
قيادة حماس تستقبل وزير الخارجية الأفغاني
مايو 3, 2025
لا يكون التمكين إلا باتخاذ أسبابه
مايو 3, 2025د. محمد الصغير
رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
لا يخلو زمن من قائم لله بحجةٍ، ويرفع رايةَ العلم من كل خلَف عُدولُه، يَنفون عنه تحريفَ الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهذا ما جعل الإمام المبجّل أحمد بن حنبل يُذكر في سياق واحد مع الخليفة الأول وأفضل هذه الأمة بعد نبيها ﷺ؛ فقالوا: “إن الله تدارك الإسلام برجلين: بأبي بكر في الرِّدة، وأحمد في المحنة”. حتى أصبح وصف إمام أهل السنة والجماعة إذا أُطلق انصرف إليه، مع أن مَن حملوا هذا الوصف قبله وبعده لا يُحصون عدداً، لكن موقفه الثابت ضد العمل على تغيير العقيدة والثوابت.. جعله قدوةً ومثلاً للذين ﴿یُبَلِّغُونَ رِسَـٰلَـٰتِ ٱللَّهِ وَیَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا یَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ﴾ [الأحزاب: ٣٩].
والعادة في مواقف العلماء من الصدع بالحق ونفي الظلم، والوقوف في وجه الاستبداد ومجابهة الطواغيت أنهم على ثلاثة أقسام:
الأول: أهل الحق الذين انتصبوا له وعُرفوا به.
الثاني: مَن انخرط في موكب الباطل، أو ساير الرَّكب.
الثالث: مَن ضعفَ عن قول الحق، أو لم يتحمل تبعاته، لكنه لا يقبل الباطل ولا يصفق له.
هذه الأصناف الثلاثة أُضيفَ إليها ضلعٌ رابعٌ، جمَع المتوسط من الأول والثالث، وتبدّى ذلك عندي لما كتبت عن فضيلة الشيخ المحدث أبي إسحاق الحويني بعد وفاته رحمه الله سلسلة مقالات، نُشرت في نوافذ أخرى تحت عنوان: الحويني نسيج وحده:
1- الحويني بين الأزهريين والسلفيين
2- الحويني في ميزان الشيخ كشك
3- الحويني والشيخ المشناوي في سوهاج
4- الحويني في الغربة وبركة الصحبة
واكب هذه المقالات صدور فتوى علماء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، عن وجوب الجهاد على الجيوش والحكومات نصرة لفلسطين، ودفعاً للعدوان عن أهل غزة، كما يتحتم الواجب على كل مسلم مستطيع، وهذا أوقع بعض الأنظمة في حرج، فألقوا حبالهم وعصيهم وأزوا أتباعهم من أصحاب العمائم المزورة واللحى المستأجرة، للشغب على فتوى العلماء، وبداية حملة للطعن في المجاهدين والمرابطين، وهنا انقسم الناس إلى فسطاطين، وبرز سؤال: إلى أي الفريقين ينتمي الشيخ الحويني؟
وإجابة السؤال تظهر من ردّ كلام الشيخ عن سؤال حول رأيه في (حماس) ومَن يشغبون عليها من المبتدعة و(المدخلية)؛ فقال :
إخواننا في (حماس) جماعة سنيّة لا إشكال فيها، والذين يشوهون صورة (حماس) المداخلة المُبتدعة المخذّلة فلا تسمعوا لهم، ونسأل الله أن يبارك بـ(حماس) وأن ينصرهم”. ا.ه
وهذا يأخذنا إلى موقف الشيخ الحويني من الموضوعات السياسية، والقضايا العامة بصفة عامة، وهذا ما بدأت به حديثي، وهو أن الشيخ خط لنفسه خطاً جديداً فريداً، كان ملتزماً به وحريصاً عليه، وهو أنه لا يؤخر البيان عن وقت حاجة الناس إليه ما دام متعيناً عليه، ولا ينكل عن قول الحق، ولا يتردد في فضح الباطل وكشف الزيف، وله مطالعة يومية، واطلاع دائم على قضايا الأمة، وأحوال المسلمين جميعاً، ويرى أن هذا من أخص واجبات العالم، لكن الحديث عنها والتصدر لها وبيان ما فيها، هو وظيفة المتخصصين والمتفرغين لهذا الشأن، وقال لي يوماً: “يريدونني أن أصبح محللاً سياسياً، وأعلّق على كل حادثة؟ وأنا لا أجيد ذلك، ولست مختصاً فيه، فإني لا أحسن الكلام إلا حول روينا وحدثنا، ثم أليس الناس ينكرون على بعض العلماء والدعاة استغراقهم في الشأن السياسي وكبواتهم في هذا الطريق، وكيف أن المنابر السياسية زحزحتهم عن منابرهم الدعوية والتربوية، وبعضهم أصبح لا تفرق بينه وبين المسحراتي”؟!
لذا رأينا الشيخ الحويني عالي الصوت واضح البيان، في الردّ على قضايا سياسية كبرى، كانت متعينة عليه وحده، ومن ذلك عندما استشهد به (السيسي) في خطاباته الأولى بعد انقلابه العسكري، وذكر الشيخ الحويني بالاسم وأنه يجلّه ويحترمه، وافترع واقعة معناها أن الشيخ الحويني استشاره في ترشيح أحد السلفيين لانتخابات رئاسة الجمهورية، وأن (السيسي) نصح بعدم فائدة ذلك ورفض التفكير فيه، وأن الحويني شكره على ذلك، فما كان من الشيخ الحويني إلا أنه كذب هذه الرواية المختلَقة، ونفى صحتها وأنها موضوعة على لسانه، فعل هذا وهو داخل مصر، والعساكر يسنّون أسنانهم للفتك بأي مخالف.
ثم جاء الردّ الأكبر والمفاصلة الواضحة بعد دعوة (السيسي) لجماهير المصريين، للنزول للميادين لتفويضه في الحرب على ما سماه “العنف والإرهاب”، فأصدر الشيخ الحويني بياناً رفض فيه بيان (السيسي)، وطالبه بعدم التورط في سفك دماء المصريين.
وحمل البيان عنوان “هذه كلمتي في أحداث مصر الجِسام”، أعرب فيه الشيخ عن “فزعه الشديد” من دعوة (السيسي)، ووصفها بأنها “أمر منكر لا يجوز شرعاً ولا عُرفاً”، وقد يؤدي إلى حرب أهلية، وسفك للدماء المحرمة.
ونصح الحويني في بيانه وزير الدفاع وقتئذ، بألا يتورط في دماء الشعب كما فعل أبو مسلم الخراساني، الذي قتل أكثر من مائة ألف نفس لتوطيد ملك الدولة العباسية على جماجم بني أمية وعوام الناس الذين ليس لهم مذهب سياسي.
واختتم الشيخ بيانه بتوجيه دعوة للسيسي جاء فيها: “لا تتورط في هذا واذكر مقامك بين يدي الله تعالى وحيداً ﴿یَوۡمَ تَأۡتِی كُلُّ نَفۡسࣲ تُجَـٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ﴾ [النحل: ١١١]، فالخلاف السياسي لا ينهيه سفك الدماء؛ بل قد يجر البلاد إلى فوضى عارمة وبحر من الدماء لا يعلم إلا الله تعالى مآله”.
وعندما دعا النظام المصري للاستفتاء على دستور جديد، رفض الشيخ الحويني الدعوة ودعا إلى المقاطعة، في رفض واضح لكل ما ترتب على انقلاب 3 يوليو.
ومع اشتداد المرض على الشيخ سافر إلى قطر للعلاج، وكانت حالته متأخرة جداً، فوجد فيها رعاية متكاملة وأنس بأهلها، وهاجر إليها بأهله وولده، وهنا عدّ النظام المصري صنيعه هذا انحيازاً للطرف الآخر، ثم شاركت مصر في حصار قطر مما عمق الهُوّة بين البلدين، وحان لأجهزة الأمن المصرية فرصة الانتقام من الشيخ الحويني، فاعتقلوا نجله “همام” الذي ترتيبه الرابع بين إخوانه الذكور، وذلك عقب زواجه في مصر ببضعة أيام، وكل من يعرف همام يشهد له بحسن الخلق والسيرة الحسنة، وأنه يعمل بالتجارة وليس له علاقة بالعلم الشرعي أو الدعوة، ومرّ عليه الآن أكثر من خمس سنوات معتقلاً، كلما انتهت مدة حبسه، أدخلوه بالبهتان في قضية أخرى.
وكانت العادة في الأنظمة السابقة أن ملف الخلاف مع الشخص يغلق بوفاته، وتتوقف تصفية الحسابات معه، ويُفرج عن المحبوسين لأجل صلتهم به، وهو ما نادَى به جمع كبير من علماء المسلمين والمؤثرين حتى أصبح وسم (أفرجوا عن همام الحويني) المتصدر ضمن الأعلى تداولاً على وسائل التواصل، ولكن لا حياة لمن تنادي !
لم يكن الشيخ الحويني يشبه أحداً من أقرانه، وتفرّد بكثير من خصال الخير بين علماء زمانه، وترك للأمة تراثاً وميراثاً يجعله في صفوف الأئمة الأعلام، محباً للحق لا يقبل الضيم، ولا يرضى ظلم الظالمين، كتب الله له أجر المهاجرين العاملين، ورفع الله درجته في عليين!