هكذا أصبحنا جميعا يتامى (3/3)
نوفمبر 12, 2024نشطاء بالأردن يواصلون إضرابهم للضغط على الحكومة لإغلاق المعابر التجارية مع الاحتلال
نوفمبر 12, 2024د. إسماعيل محمد رفعت
عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
نعود إلى أصحاب الرُّسُل -عَلَيْهِم السَّلَام- لنعلم ما امتاز به الصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- فما من نبي إلا وأدى رسالة ربه على الوجه الأتم، وتحمل في سبيلها الأذى وضحى بكل ما يحرص عليه إنسان في سبيل البلاغ المبين ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36]. ومشاكل البشرية لم تتأتَ من تقصير الأنبياء -عَلَيْهِم السَّلَام- في البلاغ، إنما في تحريف الرسالات من جهة أدعياء الديانة وعدم حمل أمانتها بوجه مرضي لا من حيث النظرية ولا من جهة التطبيق!
أما الصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- فهؤلاء الذين أمناء الوحي بلاغاً وتطبيقاً، ولما لم يسعهم ذلك في مكة، هاجروا منها عدة هجرات آخرها هجرتهم -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- إلى المدينة المنورة، التي كانت “يثرب” فتحول اسمها إلى “المدينة”، في إشارة إلى صلاحيتها لتكون أنموذجَ “المدينة الفاضلة” بحسب التسمية الفلسفية لمجتمع متعايش وسعيد لم يرتسم نظرياً ولم يتحقق عملياً إلا في “المدينة المنورة”، بهجرة المهاجرين وإيواء الأنصار -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- خلف الرسول الكريم ﷺ، وانصهار المكونات الاجتماعية للمدينة تحت قانون وضعه صاحب الرسالة ﷺ وتوافق عليه سكان “المدينة” رغم وجود تنوع ديني وعِرقي، فلم يكن مجتمع مدينة الرسول ﷺ أحادياً في دين ولا عِرق ولا جنس، بل شمل إلى جانب المسلمين اليهود، وجاءت إليها الوفود من نصارى نجران وركوسية1 من بلاد الجبلين2 وغيرهم حتى الوثنية، ولم يَخْلُ المجتمع المسلم من ثلة منافقة تُظهر الإسلام وتبطن له العداء.
ومن الجهة العِرقية لم يكن مجتمع “المدينة” عرق لعنصر واحد بل كانوا قبائل شتى، حتى اليهود كانوا متعددين (بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة) كما وُجِد تمثيل قاري لجنسيات ولغات العالم القديم..
فكان مجتمع “المدينة المنورة” يضم في تكوينه:
- أبا عبدالله سلمان الفارسي (تُوفِي سنة 33هـ) الذي قدم من “رام هرمز” من بلاد فارس.
- وأبا يحيى صهيب بن سنان الرومي (تُوفِى سنة 38هـ) الذي تعرض للسبي من الروم الذين أغاروا على قومه في الجزيرة الفراتية وهو صغير، فتعلم لغتهم وتشبع بثقافتهم، وهو من أوائل من أظهروا إسلامهم في مكة، فاستضعفته قريش وعذّبته.
- وبلال الحبشي (تُوفِي سنة 20هـ) من السابقين الأولين إلى الإسلام، وكان عبداً حبشياً لبني جُمح، فبالغوا في تعذيبه.
وكتب الله -تعالى- وجود هؤلاء وغيرهم ليكونوا رموزاً لتنوع مجتمع “المدينة المنورة”، من قوميات البشرية وأجناسها التي ارتضت الإسلام وتحملت التضحيات من أجل إسعاد الثقلين، وكان في معلوم النبي ﷺ تنوع أتباع دعوته فرُوي من حديث أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله ﷺ: “السُّبّاقُ أربعةٌ: أنا سابِقُ العربِ، وصهيبٌ سابِقُ الرومِ، وسلمانُ سابِقُ فارسَ، وبلالٌ سابِقُ الحَبَش”3.
الصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- لم يطلبوا من وراء الهجرة المباركة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة الحياة الهادئة المستقرة وحرية العبادة، هروباً من التعذيب؛ بل كان هدفهم إخراج الدين من زوايا الرهبنة الفردية، إلى واقع الناس وترسيخه كمنهج، والفوز به كصراط مستقيم ونمط حياة لإسعاد البشرية والراحة الكونية! فانتشر الإسلام على أيديهم في ربوع الدنيا في أقل من نصف قرن من أعمارهم الشريفة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
ولذلك هاجر ﷺ وهاجروا -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- إلى حيث يستطيعون إقامة دولة مؤمنة تتناهى عن الشر، وتتعاون على الخير.
وكذلك حاول موسي -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أن يفعل ذلك بهجرته من مصر، حاول أن يبث في قومه البأس بعد اليأس، كما يقول الشيخ أبو زهرة -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
“خرج موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- من أرض فرعون، لينشئ من قومه قوة ترفع الحق، حاول أن يربي فيهم روح العزة والكرامة، وهما لا يسكنان في قلب إلا إذا سكن معهما حب الإنصاف، وحب الرحمة والمؤاخاة، والرفق، فالعزيز الكريم هو الذي ينصف ويرحم، ويرفق، واللئيم هو الذي يظلم، ويشق على الناس، ولا ينزل بهم رحمة، بل عداوة وبغضاء، حاول موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أن يبث فيهم البأس بعد البؤس والخنوع، فقالوا له، وهو يريد بهم العزة والدفاع عن أنفسهم ﴿قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]”4.
ومن قبل ذلك عبدوا عجلاً ﴿وَٱتَّخَذَ قَوۡمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِنۡ حُلِيِّهِمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٌۚ…﴾ [الأعراف: 148]. وكانوا غلاظاً جفاة حتى قال الله -تعالى- فيهم: ﴿ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ…﴾ [البقرة: 74]؛ قال البغوي (توفي 510ه) -رَحِمَهُ اللَّهُ-: لم يُشَبِّهْهَا بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة، لأن الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار، وقد لان لداود -عَلَيْهِ السَّلَامُ- والحجارة لا تلين قط5.
أما نبي الله عيسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كان له حواري-تلاميذ وأتباع- لكن لم يبلغ حواريوه من المُكنة أن يعيشوا حياة مستقرة، فضلاً عن صناعة دولة، بل لم ورد في نصوصهم ما يفيد الأمر بتركهم الاشتباك مع منكرات الدولة وعدم تقويمها؛ كما في إنجيل متى: “أَعْطُوا لِقَيصَرَ مَا لِقَيصَرَ، وَلِلَّهِ مَا لِلَّهِ”6.
وهذا النص يُظهر طبيعة العلاقة بين النصارى مع أي دولة يعيشون فيها كرعايا لها، واختصار دور النصرانية كديانة طقوس تعبدية بعيدة عن التشريعات التي تمس نظام الدولة، هذا النص أشبه بقاعدة تفصل الدين عن الدولة! بل لك أن تذهب إلى أبعد من هذا بالقول أنه نص يرسخ قيم الطبقية في المجتمع البشري، وإقرار وجود طبقات يعلو البشرية فيها أباطرة لهم امتيازات تعزلهم عن باقي طبقات المجتمع وتجعل منهم مخدومين وكل الناس دونهم، وليس لأحد الحق في محاسبتهم أو الرقابة على تصرفاتهم! وبهذا النص أيضاً فإن النصرانية ديانة تقوم على عدم منازعة السلطة ولو لتقومها أو تصلح مسارها، وتترك سياسة البشرية بعيدة عن الوحي وهدايات الله -جَلَّ جَلَالُهُ-.
فلم تقم لرسالة المسيح -عَلَيْهِ السَّلَامُ- دولة، وإن دعا إلى الفضيلة والروحانية في وسط غلظة مادية آل إليها حال بنو إسرائيل، الذين كانوا متنابذين مع الإنسانية وفي ذات الوقت خانعين للدولة الرومانية، فهم غلاظ الأكباد يثيرون العداوة والبغضاء مع من لا قوة لهم، ويخضعون للقوي، ويعيشون بالسعاية والإفساد ويرضون بالهون، كما وصفهم الله تعالى ﴿… وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ﴾ [البقرة: 61]. وكما في قوله -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿ضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيۡنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبۡلٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٖ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ﴾ [آل عمران: 112]
الجماعة المؤمنة وإقامة الدولة الفاضلة
جاء محمد ﷺ على فترة من الرسل لإقامة الدولة الفاضلة لأنه خاتم النبيين، ولأنه آخر صرح في بناء النبوة الإلهية، فكان لا بد من أن تودع رحمته في جماعة مؤمنة، وأن يكون أصحابه هم أمناء تبليغ الرسالة من بعده، ضحوا في سبيلها وفي الدعوة إليها ومدّ مبادئها، وتنتقل الرسالة في الأجيال مع هذه الأمة شاكرة نعمت الله عليها ومنته.. ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]
إن الشبهات التي أُثيرت حول هؤلاء الأفذاذ ما رُمُوا بها إلا لأن شجرتهم مثمرة، والعادة المطردة أن الشجر القاحِل الماحِل المُجدَب لا يقذفه الناس بالحجر!
ولو كنا نعي وبالجميل نفي؛ لكان هؤلاء العمالقة محلاً لفخرنا واعتزازنا، فإن الصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- هم الذين حافظوا على الإسلام، ديناً ودولة، لا فصل بينهما، بل كانت الدولة راعية الدين، فسلِمت بهم البشرية، وبجهد الصحابة نهضت، وبقي “الإسلام كما يعلم العقلاء ليس دين كهانة وانزواء وعزلة، وإنما هو دين ودولة، قول وعمل، سيف وكتاب”7.
والله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لم يجعل رسالته ورسوله فيهم إلا لعلو مكانتهم وشريف منزلتهم -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- حيث قال: ﴿… ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ…﴾ [الأنعام: 124]، ويكاد عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يكون صرّح بذلك فقال: “إِنَّ اللهَ عز وجل نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاخْتَارَ مُحَمَّدًا، فَبَعَثَهُ بِرِسَالَاتِهِ، وَانْتَخَبَهُ بِعِلْمِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَعْدَهُ، فَاخْتَارَ لَهُ أَصْحَابَهُ، فَجَعَلَهُمْ أَنْصَارَ دِينِهِ، وَوُزَرَاءَ نَبِيِّهِ ﷺ”8.
1 الرَّكُوسِيَّةُ: “هو دين بين النصارى والصابئين”. [غريب الحديث، لأبي عبيد- ط الهندية (3/ 87). وفي حديث عديّ بن حاتم الطائي أنه أتى النبي ﷺ فقال له: حديث شريف إنك من أهل دين يقال لهم الرَّكوسية. رواه ابن أبى شيبة في مصنفه، وأبو يعلى، وابن عساكر].
2 تقع الآن ضمن منطقة حائل شمال إقليم نجد.
3 الحديث أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 34 رقم 7288) والبزار في مسنده (3/ 219 رقم2607) والحاكم في المستدرك (6/ 653)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 305) وإسناده فيه ضعف، وإن وثقهم البزار!
4 خاتم النبيين ﷺ للشيخ محمد أبي زهرة (المتوفى 1394ه) دار الفكر العربي، القاهرة 1425ه (2/ 479).
5 تفسير البغوي – طيبة (1/ 110).
6 متى الإصحاح: 22، عدد: 21 وإنجيل مرقس الإصحاح: 12 إنجيل عدد 17.
7 فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (المتوفى 1389ه) مفتي بلاد الحرمين، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة (13/ 197).
8 مسند أبي داود الطيالسي، دار هجر- مصر (1/ 199).