
حجة الوداع
فبراير 2, 2024
كمال النفس ومكارم الأخلاق
فبراير 2, 2024الأمانة والعدل صنوان متلازمان، فلا يمكن أن يكون الأمين غير عادل، ولا أن يكون العادل غير أمين، لأن الأمانة مراعاة الإنسان لحق غيره لا ينكره ولا يجحده، والعدالة تبتدئ من انتصاف الإنسان من نفسه.
ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى طلب أداء الأمانات بالعدالة في الحكم، فقال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 58]
ولقد اشتهر محمد بن عبدالله بالأمانة حتى صار اسمه “الأمين”، ولما حكموا أول من يدخل البيت في أمر الحجر الأسود وكان هو الداخل الأول، ارتضوه حكما وفرحوا به وقالوا: إنه الأمين، وكان في معاملاته كلها عدلا لا يَغبن ولا يَخدع، وكان ينتصف من نفسه في كل ما يتعلق به، وكان ذلك قبل البعثة.
أهدت إليه أم المؤمنين خديجة قبل البعثة زيد بن حارثة فكان مولى له، ولما عرف أهله وجاؤوا إليه يريدون أن يفتدوه بثمنه، أعطاهم الرجل – العدل – الحق في أخذه، ولم يمارهم في حقهم، بل إنه زاد في العدل الإحسان، فقال خذوه من غير ثمن إن أراد الذهاب معكم، ولكن زيدا رفض أن يترك محمد بن عبدالله، وقبل أن يبقى في قربه مولى، ولم يقبل الذهاب مع أسرته، وهنا يتحرك العدل مرة أخرى في قلب محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فيتخذه له ولدا، وقد كان ذلك سائغا عند العرب، كما كان سائغا عند الرومان، ويَلحق المُتَبَنَّى بنسب من تبناه، فكان يقال له: زيد بن محمد، وكان بمقتضى هذا الإلحاق قرشيا، وتزوج على أنه قرشي، حتى نزل مِن بعد البعثة تحريم التبني، وعدم إلحاق الدعيّ بنسب من تبناه، وكان أراد محمد بن عبدالله العادل عليه السلام أن يعوضه عن ترك أسرته بذلك التعويض الكريم.
ولقد كان الخصماء يتحاكمون إليه عليه السلام قبل بعثته، فقد رُوي أن الربيع بن خيثم كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية قبل الإسلام، وذلك لما عرف به من الصدق والأمانة والاستقامة، وكونه لا ينطق إلا بالحق، ولا يتجه إلى غيره ولا يرضى بالباطل أبدا.
من عدله بعد البعثة
لقد كان عليه السلام يوزع الغنائم فيعطي كل ذي حق حقه، لا يلتفت إلى ما وراء ذلك، فلا غاية يطلبها إلا تحقيق العدل وإرادته، يعطي الرجل من الغنيمة بمقدار جهاده، وقد يعطي من يريد تأليف قلبه وقد أسلم على حرف، فهو يعطي مما معه من المال لمن يريد أن يتألفه، كما كان يعطي بعض القرشيين الذين أسلموا عند الفتح تأليفا لقلوبهم وليستمروا على دينهم الذين دخلوه طوعا من غير إكراه، ولكن لكثرة معاندتهم من قبل تألفهم النبي ببعض الصدقات.
ولقد حدث أن قال بعض الذين في قلوبهم ضعف إيمان للرسول عليه السلام: اعدل، فرد عليه النبي عليه الصلاة والسلام: ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟
ولنذكر الخبر كما في كتب الحديث، فقد روى قتادة أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم، فقال: “يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل ما عدلت، فقال النبي عليه السلام: ويلك، فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟ ثم قال النبي عليه السلام: احذروا هذا وأشباهه فإن في أمتى أشباه هذا يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، فإن خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم.
وروي مثل هذا في الصحيحين مسلم والبخاري.
وإن هذا الكلام يدل على عدالة النبي عليه الصلاة والسلام المطلقة، فقد سمع القول من المعترض من غير أن يمنعه من الاعتراض، ولكن بين له أنه العادل وأنه سيكون من إرهاق من بعده، فمن عدل كعدله نجا ومن لم يعدل فقد انحرف إلى الهاوية.
ويدل ثانيا على أن أمثال هذا ممن يرون العدل غير عدل، ويحكمون بهوائهم أو بنظرهم بادي الرأي سيكونون شوكة في جنب الحكم الإسلامي، وأن سلامة الحكم في ردعهم ولو بالقتل وتكراره، وذلك عقابهم إذا خرجوا على الحاكم العدل، وإلا لا يقتلوا كما قال علي: “من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأصابه”.
ثم إن النبي عليه السلام أردف في هذه الواقعة ما يؤكد عدله المطلق القائم على أمانته، فقال: “والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكم إنما أنا خازن”.
وأن النبي العادل كان ينفذ الحق في نفسه، إن ظن أنه اعتدى، كان يقسم الغنائم مرة وبعض أعراب المسلمين يلاحيه، فرده بعود في يده، فشكا الألم فأعطاه الرسول الأمين العادل ليقتص منه، فعفا الرجل واستحيا أن يفعل.
ولقد كان يخشى لفرط إحساسه بالعدالة، وألا يلقى الله خالصا من حقوق العباد، فقام وهو مريض مرض الموت وقد بلغ الإعياء أشده، وقال: “أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت منه مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء فإنها ليست من شأني، ألا وأن أحبكم إليّ من أخذ مني حقا، وإن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس.
ولقد كان محمد عليه السلام ينهى عن الظلم بكل ضروبه، وأكل أموال الناس، وينهى عن معاونة الظالمين بكل أسباب المعاونة، وإنه يشدد في ذلك، فهو يقول: “اتقوا دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب”. وقال عليه السلام: ” من مشى مع ظالم فقد سعى إلى النار”. أو كما قال عليه السلام.
ونهى المحكومين عن أن يسكتوا عن ظلم الحاكمين لأنه معاونة، فقال عليه السلام: “لا يأخذ الله تعالى العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوا ولم ينكروا”. وأوجب حمل الظالم على العدل، وحث على ذلك في قوة، فقال عليه الصلاة والسلام: “والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله على قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم”.
وإن هذه الأحاديث تدل على أمرين عظيمين:
– أولهما: شدة تمسك النبي عليه السلام بالعدل والدعوة إليه والتشدد فيه، والاستمساك به لأنه كمال في ذاته، ويدل على استقامة النفس حاكما كان أو محكوما، فهو الكمال بالمطلق إن كان.
– ثانيهما: أنه يدعو إلى العدل الجماعي، لأنه هو الذي يستقيم به أمر الجماعة، فلا يظلم الرجل أهله، ولا يظلم الزوج زوجه، ولا القريب قريبه، ولا الرئيس مرؤوسه، ولا الحاكم محكومه، ولا المولى مولاه، وأنه عليه السلام يقول في حديث قدسي عن ربه: “يا عبادي إني كتبت العدل على نفسي فلا تظالموا”.
المساواة في العدالة
ولقد كان عليه الصلاة والسلام يتولى الفصل في خصومات المسلمين، في خاصها وعامها، ويأتي في فصله بحكم الله تعالى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكانت أقضيته تقصد القضاء بحكم الله تعالى، وتنفيذ ما أمر الله تعالى به من أمر، وما نهى عنه، وكانت أحكامه عادلة، لا يحابي قويا ولا يهضم حق ضعيف.
ولما سرقت فاطمة المخزومية، وأهمَّ قريشا أن يقطع محمد يدها، ذهب إليه حِبَّه أسامة بن زيد، فتشفع له في ألا يقيم الحد عليها بقطع يدها، فنهره عليه الصلاة والسلام، قائلا مستنكرا: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم وقف خطيبا يقول:
” ما بال أناس يشفعون في حد من حدود الله، إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف قطعوه، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.
فكان العدل الذي لا يماري ولا يحابي في حكم من أحكام الله تعالى.
وكان عليه السلام ينظر في الأمر عند الاختصام إلى لب القضية، فيتعرف المعتدي فيحكم عليه ولا ينظر فقط إلى المظهر، ويروى في الصحيحين البخاري ومسلم أن رجلا عض يد رجل آخر، فنزع المعضوض يده من فم الآخر، فوقعت ثناياه، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر أن الذي رفع الأمر من عض أخاه، فقال النبي عليه السلام منحيا باللائمة على العاض مهدرا دية أسنانه: يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك.
وهو بهذا ينظر نظر الأريب إلى موضوع القضية، ليتعرف موضوع الاعتداء ومن الذي كان السبب، ثم فيه إشارة إلى من دفع عن نفسه الظلم، وتعين عليه ألا يدفع الظلم إلا بأذى ينزل بالآخر، فهو بريء مما يترتب على فعله، والمتسبب هو الذي يبوء بالإثم، ولو كان هو الذي نزل به الأذى.
وكان عليه الصلاة والسلام يلاحظ في قضائه ثلاثة أمور:
أولهما: العدل بين الناس والمساواة بينهم في تنفيذ أحكام الله تعالى، لا فرق بين أمير وسوقة، ولا بين شريف وضعيف، بل الجميع أمام القانون سواء، وفي المأثور “الناس سواسية كأسنان المشط”.
ثانيهما: أنه يلاحظ الأثر الاجتماعي لحكمه، فهو يغلظ العقاب على من يكثر فساده، حماية للجماعة المسلمة من شره.
ثالثهما: أنه لفرط إيمانه بالعدل يخشى أن يقع منه ظلم لأحد، بسبب من يدلون بالحجة في فصاحة منهم وعجز غيرهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام وهو العدل الأمين: إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من الآخر، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما اقتطع له قطعة من النار”.
وفي الحق أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عدلا في ذات نفسه، وعدلا في كل ما يقوم به، وعدلا في أحكامه، ويغلب المساواة في كل شيء، حتى في الهدايا يهدي إليه باعتباره كبير المؤمنين، ويقول في ذلك ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد: (وقد جاء في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه، وعزل منها واحدا لمخرمة بن نوفل، فجاء ومعه المسور ابنه فاستقبله وقال: يا أبا المسور خبأت لك هذا).
وهكذا نرى العدل يعم ولا يخص، وأنه كما ثبت من تاريخه قبل البعثة وبعدها لم يظلم ولم يضيع حقا لأحد، بل كان الحريص على حق غيره الحفيظ عليه.
وكان يعوض من يهدي من أصحابه إن تمكن من التعويض، ويهادي من يهاديه، لأن الهدية محبة، وهو عليه الصلاة والسلام يبادل المحبة بالمحبة، فهو عادل حتى فيما تبعثه العاطفة ويدعو إليه الود.