
خذلانكم لن يضرنا
مايو 6, 2025
بيانٌ شرعيٌّ ودعوةٌ للاستنهاضِ من علماءِ الشريعةِ الإسلاميةِ حولَ العدوانِ الصهيونيِّ الغاشمِ على الأمة
مايو 7, 2025الشيخ حسن شبّاني
سفير الهيئة العالمية لأنصار النبيّ ﷺ – كندا
الحمد لله وكفى وصلاةٌ وسلامٌ على النبي المصطفى وبعد:
فإنَّ من أبرز سمات دين الله عزّ وجلّ الذي اختاره وارتضاه لجميع البشر هو أنّه دين الحقّ ودين الرّحمة. فالإسلام يدعو إلى اتبّاع الحق القائم على البرهان والدّليل وينهى أتباعه عن اتبّاع الباطل وما يتعلق به من بدع وخرافات، وكذلك يدعو إلى التّعامل مع النّاس بالرفق والرحمة والتماس الأعذار لهم، والمحافظة على الأعراض وعدم البغي في الحكم على النّاس والجماعات.
فقد قال الله عزّ وجلَّ في آخر سورة النساء: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَاۤءَكُم بُرۡهَـٰنࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكُمۡ نُورࣰا مُّبِینࣰا﴾ [النساء: ١٧٤]. وقال قبلها في السورة نفسها: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَاۤءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلۡحَقِّ مِن رَّبِّكُمۡ فَـَٔامِنُوا۟ خَیۡرࣰا لَّكُمۡۚ﴾ [النساء: ١٧٠].
ولكنَّ هذه الدّعوة إلى اتبّاع الحق والتمسك به جاءت ممزوجة بالدّعوة إلى الرّحمة واتبّاع سُبُل الرّحمة والتمسك بها، كمبدأ أساسيّ من أُسُسِ هذا الدّين، وليست فضيلة من فضائل الأعمال قد يتهاون في تركها المسلمون ولا يرون غضاضة في إهمالها أو عدم القيام بها.
إذ كيف يكون ذلك وقد افتتح الله سبحانه وتعالى سورة من القرآن باسمه الرحمن؟ الدّال على سعة رحمته وعموم إحسانه، ثم ذكر في ثنايا السورة ما يدُّلُ على رحمته وأثرها في حياة النّاس، ومن أبرز هذه النّعم نعمة تعليم القرآن والبيان ووضع الميزان ليقوم النّاس بالعدل والقسط.
وكيف يكون ذلك وقد وصف الله عزّ وجلّ رسوله ﷺ بأنّه أُرسل رحمة للعالمين، فقال: ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]. وقال النبي ﷺ عن نفسه في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عندما طلب منه بعض أصحابه أن يدعو على المشركين بأنه لم يُبعث لعاناً؛ فقد ورد في القصة أنّه قيل له: يا رسول الله، ادعُ على المشركين. قال ﷺ: “إنّي لم أُبعث لعّانا، وإنّما بُعثت رحمة”1.
وكيف يكون ذلك، وقد قال الحبيب ﷺ: “خاب عبدٌ وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر”2.
وقد قال الله عز وجلّ في وصف أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين وهم صحابةُ نبيّنا، رضي الله عنهم وأرضاهم، في سورة الفتح: ﴿مُّحَمَّدࣱ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥۤ أَشِدَّاۤءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَاۤءُ بَیۡنَهُمۡۖ﴾ [الفتح: ٢٩]. وكذلك تعلمنا في سورة الكهف عن النبيّ الصّالح الخضر عليه السّلام في قصّته مع موسى عليه السّلام.. أنّ الله جمع له بين العلم والرحمة، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبۡدࣰا مِّنۡ عِبَادِنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمࣰا﴾ [الكهف: ٦٥].
وبناء على ما سبق، انتبه المحققون من أهل العلم والفضل إلى ضرورة الجمع بين الأمرين حتى تؤتي الجهود العلمية والدّعوية أكُلَها على أحسن الوُجوه، فكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى رغم شدته في بيان الحق ونصرته له، كثيراً ما يردد في كتبه ومقالاته أنّ أهل السنّة من أكثر النّاس تعظيماً للحق وأكثرهم رحمة بالخلق، وقد اشتهرت عنه العبارة المشهورة: “أهل السنّة هم أعرف النّاس بالحق وهم أرحم النّاس بالخلق”3.
ومن هؤلاء المحققين الذين عاشوا في عصرنا فضيلة العلامة أبو إسحاق الحويني رحمه الله، فقد كان مثالاً يُحتذى وقدوة تُتبع في مجال الإنصاف والعدل والأدب مع المخالف، وما ذلك إلا بسبب بركة الجمع بين الأصلين العظيمين في ديننا، العلم والرحمة.
فقد كنت كثيراً ما أستمع إلى بعض أجوبته ومداخلاته عندما يُسأل عن بعض مخالفيه في المنهج كالشيخ محمد الغزالي، أو الشيخ الشعراوي أو الأستاذ سيد قطب رحم الله الجميع، فيبدأ حديثه دائماً بالترحم عليهم ثم يلتمس لهم الأعذار وهو يصحح بعض مقولاتهم أو يرد عليها من وجهة نظره للموضوع، فلا تشعر بضغينة ولا حقد ولا رغبة جامحة في إسقاط الرموز أو تحطيم منجزاتهم.
ولنختر لذلك مثالاً واضحاً عندما سُئل في إحدى محاضراته عن حكم الاستفادة من كتاب الأستاذ سيّد قطب رحمه الله المسمى “في ظلال القرآن”. قال في الجواب باختصار ما مضمونه أن الأستاذ سيّد قطب لم يكن عالماً متخصصاً في العلوم الشرعية وإنما كان أديباً يكتب بقلبه ويكتب بقلم الأديب. ثم أثنى على مروءته وتدينه الفطري الذي ورثه من أهل الصعيد، ثم بيّن أن كتاب “في ظلال القرآن” فيه فوائد وفيه أخطاء، وعدّ سيد قطب قد زلّت قدمه في بعض كتبه مثل كتاب “العدالة الاجتماعية في الإسلام” الذي كتبه قبل أن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين.
ثم أخبر أنه رجل لم تُتَح له فرصة البحث العلمي وكثرة القراءة في المصادر الشرعية بسبب الاعتقال والمكث في السجن. ثم ردّ على اتهام الأستاذ سيّد قطب بالقول بخلق القرآن قائلاً: “وأنا أجزم بأنّه لم يخطر على باله القول بخلق القرآن”. ثم تابع قائلاً: “أنا أخالفه في مسائل كثيرة، ولكن هذا ظلم بيّنٌ”. وبيّنَ أن المتتبعين للأخطاء والزلّات اتهموه بالقول بخلق القرآن بسبب عبارة زلّ بها قلمه وهي: “فأمّا القرآن فهو من صنع الله”. ثم تابع قائلاً: “وهنا قد خانه قلمه الأدبي”. والمقصود أن الأديب قد يستعمل ألفاظاً وعباراتٍ لا يقصد بها المعاني الشرعية الموجودة في بطون كتب العقيدة والفقه. ثمّ بيَّنَ أن سيد قطب قد تراجع عن كثير من آرائه بعد أن مكث فترة في السجن وكتب كتابه (لماذا أعدموني؟) بيّنَ فيه أن السبيل الأنسب لإحداث التغيير داخل المجتمعات هو سبيل العلم الشرعي.
إذن يمكننا أن نلخص هذا المنهج في التعامل مع المخالف من علماء ودعاة أهل السنة والجماعة في النقاط التالية:
يبدأ طالب العلم أو العالم بالترحم عليهم إن كانوا قد انتقلوا إلى الدار الآخرة.
يلتمس لهم العذر فيما قالوا، خاصة إذا كانوا من أهل الفضل والعلم وكانت لهم سابقة في الدعوة والتضحية من أجل الإسلام، وكانت لهم قدم سابقة في خدمة الدين ونصرة أهله.
يبيّن العالم أو المخالف أخطاءهم من وجهة نظره ولا يخوض في النيات ولا ينسب إليهم لازم القول؛ لأن الصحيح أن لازم القول ليس بقول.
يبين للنّاس تراجعهم إذا تراجعوا عن أقوالهم السابقة؛ فكثير من الناس يقول بقول في شبابه أو في بداية طلبه للعلم ثم يتبين له خطؤه، فيصحح رأيه و يتراجع عن أقواله السابقة، ثم يأتي أهل البغي والمقاصد السيّـئة فينشرون بين النّاس أقواله السابقة ويخفون أقواله الجديدة التي تراجع فيها عن آرائه السابقة.
إن أخطأ هذا العالم في حسن الظن، فذلك أسلم لدينه ولآخرته، لأن الخطأ في حسن الظن أفضل بكثير من الخطأ في سوء الظن، فالأول سلامة وعافية والثاني مهلكة وباب من أبواب الشر والله المستعان.
يبيّن العالم أو طالب العلم للنّاس أن التماس الأعذار لا يعني الإقرار على الأخطاء والزلّات. فيجمع بين تعظيم الحق ورحمة الخلق، وبذلك تجتمع كلمة الأمة ويتفرغ علماؤها وقادة الإصلاح فيها لمقارعة الباطل البيِّن وفضح مخططات الأعداء الحقيقيين الذين يتربصون بأمة محمد ﷺ ويكيدون لها المكائد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب النهي عن لعن الدّواب وغيرها. رقم: 2599. ينظر: موسوعة الحديث الشريف، ص: 1131، دار السّلام للنشر والتّوزيع، الرياض ط: 3، 1421هـ – 2000 م.
صحيح الجامع الصغير وزيادته برقم: 3205، المكتب الإسلامي، المجلد الأوّل، ط: 3، 1408هـ – 1988 م، بيروت.
انظر عبارة مشابهة في مجموعة الفتاوى لابن تيمية، المجلد الثاني، الجزء الثالث، دار الوفاء، المنصورة، ط: 2، 1419هـ – 1998م، ص174.