التهيئة لمباحثات قيام الدولة
فبراير 8, 2024الهجرة… بناء دولة، وإحياء الإنسان
فبراير 8, 2024لقد خرج النبي ﷺ من مكة البلد التي نشأ فيها، وأحبها، وعرف فضلها، ولذلك خرج عليه الصلاة والسلام وقلبه يلتفت إلى تلك البقاع الطيبة الطاهرة، فلما غادرها وقف بالحزورة، وهو مكان قريب من البيت العتيق، ثم التفت إلى مكة، وقال: {والله إنك لخير بلاد الله، وأحب البلاد إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} والحديث رواه الترمذي والحاكم وغيرهما عن عبد الله بن عدي بن الحمراء، وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث صحيح.
يخرج النبي ﷺ فيطيب الرب عز وجل قلبه، ويدله على أنه خرج من مكة اليوم شريداً طريداً، وسوف يعود إليها غداً فاتحاً منصوراً مظفراً: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85] قال المفسرون في هذه الآية بشارة للنبي ﷺ إنه سوف يعود إلى مكة قاهراً لأعدائه، منتصراً عليهم، وهذا قول الأكثرين كما قال القرطبي. وهو مذهب جابر، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وغيرهم من المفسرين إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85] أي: مرجعك إلى مكة مرة أخرى، كما خرجت منها، وقيل المعنى: لرادك إلى الجنة، وقيل المعنى: لمتوفيك بعدما تستوفي عمرك في هذه الدنيا.
خرج النبي ﷺ من مكة مكرهاً، بسبب الحصار على دعوته، وبسبب المضايقة لأصحابه، وعاد إليها بعد ثمان سنوات فحسب، عاد إليها في كتيبة خضراء من المهاجرين والأنصار، لا يرى منهم إلا حدق العيون، يُفَدُّون رسول الله ﷺ بأنفسهم، وآبائهم، وأمهاتهم:
كذبتم وبيت الله نُبزى محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل |
ونسلمه حتى نصرع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل |
نعم جاء نصر الله والفتح، ورأى رسول الله ﷺ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، كما وعد ربه عز وجل.. وفي هذا وقفة:
صمود الإسلام أمام المحن
إن دعوة الإسلام دعوة تاريخية، عمرها طويل، ولم يكن انتصارها ذلك الانتصار الموقوت في زمن النبي ﷺ، بل انتصار الأبد وانتصار الدهر، وعلى رغم مضي ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة على دعوة الإسلام على دعوة الرسول ﷺ، إلا أنها تظل طيلة هذه السنين قائمة، قوية، تصارع العوادي، وتقاوم الأحداث.
وهاهو الإسلام اليوم في قلب أوروبا، يقض مضاجع الغربيين، فيتواطئون ضد حفنة من أبناء الإسلام في أرض البوسنة، ويسلمونهم إلى عدوهم بلا سلاح، على رغم أن وسائل الإعلام الغربية كلها: مسموعها، ومرئيها، تعرض صباح مساء، لتلك الجرائم البشعة، وهذه المآسي المفجعة، وهذه الوجوه التي قد أمضتها الجراح والآلام، مآسي الكبار، مآسي العجزة، والشيوخ، والنساء، والأطفال، مآسي الجوع، والفقر، والمرض، ومع ذلك كله يتواطأ هؤلاء ضد حفنة من أبناء الإسلام، وأوليائه، لماذا؟!
إنهم لا يتآمرون ويتحالفون إلا على الأقوياء، أما الضعاف فيمكن هزيمتهم بأقل من ذلك، نعم يكفي قوة للإسلام أن بلداً نائياً كذلك البلد، لم يكن جمهور الناس يعرفون أن فيها مسلمين أصلاً، ولا يدرون أن فيها مساجد تاريخية أعمارها أحياناً تزيد على ستمائة أو سبعمائة سنة، وأن فيها ملايين من أهل لا إله إلا الله، وإن كان حيل بينهم وبين معرفة حقيقتها في كثير من الوقت.
يكفي في قوة الإسلام أن قوماً كهؤلاء عزلاً من كل سلاح، يظلون على ما يزيد على عشرين شهراً يقاومون رابع أقوى جيش في العالم، مدججاً بأقوى الأسلحة، وهم يواجهون الرصاص بصدور عارية، ويصبرون على رغم اللأواء التي لم يكن أحد يتوقع أن يصبروا عليها شهراً، أو بضعة أسابيع.
الإسلام في الجمهوريات السوفيتية
وها هو الإسلام في جمهوريات آسيا الوسطى اليوم ينبعث من وسط الركام، بعد أن ظن الظانون أنه قد انطمس وانتهى، وإذا المسلمون في طاجكستان، أو أوزبكستان، أو سمرقند، أو بخارا، أو وادي أفرغانة، وفي تلك المدن التي عرفها التاريخ، وخرجت أكابر العلماء، في الحديث والتفسير، والفقه، واللغة، والبلاغة، وغيرها، إذا بتلك البلاد التي تحن من جديد إلى دينها، وترجع إلى أصولها، وإذا بالمآذن ترتفع في سمائها، وإذا بصوت التكبير يعلو في أجوائها، وإذا بالحجرات السرية تستطيع بضعفها أن تقاوم كيد الشيوعية الذي استمر أكثر من سبعين سنة.
نعم. لقد حفظت تلك الحجرات للشباب إيمانهم، وعقيدتهم، بل ولغتهم، والبارحة كان معي أحد الشباب من مدينة سمرقند، فإذا به يتكلم العربية بطلاقة، وهو حديث عهد بهذه البلاد، فسألته كيف عرفت اللغة العربية؟ قال: تعرفتها وتعلمتها من شيخي الذي كان يدرسني في الحجرات، وكم لبثت في الحجرات؟ قال: أكثر من ثلاث سنوات.
نعم. لقد درس العقيدة الصحيحة، من كتب السلف، ودرس الفقه، ودرس اللغة العربية، ودرس أصول الإسلام، في الحجرات، التي ربما يظل الطالب فيها ثلاث سنوات، دون انقطاع وسط ركام من المخاوف، من أجهزة المخابرات الـ K.G.B التي تملك أكثر من ثلاثة ملايين عنصر من أولئك الرجال، الذين دُربوا على أنه لا كرامة لأحد، وأنهم مستعدون أن يبطشوا بأقرب قريب، ومع ذلك ظل الإسلام يتأبى على محاولات الصهر والإزالة والسحق، فإذا أتيحت له أية فرصة ظهر من جديد أقوى ما كان.
عمر الدعوات الباطلة
إن أعمار الحركات الأيدلوجية البشرية الأرضية، أو الدعوات العلمانية، التي يختلقها الناس، مهما طالت فهي قصيرة، فالشيوعية -مثلاً- لم تزِد في عمرها على سبعين سنة، ولم يشفع لها أن تكون تملك ما يزيد على ثلاثمائة ألف رأس نووي، أو ثلاثة ملايين عنصر أمني، أو أكثر من هذا العدد من رجال الجيش، أو تملك الأجهزة المتطورة في مجال التسليح وغيره، لم يشفع لها ذلك كله، لأنها، كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار.
أما الرأسمالية وريثة الشيوعية، والتي أخذت تركتها من بعدها، والتي تهيمن على العالم الغربي، فهي تعاني اليوم من الأزمات والأعراض نفسها، أزمات الاقتصاد التي سقطت بسببها الشيوعية، تنتقل اليوم إلى الغرب، في أمريكا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، والصين، واليابان، وغيرها، فهي تعاني من أعراض الكساد، والتضخم، والبطالة، وغير ذلك من الأمراض التي تفتك بها، وتوشك أن تكشف عوارها.
فكل الدعوات البشرية العلمانية، والشيوعية، والرأسمالية، والقومية، والاشتراكية، كلها دعوات بشرية لا تملك أنبياء، ولا تملك أولياء، ولا تملك عمراً، تقاتل عشر سنوات، أو عشرين، أو أقل من مائة سنة، ولكنها بعد ذلك تنتهي، وتنمحي، وتنقل إلى مزبلة التاريخ.
عمر الإسلام
أما هذا الدين فقد مضى عليه اليوم ألف وأربعمائة سنة، وعدد المتحمسين لهذا الدين في ازدياد، انظر إلى عدد رواد المساجد، تجد أن العدد يزداد يوماً بعد يوم، بل انظر إلى عدد الذين يدخلون في الدين، تجد قبائل بأكملها من الوثنيين، أو النصارى، في أفريقيا، وإندونيسيا، أو غيرها من بلاد الله تدخل في دين الله عز وجل ليس فقط أولئك الذين لا يملكون العلم هم الذين يدخلون في الدين، بل حتى في أرقى مراكز العلم، في أوروبا، وفي أمريكا، أطباء، وعلماء، وخبراء، وساسة، على أعلى المستويات، يعلنون دخولهم في الدين.
وسفير ألمانيا في بلاد المغرب، خير مثال على ذلك (هوفمان) الذي أخرج كتابه الجديد الشهير: الإسلام هو البديل، والذي تكلم فيه عن انهيار الحضارة الغربية، وقدم فيها النموذج الإسلامي، كبديل عن تلك الحضارة الزائلة الآيلة للانهيار.
ومثله عدد من سفراء الدول الغربية، وعدد من رجالتها، وساستها، وعلمائها، وخبرائها، يعلنون دخولهم في هذا الدين، إذ أن هذا الدين هو دين الله عز وجل وهذا سر المعجزة، فهو يصلح للأعرابي في صحرائه، كما يصلح للطبيب في مختبره أو عيادته، كما يصلح للسياسي في أروقته، كما يصلح للرجل في معمله، كما يصلح للمرأة في عقر دارها، إنه الدين الذي يلائم عقول الجميع ونظراتهم، ويلبي كل مطالبهم الفطرية الجبلية.
إن أولئك الفتية الذين تخرجوا على يد النبي ﷺ، وخرجوا من صحرائهم لأول مرة، لا يزالون معلماً تتخرج على ضوئه الأجيال بعد الأجيال، لقد جعل منهم الوحي رجالاً خير من عرف الناس، ومشى الدين فيهم مشي العافية في المريض المضنى المقعد، وفي لمحة بصر تحولوا من رعاة الشاء والغنم، إلى قادة العصور وسادة الأمم، تحولوا إلى فرسان النهار رهبان الليل، تسمع بالليل بكاءهم بالقرآن كدوي النحل، وتسمع بالنهار صليل سيوفهم، كما قال الشاعر:
مشى الوحي فيهم مشية البرء في الضنى فأي فتى من سحره غير طافح |
فطاروا إلى الدنيا بدين محمد وقد فتحوا الدنيا كلمحة لامح |
كأن الرياح الذاريات مطيهم يلفون وجه الأرض لف الوشائح |
تجوز بهم رمضاء كل تنوفة سوابح خيل تهتدي بسوابح |
ففي كل بر منهم زحفُ زاحفِ وفي كل يمٍّ منهم سبحُ سابح |
كأن دوي النحل مثل دويهم إذا ارتفعت أصواتهم بالفواتح |
يجول بهم إسلامهم كل جولة ويلقي بهم إيمانهم في الطوائح |
فما الموت في الإيمان مرٌ مذاقه ولا الحتف في الإسلام صعب الجوائح |
فقادوا على أرماحهم كل مصعب وراضوا على أسيافهم كل جامح |
فلا قيصر يزهو على الشام تاجه ولا تاج كسرى كالنجوم اللوامح |
تناثرت التيجان تحت خيولهم وأهوى على أقدامهم كل طامع |
فأين عيون الحق تشهد أمة تئن أنين الطير من كل ذابح |
تعالت فطاحت فاستكانت فأصبحت لإذلالها يلهو بها كل مازح |
فلا ملكها في الأرض مشتبك العرى ولا عيشها في الناس عيش الصحائح |
على مثلها من ذلة بعد عزة تفيض جفون بالدموع السوافح |
فهل صيحة في العرب تبعث ملكهم ألا ربما هبوا لصيحة صائح |
إن هذه المسافة التاريخية الهائلة التي قطعها الإسلام وهو يكتسب في كل يوم مواقع جديدة، وانتصارات جديدة، على رغم الضعف الذي ألم بأهله، وحملته، إن ذلك كفيل بأن يطمئن القلوب، ويهدئ النفوس، ويقطع للناس جميعاً أن المستقبل لهذا الدين اليوم، كما كان له المستقبل بالأمس، وأن كلمة الله تعالى ماضية على الناس في هذا الزمان، كما هي ماضية في كل زمان، وأن الله تعالى قال في محكم التنـزيل: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55].
قصة سراقة بن مالك في الهجرة ودلالتها
إن مما يجدر ذكره ما رواه سفيان عن أبي موسى عن الحسن، وهو حديث مرسل، وقد ذكره الحافظ ابن عبد البر، وابن حجر وغيرهما من أهل السير: أن النبي ﷺ لما لحقه سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، يبحث عن أعطية قريش وهديتها لمن يأتي برسول الله ﷺ، فساخت قوائم فرسه في الأرض، فبعد ذلك قال الرسول ﷺ، وقد طلب كتاب الأمان: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟! فقال سراقة: كسرى بن هرمز؟! قال له النبي ﷺ: نعم كسرى بن هرمز [وحدث هذا فعلاً] فجاءت التيجان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أين سراقة؟ فجيء به، فأخذ التاج بيده، وألبسه سراقة، وقال: الحمد لله الذي سلبها كسرى بن هرمز، وألبسها أعرابياً من بني مدلج.
إنها أحلام الأمس، ولكنها حقائق اليوم.. وقد جاءت القصة في الأصل في صحيح البخاري: {أن سراقة طلب من النبي ﷺ كتاب أمان فكتبه له}.
إنها الثقة بالله عز وجل ووعده بمستقبل هذا الدين في غمرة الأحداث، وفي أشد الأوقات، وأعظم الأزمات، فقد كان الناس يعتقدون أنه ربما يقبض على هذا النبي الكريم في أي مكان، وينتهي تاريخ الدين، ولكن الأمر عند الله تعالى كان على غير ذلك.
بشائر النصر تبرق يوم الأحزاب
ومثل هذا تماماً ما حدث يوم الأحزاب، حين جاءت الأحزاب من كل مكان، وتحالفت كل القوى العظمى في ذلك الوقت على المسلمين. والمسلمون كانوا قلة في المدينة، وحوصروا حصاراً اقتصادياً وعسكرياً، وظن الناس بالله الظنون، وارتاب المنافقون، حتى قال قائلهم: الواحد منا لا يستطيع أن يذهب في قضاء حاجته، ومحمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر.
وهنا تأتي البشارة من الرسول ﷺ، فلما ضرب النبي ﷺ الصخرة، وبرقت قال: أضيئت لي قصور بصرى، وقصور صنعاء، فأخبر أصحابه أن آية النصر تتجلى في هذا الموقف الذي تحالف الناس فيه ضد الدعوة، إنهم لم يتحالفوا ضدها إلا لأنها تملك القوة، وتملك التهديد، وتملك المستقبل، ثم جاء الوعد من الرب عز وجل: وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].
إن الحاجة ماسة في أوقات الضعف -ضعف المسلمين- وتكالب أعدائهم عليهم، ووجود ألوان مما يظنه الناس هزائم تعانيها الأمة الإسلامية في أكثر من موقع، إنهم أحوج ما يكونون إلى تأكيد ثقتهم بوعد ربهم، ويكفي أن تتلى عليهم آيات الله عز وجل: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49] وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40-41] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المقال مقتبس من محاضرة للدكتور سلمان العودة، عنوانها “حديث الهجرة”، ألقيت في 23 محرم 1414، فرّغها موقع (إسلام ويب).