إلى أختي المنتقبة
فبراير 15, 2024الأمهات المباركات الطاهرات
فبراير 19, 2024إن منزلة أمهات المؤمنين رضي االله عنهن، وفضلهن مما لا يخفى على مسلم؛ فيكفيهن فخراً وشرفا أنهن نلن تلك المكانة، وارتقين ذلك المقام السامي بزواجهن من سيد ولد آدم ﷺ، وما خصهن االله به من نزول الوحي على رسول الله ﷺ في بيوتهن رضي االله عنهن.
وفي هذا البحث نتناول فيه الحديث عن خصائص أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وفضائلها ومكانتها العلمية.
وقد يتساءل سائل لماذا نخصّ أمنا عائشة رضي الله عنها بذكر فضائلها وخصائصها دون غيرها من أمهات المؤمنين رضي الله عليهن؟
فقد أجاب الإمام الآجري عن هذا السؤال، فقال: “لأن شرفها عظيم وخطرها جليل فإن قال قائل فلم صار الشيوخ يذكرون فضائل عائشة دون سائر أزواج النبي ﷺ ممن كان بعدها، أعني بعد خديجة وبعد عائشة رضي الله عنهما قيل له لما أن حسدها قوم من المنافقين على عهد رسول الله ﷺ فرموها بما قد برأها الله تعالى منه وأنزل فيه القرآن وأكذب فيه من رماها بباطله، فسر الله الكريم به رسوله ﷺ، وأقر به أعين المؤمنين، وأسخن به أعين المنافقين، عند ذلك عني العلماء بذكر فضائلها رضي الله عنه زوجة النبي ﷺ في الدنيا والآخرة” (1).
لا يذكر الطهر إلا قيل عائشة رمز له وهو نور في محياها
نجلها نطرب الدنيا بروعتها إذا انبرى بكلام السوء أشقاها
نرتل الوحي صفوا عن طهارتها ولا نبالي بصوت خاسئ تاها
صديقة وابنة الصديق ليس لها من مشبه في الصبايا في مزاياها
تُعَدُّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أعلم الصحابة رضي الله عنهم بالفقه والقرآن والحديث، وأكثرهم رواية له، جمعت بين علمي الرواية والدراية،كيف لا وهي التي عاشت في بيت النبوة، وتخرجت في مدرسة رسول الله ﷺ، ونهلت من معينه الصافي الذي لا ينضب ولا يتكدّر، شهدت تنزل الوحي حتى غدت معلمة العلماء، ومحدثة الفقهاء، وسفيرة بيت النبوة إلى النساء، فكانت مرجع الصحابة في المعضلات، وموئلهم وملاذهم عند المدلهمات فأهلها ذلك لتأخذ بحظ وافر من العلم جعلها في مقدمة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين حفظوا السنة النبوية المطهّرة.
وكانت رضي الله عنها تجتهد في المسائل التي لا نص فيها، وتستدرك على كبار الصحابة رضي الله عنهم.
مكانتها العلمية
تبوأت أم المؤمنين رضي الله عنها مكانة علمية عالية بين الصحابة رضي الله عنهم، أهلّها أن تستقل بالفتوى، حتى قيل: إن ربع الأحكام الشرعية منقولةٌ عنها، فكانت مرجعا يرجعون إليها لتبيِّن لهم ما استشكل عليهم من أمور دينهم. فهي العالمة الفاضلة الكاملة عن القاسم بن محمد قال: “كانت عائشةُ قد استقلَّت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وهلم جرًّا، إلى أن ماتت يرحمها الله (2).
قال عُروةُ لعائشةَ رضي الله عنها: يا أمَّتاه، لا أعجَبُ مِن فقهك؛ أقول: زوجة نبيِّ الله وابنةُ أبي بكر، ولا أعجبُ مِن عِلمِك بالشِّعر وأيامِ الناس؛ أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلمَ الناس، ولكن أعجبُ مِن علمِك بالطبِّ؛ كيف هو؟ ومن أين هو؟ قال: فضربَت على منكبِه، وقالت: أيْ عُريَّة، إن رسول الله ﷺ كان يَسقَمُ عند آخر عمره – أو في آخر عمره – وكانت تَقدَم عليه وفودُ العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات، وكنتُ أعالجُها(3).
قال عنها عبد الرحمن بن أبي سلمة: “ما رأيت أحداً أعلم بسنن رسول الله، ولا أفقه في رأي إن احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزلت، ولا فريضة، من عائشة”(4). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “ما أشكَل علينا أصحابَ رسول الله ﷺ حديثٌ قط، فسأَلنا عائشةَ إلا وجَدنا عندها منه عِلمًا”(5).
وقد كانوا رضي الله عنهم يَرجعون إليها في علم الفرائض (المواريث)؛ عن مسروقٍ أنه قيل له: هل كانت عائشةُ تُحسن الفرائض؟ قال: والله، لقد رأيتُ أصحاب محمد ﷺ الأكابرَ يَسألونها عن الفرائض(6).
قال الإمام الزهريُّ: “لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه، وعلمِ جميع النساء، لكان علمُ عائشة أفضل”(7).
وقال عطاءُ بن أبي رباح: “كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسنَ الناس رأيًا في العامة”(8).
أما الذهبيُّ فقال عنها: “روت عن النبي ﷺ علمًا كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيه”(9).
وقال أيضًا: “أفقه نساء الأمة على الإطلاق”(10)… “لا أعلم في أمةِ محمد ﷺ – بل ولا في النساء مطلقًا – امرأةً أعلمَ منها”(11).
وقال الحافظ ابن حجر: “ومات النبيُّ ﷺ ولها نحوُ ثمانيةَ عشَر عامًا، وقد حفِظَت عنه شيئًا كثيرًا، وعاشت بعده قريبًا من خمسين سنة، فأكثرَ الناسُ الأخذَ عنها، ونقَلوا عنها من الأحكام والآداب شيئًا كثيرا حتى قيل: إنَّ ربع الأحكام الشرعيَّة منقولةٌ عنها رضي الله عنها”(12).
وعن موسى بن طلحة قال: “ما رأيت أحداً أفصحَ مِن عائشة”(13).
وقال ابن كثير رحمه الله:” وقد تفردت أُمّ المؤمنين عَائِشَة بمسائل عن الصحابة لم توجد إلا عندها، وانفردت باختيارات أيضا وردت أخبار بخلافها بنوع من التأويل”(14).
خصائص أم المؤمنين وفضائلها رضي الله عنها
لقد خصّ الله أم المؤمنين رضي الله عنها بخصائص كثيرة تفردت بها، لم يشركها أحد من أزواجه ﷺ فيها.
الخصيصة الأولى: أنه ﷺ لم يتزوج بكراً غيرها، وفي هذا إشارة إلى تعظيم أمّنا عائشة رضي الله عنها وتمييزها بهذه الفضيلة وحدها دونهن لئلا تُشارَك فيها، فكأنها في كفة وهن في كفة أخرى.
الخصيصة الثانية: أنها خُيِّرت واختارت الله ورسوله دون تردد وكنّ تبعاً لها في ذلك. قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة، رضي الله عنها، زوج النبي ﷺ أخبرته: أن رسول الله ﷺ جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله ﷺ فقال: “إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك”، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: “وإن الله قال: (يا أيها النبي قل لأزواجك) إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة”(15).
ثم خير نساءه فقلن مثلما قالت عائشة.
الخصيصة الثالثة: نزول براءتها من السماء مما نسبه إليها أهل الإفك في ست عشرة آية، وشهد الله لها بأنها من الطيبات ووعدها بالمغفرة والرزق الكريم.
قال الإمام الزمخشري: “ولو فليت القرآن وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة(16).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يُسأل عن تفسير القرآن، حتى سئل عن هذه الآيات فقال: “من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلاّ من خاض في أمر عائشة”.
وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك. ولقد برَّأ الله تعالى أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا﴾ [يوسف 26] وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه. وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها إني عبد الله. وبرَّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر(17).
الخصيصة الرابعة: أنها أحب أزواج النبي ﷺ إليه. عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي ﷺ بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعد رجالاً (18).
الخصيصة الخامسة: وجوب محبتها على كل أحد، وهذا الأمر ظاهر الوجوب، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أرسل أزواج النبي ﷺ فاطمة بنت رسول الله ﷺ إلى رسول الله ﷺ، فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، وأنا ساكتة، قالت فقال لها رسول الله ﷺ: أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى، قال فأحبي هذه قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله ﷺ، فرجعت إلى أزواج النبي ﷺ، فأخبرتهن بالذي قالت، وبالذي قال لها رسول الله ﷺ، فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى رسول الله ﷺ فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة. فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبداً(19).
الخصيصة السادسة: أن من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببراءتها قال الخوارزمي في الكافي من أصحابنا في كتاب الردة: “لو قذف عائشة بالزنى صار كافراً بخلاف غيرها من الزوجات لأن القرآن نزل ببراءتها.”
قال أبو بكر بن العربي: “إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة، فبرأها الله، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر؛ فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر، ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب”(20).
وبإسناده إلى هشام بن عمار قال ابن حزم رحمه الله: سمعتُ – أي هشام – مالك بن أنس يقول: “من سب أبا بكر وعمر جُلِدَ، ومن سب عائشة قُتِلَ، قيل له: لم يُقتَل في عائشة؟، قال: لأن الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها: ) يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (. فمن رماها فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قُتل؛ قال ابن حزم رحمه الله معلقاً: “قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردة تامة، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها(21).
وعند قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ قال الإمام السيوطي رحمه الله: نزلت في براءة عائشة فيما قُذِفَت بِه، فاستدل به الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن؛ قال العلماء: قذف عائشة كفر، لأن الله سَبَحَ نفسه عند ذكره – أي قصة الإفك – فقال: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)، كما سَبَحَ نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد(22).
وقول الإمام السيوطي هنا شبيه بقول القاضي عياض في معرض استشهاده لقول الإمام مالك رحمهم الله جميعاً، حيث قال القاضي: وحكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر بن الطيب قال: إن الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه كقوله: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ ﴾؛ في آي كثيرة وذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال: ﴿وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ﴾ سَبَحَ نفسه في تبرئتها من السوء كما سَبَحَ نفسه في تبرئته من السوء، وهذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة، ومعنى هذا والله أعلم: أن الله لما عَظُمَ سبها كما عَظُمَ سبه، وكان سبها سباً لنبيه، وقَرَنَ سب نبيه وأذاه بأذاه تعالى، وكان حكم مؤذيه تعالى القتل، كان مؤذي نبيه كذلك(23).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشريعة (ت: الدميجي). المؤلف: محمد بن الحسين الآجري أبو بكر (5/ 2393).
(2) تاريخ مدينة دمشق (49/165).
(3) رواه الإمام أحمد (24425). (6/67).
(4) رواه ابن أبي شيبة في كتاب الأدب (1 /485)، والطبقات الكبرى لابن سعد (2/375).
(5) صحيح: رواه الترمذي (3818)، وقال: حسنٌ صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح المشكاة (6185) .
(6) رواه الحاكم (4 /13)، ومالكٌ في الموطأ (1 /92) (41)، والدارمي (2859)، وابن أبي شيبة (11/334).
(7) موطأ الإمام مالك (1 /45)، ومسند ابن راهويه (2/26).
(8) رواه الحاكم (4 /15) ومالك في الموطأ (1 /92)، والذهبي في تاريخ الإسلام (4/347).
(9) سير أعلام النبلاء (2/135).
(10) المصدر السابق.
(11) المصدر السابق.
(12) فتح الباري (7/107).
(13) رواه الترمذي (3819) وقال: حديث حسن صحيح غريب، ورواه الحاكم (4 /92)، والطبراني في “الكبير” (23 /187) وأحمد في فضائل الصحابة (2/871).
(14) نكاح الأبرار وزواج الأخيار (ص83) .
(15) صحيح البخاري: سورة الأحزاب باب قوله: ﴿يا أيها النبي قل لأزواجك﴾ حديث رقم 4785.
(16) الكشاف للزمخشري ( 4/28).
(17) المرجع السابق (3/217-218).
(18) صحيح البخاري: حديث رقم . 3662
(19) صحيح البخاري: حديث رقم 2581 صحيح مسلم: حديث رقم: 2442.
(20) أحكام القرآن (3/3663).
(21) المحلي 15/ 11 .
(22) الإكليل في استنباط التنزيل 190.
(23) الشفا 2/ 267 .