الإسلام والعلاقات الدولية (3/3) .. منظومة القِيَم
أكتوبر 8, 2024﴿لَا تَخُونُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤا۟ أَمَـٰنَـٰتِكُمۡ﴾
أكتوبر 8, 2024د. إسماعيل محمد رفعت
عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
لم يزل القرآن الكريم أبرز معجزات الرسول ﷺ الأبدية، وما زال الصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- أبرز نموذج تطبيقي لنظرية الوحي بشقية «قرآن وسُّنَّة» وبالنظر إلى ما حققوه من أمانة البلاغ وسلامة التطبيق ومن حيث إنجازاتهم فهم معجزة من معجزاته ﷺ لأنهم نتاج تربيته وتعليمه ﷺ. والصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- ليسوا جزءاً من تاريخنا فحسب بل جزء من عقيدتنا! وهم أعظم جيل في تاريخ الإنسانية، وهم جيل قرآني فريد قابل للتكرار1.
والصحابي هو كل «من لقي النبي ﷺ مؤمناً به ومات على الإسلام2. وما عرف العالم لأصحاب نبي حركة وانتشاراً في الأرض كهداة مخلصين ما عرف للصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- مما بذلوا بطيب خاطر من جهد في إنجاح مشروع نبيهم الإصلاحي! وهم نجدة الله -تعالى- لرسوله قال تعالى: ﴿… هُوَ ٱلَّذِيٓ أَيَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأنفال: 62].
وصُحبة الأنبياء لها لوازم ومهمات ليست كصحبة غيرهم من القادة والمصلحين، وباستقراء قليل تكاد تجزم أن كل أصحاب الأنبياء ضعفوا عن تنفيذ وإنجاح المشاريع الإصلاحية لأنبيائهم، ولم يقوموا بمقتضيات صحبتهم، وتأخروا عن حمل أمانة الأنبياء كاملة، ثم لا تستثني إلا أصحاب محمد ﷺ فهم الذين تحملوا الرسالة بمقتضاها، وأخذوا أمانة إبلاغها وشرف تطبيقها؛ فاكتسبوا من مهابة الوحي وقدسيته وعظمة الرسول ﷺ ومحبته ما له في أنفسهم الطاهرة الشريفة من تعذير وتوقير -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ-.
وواقع البحث العلمي يشهد أن كل من لديه إشكالاً في موقف لأحد الصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- تُجعل عليه علامة استفهام غير مقبولة؛ فقد تبين بالبحث أن المشكلة في ثقافة صاحب الشبهة وليس في الصحابة، مشكلة مختصرها في منح أهمية لما يُقال من أهل الحقد عليهم والحسد لهم.
وقد عرف النبي ﷺ لهم هذا الفضل فيهم فقال: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ عز وجل، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ». «راعُوه واتَّقوه واذكروه وخافُوه “في أصحابي»3 وقوله ﷺ: «اللهَ اللهَ» بالنصب أي: راعُوه واتَّقوه واذكروه وخافُوه في شأن أصحابي.
ومقتضى الصحبة ولازمها تكاليفها ثقيلة، فواجب الصحبة كبيرٌ كبير، وبرغم وجود أغيار ﴿… كَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهۡوَآءَهُمۡۚ …﴾ [القمر: 3] إلا أن الصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- غنيهم وفقيرهم قويهم وضعيفهم كبيرهم وصغيرهم رجالهم ونساؤهم حملوا هذا الدين وأدوه للناس على مستوى النظرية كوحي منزّل، وعلى مستوى التطبيق كترجمة عملية لهدي الوحي الشرف، وبجمال الوعي بغاية الوجود الكوني وبمعرفة تامة لمراد الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- من خلق الإنسان وإعمار الكون بالحق والعدل ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 73] ووفق نظرية استخلاف أجيال البشرية -بعضُها لبعض- على قيمة تلقي عبير التسبيح الجماعي مع الكون ﴿تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا﴾ [الإسراء: 44].
قام الصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- بالدين أحسن قيام وأفضله، ليس على مبدأ التنابذ مع البشرية كما جاء في ديانات أخرى، ولسنا في حاجة إلى تقصي أدلة منافرة أهل الكتاب مع الإنسانية وعدائهم لها حتى نثبت فضل رعيل الإسلام الأوائل، وإن كانت نصوص عدائهم كثيرة من مثل: «اضْرِبُوا لاَ تُشْفُقْ أَعْيُنُكُمْ وَلاَ تَعْفُوا، اَلشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ، اقْتُلُوا لِلْهَلاَكِ»4. إنها نصوص تمثل صورة من العداء الممتد لكل مفردات البيئة والحياة، وتظهر دوافع فساد ليس له حد ولا سقف ينتهي عنده: «امْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ»5.
والحقيقة أن هذه نصوص مرعبة، تستحق أن يكتب عليها تحذيرات كالتي يكتبونها على مشاهد الرعب، إننا في خجل واضطرار لتسطير هذا الكلام وتلك العبارات غير متندر ولا متطلب الاستقصاء في غير موضعه، ولم أذكرها هنا إلا بسبب أن تطبيقات هذه النصوص ما زالت توجع الإنسانية بحروب فتاكة ليس فقط على مستوى ميادين الحروب؛ بل تعدت لميادين الحياة جميعها، وكلما فتحت البشرية أبواباً تتطلب منها الأمان وجدت فيها أفاعي جراء سيطرة أقوام آمنوا بهذه النصوص واتخذوها ديناً، حتى في مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم والترفيه، ويا للأسف أغلب النشاط البشري -إن لم يكن كله- تدخلوا فيه وأفسدوه.
وقديماً كان بعض عرب الجزيرة يقتل ابنته فيما يُعرف قرآنياً بوأد البنات ﴿وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ * بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ﴾ [التكوير: 8-9] وبدأ ذلك بسبب فتاة تزوجت من ابن رئيس قبيلة معادية، فعزم أبوها على قتل كل بنت تولَد له، وصارت تلك عادة متنامية الانتشار، ولم يكن الغرب أحسن حالاً فقد كانت الألعاب الأولمبية عند الرومان تبدأ بشخصين وتنتهي بواحد باعتبار أن الآخر قتيل، وفي القلب من تحكم هذه النظريات بحالها المرعب والتي كانت البشرية مرشحة فيه للانقراض النوعي والقيمي، حتى بعث الله -جَلَّ وَعَزَّ- لنا نبياً حصر مشروع رسالته على الرحمة العامة فقال -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
ولم تكن دعوة النبي ﷺ في أصل الرحمة مختلفة عن باقي رسالات الأنبياء من قبله -عَلَيْهِم السَّلَام- إلا أن رسالة سيدنا محمد ﷺ وجدت لها مَن يحملها ويتحمل تبعاتها وما يترتب على نشرها من تضحيات وهم الصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157].
واستحقوا بهذا التأييد وتلك النصرة الرضوان من الله -تعالى- في مواضع من القرآن الكريم والسنة الشريفة، وأوضح ما ثبت به العدالة المطلقة لهذا الجيل الفريد قول الله تعالى: ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100].
وبنشر الصحابة لرسالة نبيهم دون تحريف لها أو تبديل وتطبيقهم للدين عملياً، أحدثوا في الإنسانية تغييراً أحيا البشرية من فناء محقق في معناه الإنساني والقِيمي بل حتى النوعي، وأنقذها بعدما انحرفت عن الوحي الذي كان يمثل الطريق المستقيم الذي أكرمها الله تعالى به!
1 «جيل قرآني فريد» هو عنوان فصل في كتاب: «معالم في الطريق» للأستاذ سيد قطب (المتوفى: 1385ه) عالج فيه قابلية تكرار مثل جيل الصحابة، لوجود النبع الذي استقى منه الصحابة تربيتهم وهو القرآن والسُّنَّة، بشرط التلقي للتنفيذ، قال الأستاذ سيد -رَحِمَهُ اللَّهُ-: “إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا، وحديث رسول الله ﷺ وهديه العملي، وسيرته الكريمة، كلها بين أيدينا كذلك، كما كانت بين أيدي ذلك الجبل الأول، الذي لم يتكرر في التاريخ، ولم يغِب إلا شخص رسول الله ﷺ… إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول، ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرَّج الأجيال التي تليه، وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملاً أساسياً كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد”!
2 الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية (1/ 130) وهو تعريف نقله الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية ص99 عن الإمام أحمد بن حنبل.
3 مسند أحمد (34/ 170 ط الرسالة)، وفضائل الصحابة له (1/ 47).
4 الكتاب المقدس- العهد القديم (التوراة)- سفر حزقيال: الإصحاح: 9: العدد: 5، 6.
5 الكتاب المقدس- العهد القديم (التوراة)- سفر التكوين: 1: 28.