
بيان من الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ عن عرض مسلسل “معاوية”
مارس 3, 2025
والله بقوته معنا
مارس 8, 2025د. عبد الحي يوسف – عميد أكاديمية أنصار النبي ﷺ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد صار رمضان في عُرف كثير من المسلمين المعاصرين شهراً للدعة والكسل، فترى كثيراً منهم يسارعون في تهيئة الأسباب من أجل مزيد من طعام ونوم، وقد غفل هؤلاء أن رمضان أيامه معدودة وساعاته محدودة، والربح فيه وفيرٌ لمن قَدَرَه حق قدره وعامل الله تعالى في خلقه.
ومما ينبغي التنبُّه له أن رمضان كان عند المسلمين الأولين شهراً للجهاد والإنفاق، فوقعت فيه تلك المعارك العظيمة التي غيَّر الله بها وجه الدنيا، ومن ذلك:
أولاً: غزوة بدر، وكانت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة.
ثانياً: غزوة الفتح الأعظم، فتح مكة، كانت في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.
ثالثاً: فتح بلاد الأندلس، كان في رمضان سنة 92هـ بقيادة طارق بن زياد رحمه الله تعالى.
رابعاً: معركة عين جالوت كانت في رمضان سنة 685ه. بقيادة السلطان المظفر قطز، والقائد العسكري الظاهر بيبرس رحمهما الله تعالى.
وإننا في زمان قد حيل فيه بين كثير من المسلمين وبين ما يشتهون من الجهاد في سبيل الله عز وجل بأنفسهم، بسبب تسلط الطواغيت من عتاة البشر والذين يمنعون إحياء هذه الفريضة العظيمة، وقد رأى الناس طراً ما نزل بإخوانهم في غزة من عدوان أثيم، دام خمسة عشر شهراً، والآن بعدما وضعت الحرب أوزارها، لا بد من تذكير الناس بأن الجهاد بالمال صنوُ الجهاد بالنفس، وأن رمضان هو شهر الجود والإحسان؛ حيث تنمو بواعث الخير في النفس السوية؛ فتجدها ساعية في نفع خلق الله بما استطاعت، حاثَّة غيرها على ذلك.
وقدوةُ المسلمين في ذلك رسول الله ﷺ الذي كان أجود الناس؛ وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن؛ “فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة” كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما. ويقول أنس رضي الله عنه: “ما سُئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر”.
وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى واصفاً حال النبي ﷺ مع الصدقة:
“كَانَ ﷺ أَعْظَمَ النَّاسِ صَدَقَةً بِمَا مَلَكَتْ يَدُهُ، وَكَانَ لَا يَسْتَكْثِرُ شَيْئًا أَعْطَاهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَسْتَقِلُّهُ، وَكَانَ لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ شَيْئًا عِنْدَهُ إِلَّا أَعْطَاهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَكَانَ عَطَاؤُهُ عَطَاءَ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَقْرَ، وَكَانَ الْعَطَاءُ وَالصَّدَقَةُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَكَانَ سُرُورُهُ وَفَرَحُهُ بِمَا يُعْطِيهِ أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِ الْآخِذِ بِمَا يَأْخُذُهُ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، يَمِينُهُ كَالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.
وَكَانَ إِذَا عَرَضَ لَهُ مُحْتَاجٌ آثَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، تَارَةً بِطَعَامِهِ، وَتَارَةً بِلِبَاسِهِ.
وَكَانَ يُنَوِّعُ فِي أَصْنَافِ عَطَائِهِ وَصَدَقَتِهِ، فَتَارَةً بِالْهِبَةِ، وَتَارَةً بِالصَّدَقَةِ، وَتَارَةً بِالْهَدِيَّةِ، وَتَارَةً بِشِرَاءِ الشَّيْءِ ثُمَّ يُعْطِي الْبَائِعَ الثَّمَنَ وَالسِّلْعَةَ جَمِيعًا، كَمَا فَعَلَ بِبَعِيرِ جَابِرٍ.
وَتَارَةً كَانَ يَقْتَرِضُ الشَّيْءَ فَيَرُدُّ أَكْثَرَ مِنْهُ وَأَفْضَلَ وَأَكْبَرَ، وَيَشْتَرِي الشَّيْءَ فَيُعْطِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُكَافِئُ عَلَيْهَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا أَوْ بِأَضْعَافِهَا، تَلَطُّفًا وَتَنَوُّعًا فِي ضُرُوبِ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَكَانَتْ صَدَقَتُهُ وَإِحْسَانُهُ بِمَا يَمْلِكُهُ وَبِحَالِهِ وَبِقَوْلِهِ، فَيُخْرِجُ مَا عِنْدَهُ، وَيَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ، وَيَحُضُّ عَلَيْهَا، وَيَدْعُو إِلَيْهَا بِحَالِهِ وَقَوْلِهِ، فَإِذَا رَآهُ الْبَخِيلُ الشَّحِيحُ دَعَاهُ حَالُهُ إِلَى الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، وَكَانَ مَنْ خَالَطَهُ وَصَحِبَهُ وَرَأَى هَدْيَهُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ مِنَ السَّمَاحَةِ وَالنَّدَى.
وَكَانَ هَدْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَى الْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ، وَلِذَلِكَ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَحَ الْخَلْقِ صَدْرًا، وَأَطْيَبَهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمَهُمْ قَلْبًا، فَإِنَّ لِلصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي شَرْحِ الصَّدْرِ، وَانْضَافَ ذَلِكَ إِلَى مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ شَرْحِ صَدْرِهِ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَخَصَائِصِهَا وَتَوَابِعِهَا، وَشَرْحِ صَدْرِهِ حِسًّا وَإِخْرَاجِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُ”.
وإذا كان الجود مطلوباً في رمضان بإطلاق؛ فإنه في رمضان لهذا العام آكد طلباً، بل هو إلى الوجوب أقرب؛ لأنه -بالنظر إلى ما وقع بإخواننا في غزة- باب من أبواب الجهاد بالمال، الذي قدَّمه الله على الجهاد بالنفس في تسعة مواضع من كتابه الكريم؛ وذلك لأن المال عَصَبُ الحياة ومددُ الجيش، وبالمال يُشترى السلاح، ولأنه قد يجاهد بماله من لا يستطيع الجهاد بنفسه كالنساء والمرضى، فحريٌّ بكل مسلم أن يسعى في تخفيف الضرر عن المسلمين في غزة، مستحضرين قول ابن مسعود رضي الله عنه: “يُحشَر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط، وأجوعَ ما كانوا قط، وأظمأَ ما كانوا قط، وأنصبَ ما كانوا قط، فمن كسا لله عز وجل كساه الله، ومن أطعم لله عز وجل أطعمه الله، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله، ومن عفا لله عز وجل أعفاه الله”.
ويكون الجهاد بالمال بوجوه متعددة منها:
- إنفاق المال في تجهيز المجاهدين بالسلاح؛ فمعلوم أنه لا سلاح بغير مال.
- إنفاق المال لكفالة أُسَر المجاهدين الذين استجابوا لنداء الجهاد تاركين خلفهم أولادهم ونسائهم، فهؤلاء المجاهدون في الأنفاق وفي نحور العدو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً، أو أبوين شيخين كبيرين، وهم بحاجة إلى من يكفلهم.
- إنفاق المال على أبناء الشهداء الذين سالت دماؤهم من أجل الإسلام والذود عنه، “ومن خلف غازياً بخير فقد غزا”.
- إنفاق المال لتعمير آثار تدمير بيوت المسلمين، ممن صاروا لا مأوى لهم، وقد فعل الصهاينة ذلك من أجل أن يحملوهم حملاً على ترك ديارهم ومبارحة أرضهم.
- إنفاق المال في بناء المساجدِ، والمدارسِ، والجامعاتِ، والمستشفياتِ، تلك التي دمرها الصهاينة اللئام من أجل أن يحيلوا حياة الناس جحيماً.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله: “وحقيقة الجهاد بَذْلُ الجهد والطاقة، والمال هو عصب الحرب، وهو مدد الجيش، وهو أهم من الجهاد بالسلاح؛ فبالمال يُشتَرَى السلاح، وقد تُستَأجَر الرجال؛ كما في الجيوش الحديثة من الفِرَق الأجنبية، وبالمال يجهَّز الجيش؛ ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء، وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم، وأعذر معهم الرسولَ ﷺ؛ إذ لم يوجد عنده ما يجهزهم به؛ كما في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى المَرْضَى﴾، إلى قوله: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾.
فمَنْ مِنَ أغنياء المسلمين مَن يحيي سيرة عثمان رضي الله عنه في تجهيزِ جيشِ العُسْرةِ؟ ففي الحديثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَقَالَ: “مَنْ جَهَّزَ هَؤُلاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ”. يَعْنِي جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَجَهَّزْتُهُمْ -يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه- حَتَّى لَمْ يَفْقِدُوا عِقَالًا وَلا خِطَامًا.
ومن أعظم الأبواب التي نتقرب بها إلى الله تعالى في هذا الشهر المبارك الصدقة الجارية التي يدوم نفعها ويتصل أجرها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
وقد حرص الجلال السيوطي رحمه الله تعالى على حصر وجوه تلك الصدقات من خلال تتبعها في نصوص الأحاديث فقال:
إذا مات ابن آدم ليس يجري ** عليه من خلال غير عشرِ
علوم بثها ودعاء نجل ** وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر ** وحفر البئر أو إجراء نهرِ
وبيت لابن السبيل بناه يأوي ** إليه أو بناء محل ذكرِ
وتعليم لقرآن كريم ** فخذها من أحاديث بحصرِ
وقد قال أهل العلم: في الصدقة عشر خصال محمودة خمسة في الدنيا وخمسة في الآخرة، فأما التي في الدنيا:
فتطهير المال، وتطهير البدن، ودفع البلاء والأمراض؛ كما في الحديث: “داووا مرضاكم بالصدقة”. وإدخال السرور على المساكين، وحصول البركة في المال والسعة في الرزق كما قال سبحانه: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾.
وأما التي في الآخرة: الصدقة تكون ظلاً لصاحبها من شدة الحر، وفيها خفة الحساب، وهي تثقل الميزان، وجواز على الصراط، وزيادة الدرجات في الجنة.
ومسك الختام التذكير بقول نبينا عليه الصلاة والسلام: “أحبُّ العمل إلى الله تعالى سرورٌ تدخله على مسلم: تَطرد عنه جوعاً، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَينا”.