
نحو منهج حركي في دراسة السيرة النبوية 3
مايو 4, 2025
يا أهل غزة لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
مايو 5, 2025أكبر دليل على نبوة محمد ﷺ
أ. د جمال بن عمار الأحمر الأنصاري
سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ بالجزائر
القرآن معجزة عابرة للمكان بل عابرة للأزمان؛ إنها كبرى معجزات النبي الأمي ﷺ؛ أعجزت أهلها العرب لغة وبلاغة، وأعجزت الثقلين عقيدة وشريعة وأخلاقاً، بل أعجزتهم في الحديث عن عوالم الشهادة والغيب بتفاصيل لا زالت تتحدى العلماء وكل كشوفهم العلمية. وبرهنت أن خالق الكون بما فيه من نفوس وحياة وجماد هو منزل القرآن؛ فالأول كتاب الله المفتوح والثاني كتاب الله المتلوّ.
قال الله : ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء: 89].
قال الله : ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 23-24].
قال الله : ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88].
قال الشيخ د. عبد الله دراز رحمه الله: “إن التاريخ سجّل على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغويّة في أمّة من الأمم ما بلغته العربيّة في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتّى أدركت هذه اللغة أشدّها، وتمّ لها بقدر الطاقة البشريّة تهذيب كلماتها وأساليبها؟! ما هذه المجموع المحتشدة في الصحراء؟! وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟! إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم، وأجود صناعتهم، وما هي إلا بضاعة الكلام، وصناعة الشعر والخطابة، يتبارون في عرضها، واختيار أحسنها، والمفاخرة بها، ويتنافسون فيها أشدّ التنافس، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم، وما أمْرُ حسَّان والخنساء وغيرهما بخاف على متأدّب!
فما هو إلا أن جاء القرآن.. وإذا الأسواق قد انفضّت، إلا منه، وإذا الأندية قد صفرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يباريه أو يجاريه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى! ذلك على أنه لم يسدّ عليهم باب المعارضة، بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفراداً أو جماعات، بل تحدّاهم وكرّر عليهم ذلك التحدّي في صور شتّى، متهكّماً بهم، متنزّلاً معهم إلى الأخفّ فالأخفّ: فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله! ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله! ثم بسورة واحدة من مثله!”.
وقد كتبَ الأديب اللغوي الكبير الجاحظُ مقالةً رائعة في هذا الموضوع يحسن بنا أن نورِدَها هنا؛ فإنها مقالة جديرة بالاهتِمام، قال الجاحظ:
“بَعث اللهُ محمدًا ﷺ أكثر ما كانت العربُ شاعرًا وخطيبًا، وأحكَمَ ما كانت لغةً، وأشدَّ ما كانت عدَّةً، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله، وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجَّة، فلمَّا قطع العذر، وأزال الشُّبهة، وصار الذي يمنعهم مِن الإقرار الهوى والحميَّة دون الجهل والحيرة، حمَلَهم على حظِّهم بالسيف، فنَصَبَ لهم الحرب، ونصبوا له، وقتل مِن عِلْيَتِهم وأعلامهم، وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجُّ عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحًا ومساءً إلى أن يُعارِضوه إنْ كان كاذبًا بسورة واحدة، أو بآيات يَسِيرة، فكلَّما ازداد تحدِّيًا لهم بها، وتقريعًا لعجزهم عنها، تكشَّف عن نقْصهم ما كان مستورًا، وظهر منه ما كان خفيًّا، فحين لم يجدوا حِيلةً ولا حُجَّة قالوا: أنتَ تعرِف مِن أخبار الأُمَم ما لا نعرِف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتَرَيات، فلم يَرُمْ ذلك خطيبٌ، ولا طمع فيه شاعر…
فدلَّ ذلك العاقلَ على عجز القوم مع كثرة كلامِهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شُعرائهم، وكثرة مَن هجاه منهم، وعارَض شُعراء أصحابه وخطباء أمَّته؛ لأن سورة واحدة وآيات يَسيرة كانت أنقضَ لقوله، وأفسَد لأمْره، وأبلَغ في تكذيبه، وأسرَع في تفريق أتباعه مِن بذْل النفوس، والخروج مِن الأوطان، وإنفاق الأموال.
وهذا مِن جليل التدبير الذي لا يخفَى على مَن هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات. ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخُطَب الطِّوال البليغة، والقِصار المُوجَزة، ولهم الأسْجاع والمزدوج، واللَّفظ المنثور، ثم يتحدَّى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم. فمُحال -أكرمك الله- أن يجتَمِع هؤلاء كلُّهم على الغلط في الأمر الظاهر، والخطأ المكشوف البيِّن… وهم أشدُّ الخلْق أنَفَة، وأكثرهم مُفاخَرة، والكلام سيِّد عملهم، وقد احتاجُوا إليه، والحاجة تَبعَثُ على الحِيلَة في الأمر الغامِض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة؟! فكذلك مُحال أن يتركوه وهم يعرفونه، ويجدون السبيل إليه، وهم يبذلون أكثر منه”.
وهذا دليل على إعجاز القرآن من خلال قصة إسلام الطُّفَيل بن عمرو الدَّوْسِيِّ : قَدِم الطُّفَيْلُ مكَّة، ورسول الله ﷺ بها، فمشى إليه رجلٌ من قريش، وكان الطُّفَيْلُ شَريفًا شاعرًا لبيبًا، فقالوا له: يا طُفَيل، إنك قَدِمتَ بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا [أي: اشتدَّ أمره بنا]، وقد فرَّق جماعَتَنا وشتَّت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرِّق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمَنَّه ولا تسمعَنَّ منه شيئًا.
قال الطُّفَيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعتُ ألاَّ أسمعَ منه شيئًا، ولا أكلِّمَه، وحشَوْتُ في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفًا [أي: قُطنا] فَرَقًا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه! فغدَوتُ إلى المسجد فإذا رسولُ الله ﷺ قائم يصلِّي عند الكعبة، فقمت منه قريبًا، فأبى الله إلا أن يُسمِعَني بعضَ قوله، فسمعت كلامًا حسنًا، فقلت في نفسي: واثكلَ أمِّي! والله إني لَرجلٌ لبيب شاعر، ما يخفى عليَّ الحسَنُ من القَبيح، فما يمنعني أن أسمعَ من هذا الرجل ما يقول؟! فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته. فمكثت حتى انصَرَف رسول الله ﷺ إلى بيته، فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إنَّ قومك قد قالوا لي كذا وكذا… فوالله ما برحوا يخوِّفونني أمرَك حتى سددتُ أذني، بكُرْسُفٍ لئلاَّ أسمع قولك، ثم أَبَى الله إلا أن يُسمِعَني قولك، فسمعت قولاً حسنًا، فاعرِضْ عليَّ أمرك!
فعرض عليَّ رسولُ الله ﷺ وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قطُّ أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمتُ وشهدت شهادةَ الحق!
ودليل عكسي من قصة تولِّي الوليد: موضع الشاهد فيها أنَّ قريشًا أوفدَتْ أبا جهلٍ إليه ليطلب منه أن يقول في القرآن قولًا يَعلم منه الناسُ جميعًا أنه كاره له، فأجابه الجوابَ الآتي الذي يدلُّ على تأثُّره بجمال القرآن:
“ماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلَم منِّي بالشِّعر ولا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنِّ، والله ما يُشبِه الذي يَقولُه شيئًا مِن هذا، والله إنَّ لقوله لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّه ليَحطِم ما تحتَه، وإنه لَيعلو وما يُعلَى عليه!”.
قال أبو جهل: “والله لا يَرضَى قومُك حتى تقولَ فيه!”.
قال: “فدَعْني أفكِّر فيه!”، فلمَّا فكَّر قال: “إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤثَر؛ أمَا رأيتموه يُفَرِّق بين الرجل وأهله ومَوالِيه!”.
وفي ذلك يقول القرآن: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ [المدثر: 18-24].
إنها معجزة خالية من فخر الشاعر، وإبهار الساحر، وتعالم المكابر، وسفسطات الفيلسوف، بل خالية من ثأر الـمُطالب، وتجبر المحارب، وأنانية المكاسب، وطغيان الملوك!
إنها معجزة تمجد الخضوع والخشوع لله وحده، وتسلط دوائر النور على الضعيف، والمريض، والمسكين، والفقير، والشيخ، واليتيم، والغريب؛ ليعلموا أن لهم الله!