كي تُشفى صدورهم ويذهب غيظ قلوبهم!
لذا كانت ذروة سنام الإسلام الجهاد، بينما ذروة سنام المسيحية الموت على الصليب!
لم تأكل المسيحية الطعام ولم تمشِ في الأسواق، بل سارت إلى حتفها حاملة صليبها لتموت عليه، وارثة ملكوت السماء.
بينما أكل الإسلام الطعام ومشي في الأسواق، وسار إلى دار عدوه غازياً، دخل عليه أرضه فاتحاً، ورث هذا العالم، قبل أن يرث الجنة!
جاء يسوع ليخلّص المؤمنين من ضيق الأرض إلى سعة السماء “الَّذِينَ أَتَوْا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوا ثِيَابَهُمْ فِي دَمِ الْخَرُوفِ”49، بينما أتى محمد ليوسّع عليهم الأرض ويضيّقها على أعدائه؛ كما قال الله عز وجل: ﴿وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِیَـٰرَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰلَهُمۡ﴾ [الأحزاب: 27].
سؤال المقاومة في مقابل الاستسلام إذن هو نفسه سؤال الفطرة في مقابل الرهبانية.
والمقاومة والرهباينة..كلاهما كرهٌ لكم، لكن كتب الله الأول عالماً مآله وهو خير لكم، بينما ابتدع البشر الثاني، فما رعوها حق رعايتها.
وهنا يُطرح السؤال:
هل كان المسيح “مثالياً” إذ لم يطلب الدنيا ولم يخش على نفسه وسامح أعداءه، بينما كان النبي –حاشاه ﷺ- “براجماتياً”، فطلب الـمُلك واحتمى بالبشر وانتقم من أعدائه؟!
لقد كان فراشه من أُدْم وحشْوه من ليف50، وما أكل خبزًا مرقّقًا حتى مات51، وكان ينظر إلى ثلاثة أهلّة وما أوقدت في أبياته كلها نار52، ومات ودرعه مرهونة53، وتُوفي وما في بيته إلا شطر شعير54.
يوم حُنين فرّ الناس، فركض ببغلته وحده نحو العدو، وإذ فزع أهل المدينة، لقوه عائداً من مصدر الخطر قائلاً: “لن تراعوا”55، وكان الصحابة إذا اشتد القتال يتقون به، وهو أقربهم للعدو56.
بعث الله إليه مَلَك الجبال فقال: “إن شئتَ أطبقتُ عليهم”، فقال ﷺ: “بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله”57، وعنّفه أعرابي بجفاء فضحك وأمر له بعطاء، وعفا عن مكة كلها إلا أربعة، نجا منهما اثنان وحسُن إسلامهم!
لقد كان أزهد الناس وأشجعهم وأسمحهم، لكنه كان المكلّف بمحو الكفر وإقامة الدين، هنا على الأرض لا في السماء، فكان لابد لهذا المقصد من أسباب أرضية، جسده يخوض معركة إصلاح الأرض فهو من طينتها، وروحه ساجدة لله تحت العرش، وكأنها لا تنتمي لهذا العالم، فكانت هذه القصة الفريدة: رجل بدأ وحيداً بلا أي سلطان، وانتهى مهيمناً على جزيرة العرب، ومن مُتاجر متربّح مع خديجة في شبابه، إلى وفاته وما في بيته شيء يؤكل، إلا شطر شعير لعائشة!
محمدٌ ﷺ لم يكن أقل زهداً من يسوع، غير أنه لم يمُت على صليب أورشليم -وما صلبوه- وإنما ظفر بسلطان مكة!
في ضوء ما سبق، ربما نفهم حديث عمر حين دخل على رسول الله ﷺ فوجده نائماً على حصير وقد ترك الأثر في جنبه، فبكى، وقال مقارناً إياه بكسر وقيصر: “يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله!” فقال ﷺ: “أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟”58.
هو من احتقر الدنيا لنفسه، لكن انتزعها من عدوه لأمته، فأثّر الحصير في جسده الشريف، بينما ورثت أمته قصور كسرى! هو المسامح، الذي عفا عن مكة كلها، بعد أن دمّر أصنامها! هو المتواضع، المطأطئ رأسه حتى لامست لحيته ظهر بعيره، بعد أن دخل مكة فاتحا بعشرة آلاف مقاتل! هو سيدنا وإمامنا، ونحن لأثره مقتفون.
نحن المقاومون الزاهدون، المتمكنون المترفّعون، الفاتحون المتواضعون، المتسيّدون العادلون! نحن من نزهد ولا نُذبح، نترفّع ولا نُصلب، وإذا حكمنا، فلا نظلم! نحن المسلمون، الماحون الذين يمحو الله بنا الكفر، ويدفع بنا الظلم!
ــــــــــــــــــــــ
- يسوع المسيح: المقصود شخص المسيح وسيرته وتعاليمه وفق ما ورد في الكتاب المقدس، لا وفق ما نعتقده نحن فيه كمسلمين.
1 إشعياء 53: 7.
2 يوحنا 1:29.
3 رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 5: 7.
4 متى 5: 11.
5 البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم.
6 مسلم، عن عياض بن حمار المجاشعي.
7 لوقا 18: 31.
8 “فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!”. متى 26: 52.
9 مسلم، عن أنس بن مالك.
10 لوقا 23: 34.
11 البخاري ومسلم، عن عبد الله بن مسعود.
12 لوقا 9: 23.
13 يوحنا 2: 16.
14 وهذا المعنى يرد في عدة نصوص، مثل يوحنّا 12: 31-32 “الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجاً وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع”، وكذا في يوحنا 16: 11.
15 يوحنا 8: 23.
16 يوحنا 15: 19.
17 سنن ابن ماجه، وصححه الألباني.
18 الترمذي وأبو داود وأحمد، وصححه الألباني.
19 يوحنا 18: 39.
20 صحيح مسلم، عن ثوبان.
21 البخاري، عن جابر بن عبد الله.
22 متى 5: 39.
23 متى 5: 39، 40.
24 متى 5: 25.
25 البخاري ومسلم، عن أبي هريرة.
26 متى 5: 5.
27 صحيح مسلم، عن عياض بن حمار المجاشعي.
28 متى 5: 44.
29 متى 6: 25.
30 البخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمرو.
31 متى 6: 30.
32 صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود.
33 متى 6: 26.
34 الترمذي وابن ماجة وأحمد، وصححه الألباني.
35 لوقا 16: 13.
36 البخاري ومسلم، عن أبي هريرة.
37 متى 19: 24.
38 الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، وصححه الألباني.
39 الترمذي وأحمد، وحسنه الألباني.
40 البخاري ومسلم، عن أبي هريرة.
41 لوقا 20: 6.
42 النسائي وابن حبان وابن خزيمة، وصححه الألباني.
43 البخاري ومسلم، عن أم المؤمنين عائشة.
44 متى 19 : 21-23.
45 البخاري، عن سعد بن أبي وقاص.
46 البخاري، عن أبي هريرة.
47 لوقا 18: 26.
48 البخاري ومسلم، عن طلحة بن عبيد الله.
49 رؤيا يوحنا 7: 14.
50 البخاري ومسلم، عن أم المؤمنين عائشة.
51 البخاري، عن أنس بن مالك.
52 البخاري ومسلم، عن أم المؤمنين عائشة.
53 البخاري، عن أم المؤمنين عائشة.
54 البخاري، عن أم المؤمنين عائشة.
55 البخاري ومسلم، عن أنس بن مالك.
56 عند أحمد، وصحح إسناده العلامة أحمد شاكر.
57 البخاري ومسلم، عن أم المؤمنين عائشة.
58 مسلم، عن عمر بن الخطاب.