في ذكرى المولد النبوي
أكتوبر 8, 2024واقْتَرَبَ الوَعدُ الحَقُّ
أكتوبر 8, 2024الشيخ الأستاذ التهامي الزهار – رحمه الله –
ما زالت المحن تضفي على الشعوب القوية الإيمان بوجودها، الغيورة على كيانها الواثقة بتعاليمها، أثواب العز والسؤدد رغم الأعاصير التي يخيل للناظر من بعيد أنها ستجتاحها وتأتي عليها في وقت قريب لما ظهر عليها من تمزق في الشمل وتفرق في الكلمة وتنازع على السيطرة وما انفكت أقلام الكتاب تتناول بالتحليل والعرض العوامل التي كانت مثاراً للحروب الصليبية التي مني بها المسلمون.
يمكن إرجاع تاريخ الحروب الصليبية إلى اليوم الذي هزم فيه المسلمون هرقل في واقعة اليرموك على عهد سيدنا عمر رضي الله عنه (۱۳ هجرية)، فكانت الحروب التي شنها المسلمون لإفساح المجال للعقيدة الإسلامية المبشرة بالتعاليم السماوية الضامنة لكافة الشعوب حرية المعتقد والمساواة في الحقوق وأداء الواجبات وتخليصاً للشعوب الواقعة تحت سيطرة الملوك المستبدين الذين لا يقيمون وزناً إلا لطبقة من الشعب قربها الحكام بأمرهم وميزوهم بالرعاية وسعة العيش فكانت الشعوب مستعبدة للملوك وطبقة النبلاء وهذا الفتح أفسح أمام المسلمين المجال لإدخال أراضي شاسعة وأقوام كثيرة ضمن الدولة الإسلامية الفتية فافتكوا من الروم، الشام ومصر وشمال إفريقيا، واستمروا ينشرون الأنوار إلى أن بلغوا في أروبا جبال البراني، ومن قبل قهروا دولة فارس ولم يبق فيها ظل للنفوذ الفارسي.
بقي المسيحيون ينظرون مبهوتين من قوة هاته الدولة ووقرت في نفوسهم الهيبة وتملكهم الإعجاب وأخذوا أنفسهم بالبحث عن أسباب هاته العظمة فلم يستطيعوا طيلة خمسة قرون تقريباً أن يقدموا على حرب المسلمين حرباٍ يرجعون بها شيئاً من سالف عزهم ففي الأندلس كانت هيبة المسلمين ما زالت موفورة إلى أواخر القرن الرابع الهجري فالمنصور ابن أبي عامر الذي قال في حقه الشيخ عبد الواحد المراكشي: “أقام الهيبة فدانت له أقطار الأندلس كلها وآمنت به ولم يضطرب عليه شيء منها أيام حياته لعظم هيبته وفرط سياسته”، لم يزل مواصلاً غزو الروم فقد غزا في أيام مملكته سبعاً وخمسين غزوة موفقة ووصل إلى معاقل قد كانت امتنعت على من كان قبله وملأ الأندلس غنائم وسبياً من بنات الروم وأولادهم ونسائهم.
وفي الشرق رغم أن الخلفاء العباسيين لم تعد يدهم قابضة على جميع ما يرجع إليهم بالنظر والتصرف والحكم الفعلى ابتداء من محمد المنتصر بالله بن المتوكل سنة ٢٤٧ عاد إلى القواد والدويلات الموزعة الناشئة أمثال الدولة البويهية والدولة السلجوقية ودولة آل سبكتكين.
فالسلجوقيون المتاخمون للدولة البيزنطية ما زالوا يخيفون ببأسهم وقوة شكيمتهم صاحب القسطنطينية حتى اضطروه إلى دفع جزية سنوية فاستنجد بملوك أوربا على المسلمين وأثار العرق الحساس في البابا واعداً إياه أن يدخل في طاعة كنيسته ويتخلى عن أرثوذكسيته إذا هو ساعده على دفع صائل المسلمين. وكانت الدولة الفاطمية الراجع إليها أمر بيت المقدس تلزم كل حاج من النصارى بدفع ضريبة زعموا أنها فاحشة وعظم أمرها عند بعض رؤساء الدين منهم (البطريرك سمعان) فأهاج أمثال بطرس الناسك الخواطر في الضرب على المسلمين وبالغوا وأكثروا فيما يلقاه النصارى من العنت في حجهم. على أنه لم يحدث من الاعتداء على حجاج القبر المقدس سوى حوادث فردية قليلة لا تخلو منها بلاد، قال منرو(۱):
“كانت هذه الفظائع المنسوبة إلى المسلمين ممزوجة بكثير من الأفاويه لتوافق روح ذلك العصر الذي كان أشد توحشاً من عصرنا هذا، وكان النصارى يأخذون قصص هذه الفظائع على علاتها فعظم تأثيرها في حماسة الكثير منهم،ولجأ الغربيون إلى أنواع أخرى من الدعوة وإهاجة الأفكار على المسلمين فاتهموهم بعبادة الأصنام، واغتنم البابا فرصة عقد الجمع الديني في (كلرمون) فعرض عليه ما يلقاه النصارى من الإرهاق وحرض أبناء النصارى على حمل الصليب ليفتحوا القبر المقدس ومنحهم غفراناً عن كل خطاياهم، وأحل لهم ما تجترحه أيديهم وجوارحهم حامياً بسيادته الروحية عيالهم وأموالهم مدة غيابهم واعداً إياهم بمغانم دنيوية كثيرة يسقطون عليها لا محالة إذا فتحوا الأرض المقدسة، فسار بعضهم مدفوعاً بسائق الدين ومنهم الطامع بالمغانم والأرباح. وقد كان الفقر في تلك الفترة قد عضهم بنابه وأصيبوا بأوبئة حصدتهم ومجاعات زادت في عوزهم فأوهم رؤساءهم بأن الشرق الإسلامي بلاد الذهب لا يلبث نزيله أن يغتني وينعم”.
وفي آخر سنة (٤٩٠هـ) اجتمعت في القسطنطينية جيوش الصليبيين وبعد مصاعب شديدة لقوها في آسيا الصغرى تقدموا ففتحوا الساحل الشامي واستولوا على بيت المقدس في ٢٣ شعبان سنة ٤٩٢هـ وولوا قودفروا الفرنساوي ملكاً عليها ولو لم يكن آل سلجوق لاهين عن مقاومة المسيحيين بالحروب الداخلية العائلية لما أمكن المسيحيين من التقدم شبراً في الأراضي الإسلامية ولكن التفرق والنزاع على النفوذ وحب الاستئثار بالجاه بين رجال السقع الواحد يكون دائماً مدعاة لضياع ما بالأيدي وسلط الغير، ففي غضون هذه الحروب الداخلية ملك الإفرنج عدة مدن أخرى منها سروج من أعمال الجزيرة وعكا وقنسرين في سنة ٤٨٤هـ وطرسوس في سنة ٤٩٥هـ ثم تقدموا ففتحوا جفيل وغيرها من بلاد الشام في سنة ٤٩٦هـ وأخيراً استولوا على مدينة طرابلس في سنة (٥٠٣هـ) ومدينة صيدا في سنة ٥٠٤هـ فما زال المسيحيون مغتنمين فرصة حدوث القلاقل بسبب الخلافات المستمرة بين السلجوقيين إذ قامت بين السلطان محمود السلجوقي وأخيه داود وبعض أعمامه حروب سفكت فيها دماء المسلمين فكانوا يسرعون الخطى لتثبيت أقدامهم في جهات الشام وأسسوا أربع إمارات مسيحية في بيت المقدس وحمص وأنطاكية وطرابلس.
إلا أن الله لابد أن يجعل لأتباع دينه مخرجاً بعد أن يبلوهم ليريهم عاقبة التفرق والتنازع على حطام هاته الدنيا فظهر صاحب الموصل عماد الدين زنكي الذي استولى على عدة إمارات إسلامية ثم عقد العزم على إخراج الإفرنج من بلاد الشام وكان له ذلك، وبلغ الإسلام أوج عزه كسابق عهده في فترات من التاريخ في عدد من بقاع الأرض في مدة نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي الذي استرجع من النصارى مدينة القدس في ٢٧ رجب سنة ٥٨٣هـ فذهب حلم النصارى اللذيذ وأدركوا أن المسلمين تهمهم كثيراً قبلتهم الأولى وأن عوارض الضعف ظهرت عليهم مؤقتاً وأن أجسامهم ما زالت سالمة والانحرافات التي تعرضوا لها لا تلبث أن تزول إذا ما قيض الله لهم رجالاً صالحين منهم يمدونهم بأسباب العلاج والوقاية.
ثم لنقارن بين أعمال الصليبيين وأعمال المسلمين: أما الصليبيون فكانوا عاهدوا ملك الروم على أن يسلموا إليه أول بلد يستولون عليه فاستولوا أولاً على مدينة ينعية ولم يسلموها إليه ولم يترددوا في إهانة قومه وسكان بلاده وإطالة أيديهم بالأذى فخربوا المصانع وعبثوا بالبيع والكنائس وجعلوها طعاماً للنار ولما جاؤوا إلى المعرة قتلوا على رواية ميشو2 جميع من كان فيها من المسلمين ممن لجأوا إلى الجوامع واختبأوا في السراديب، وأهلكوا صبراً ما يزيد على مائة ألف إنسان في أكثر الروايات وكانت المعرة من أعظم مدن الشام وكان سكان الأطراف بعد سقوط أنطاكية يعتصمون فيها. وكذلك فعلوا بيت المقدس فقد أفحشوا القتل في المسلمين حتى هلك منهم عشرات الألوف، فيهم جماعة من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد. وارتكبوا كل محرم في دينهم مع المسلمين واليهود.
قال ميشو أيضاً: “كان الصليبيون يُكرهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعالى البروج والبيوت، ويجعلونهم طعاماً للنار ويخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الساحات ويقتلونهم فوق جثت الآدميين، ودام الذبح في المسلمين أسبوعاً حتى قتلوا منهم على ما اتفق على روايته مؤرخة الشرق والغرب سبعين ألف نسمة، ولم ينجُ اليهود كالعرب من الذبح فوضع الصليبيون النار في المذبح الذي لجأوا إليه وأهلكوهم كلهم بالنار”.
وكان هذا ديدنهم مع أهالي كل بلد يدخلونه في الشام. وإحراقهم لدار الحكمة في طرابلس وكان فيها نحو مائة ألف مجلد أكبر دليل على رعونتهم وخشونتهم فأوقدوا بما صنعوا نيران التعصب بين المسلمين والنصارى من الشاميين وما نظن المسلمين فاعلين بهم يوم إن رجع لهم الأمر. إنهم عملوا بقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ وأما هم فقد خالفوا تعاليم المسيح في الشفقة والإحسان.
وإلى القارئ الكريم دليل محسوس من سيرة من سيرة سيدنا عمر بن الخطاب السلطان صلاح الدين لما استرجع بيت المقدس سنة ٥٨٣هـ وجد فيها مائة ألف صليبي منهم ستون ألف راجل وفارس عدا من تبعهم من النساء والأطفال فأبقى على حياتهم واستوصى بهم خيراً واكتفى بأن ضرب على كل رجل منهم عشرة دنانير وعلى كل امرأة خمسة وعلى كل طفل دينارين.
أما النتائج للعراك الذي حدث بين الغرب والشرق فقوستاف لبون يفيض فيها ويقول أنها كانت عقيمة من حين غايتها الأولى وهي الاستيلاء على فلسطين، فالصليبيون على ما أهرقوا من دماء وبذلوا من أموال رجعوا بعد قرنين بخفي حنين. أما من حيث النتائج غير المباشرة في هذه الحروب فيمكن أن يقال أن منافعها عظيمة فالاختلاط بالشرق مائتي سنة كان من العوامل القوية في انتشار المدنية في أروبا وحدث أن الغاية من الحروب الصليبية جاءت على غير ما أريد منها وأن هذا التناقض بين الغاية المتوخاة والغاية التي وصلوا إليها ما يماثله في التاريخ وليتمثل في ذهنه من شاء أن يقدر التأثير المشترك من احتكاك الشرق بالغرب حالة تمدن كل الشعوب التي اختلطت بالأمم الأخرى. ونحن نعرف أن الشرق بفضل العرب كان ينعم إذ ذاك بمدنية زاهرة على حين كان الغرب غارقاً في التوحش. ولم يربح الشرق باحتكاكه بهؤلاء البرابرة من الصليبيين بل خسر ونتجت له كراهة الغربيين كراهية دامت قروناً وهذا من النتائج المضرة ومن أشأم نتائج تلك الحروب إذ تأصل التعصب وعدم التسامح في العالم عدة قرون.
ومن الفوائد التي عادت على الغربيين من الحروب الصليبية تحرير أصحاب الأرضين من رقهم وتقوية السلطة الملكية وإدخال تعديل على نظام الإقطاعات فانتقلت الثروات من أيدي الأمراء والزعماء إلى أرباب الطبقات الوسطى والدنيا من أهلها فباع من باع من الكبراء وابتاع من عمل بأرضه ومتجره فاغتنى واقتنى الرباع والضياع.
هذه وللمصائب فوائدها إذا ما كان المبتلى بها من ذوي الإحساس وقوة الإدراك وعزة النفس فقد ولدت الشدائد رجالاً أفذاذاً نبغوا في فن الحرب والسياسة يتقدمهم النابغتان نور الدين محمود بن زنكي وصلاح الدين يوسف بن أيوب، ولولا الحروب الصليبية ما ظهر طغتكين نابعة السياسة والإدارة ولولاهما أيضاً ما ظهر نوابغ الحرب أمثال، الكامل والظاهر وقلاوون والأشرف وعشرات من القواد والزعماء. ومن حسنات المصائب أيضاً أن توفق بين مختلف ذوي السلطة فكان التضامن بين أمراء المسلمين في العهد الصليبي على أتمه وربما لم تتآلف قلوبهم في عصر من العصور السالفة تألفهم في ذلك العهد العصيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المجلة الزيتونية، المجلد الثامن، الجزء الثالث، (1371هـ = 1952م)، ص129 وما بعدها
- نظرة الغرب إلى الإسلام في زمن الحروب الصليبية، لمنرو (مجلة الكلية م ١٨).
2 تاريخ الحروب الصليبية، لميشو.