![](https://supportprophetm.com/storage/2024/02/الهيئة-24-150x150.jpg)
طلائع الهجرة
فبراير 7, 2024![](https://supportprophetm.com/storage/2024/02/الهيئة-26-150x150.jpg)
السيرة النبوية لابن هشام
فبراير 8, 2024قال كعب بن مالك: “خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا.. وواعدنا رسول الله ﷺ العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله ﷺ لها ومعنا عبدالله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا. فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد الرسول ﷺ إيانا العقبة، فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيباً.
فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ﷺ نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي.
قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله ﷺ حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له. فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج – وكانت العرب تسمي هذا الحي من الأنصار: الخزرج: خزرجها وأوسها – إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وأنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده. فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت”(١).
ونلاحظ من خلال هذا العرض الملاحظات التالية:
١- لقد تمت التهيئة لمباحثات قيام الدولة في أعمق تخطيط سياسي شهده التاريخ حيث انبثقت دولة الإسلام، وحُددت معالمها وقيادتها وهي جزيرة ضعيفة وسط خضم من الشرك مثله العرب جميعاً من حجاج منى أولاً، ثم دولة مكة المشركة ثانياً، ثم قيادة المشركين من أهل يثرب ثالثاً، ثم دولة اليهود في المدينة رابعاً. ووسط هذا العدو العاتي والمحيط بالمسلمين من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم، وسط هذا الخضم انبثقت دولة الإسلام الأولى في التاريخ.
٢- لقد كان المسلمون البالغ عددهم بضعة وسبعين ضمن وفد من المشركين قوامه نحو ثلاثمائة. وهذا يعني صعوبة الحركة والتنقل والاتصال، فما من مسلم إلا وحواليه عدد من المشركين يراقب تنقلاته وتحركاته، ومع ذلك فلقد كانت السرية المضروبة على التحركات خلال الحج من أعجب العوامل التي أدت لنجاح المخططات. تمت الاتصالات بين قيادة مكة المسلمة المتمثلة برسول الله ﷺ، وقيادة المسلمين في المدينة، وحُدد موعد اللقاء ومكانه، وتم اللقاء نفسه دون انتباه أحد، ودخل بعض الأعداد الجديدة في الإسلام خلال هذه الأيام المعدودة. ولعل من أهم أحداث هذه الأيام انضمام زعيمين من أكبر زعماء المدينة للإسلام هما البراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام.
وتشير بعض الروايات إلى أن رئاسة الوفد كله مسلمه ومشركه قد انتهت إلى البراء بن معرور وطالما أنه قد أسلم فهو الذي يقوم بتحديد اللقاءات المقررة، واختار كعبا ليرافقه بصفته الشاعر المشهور والمعروف عند قريش.
٣- وكانت الخطوة الثانية من التخطيط العبقري هو الخروج المنظم لموعد الاجتماع وكما يقول كعب: “حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ﷺ نتسلل تسلل القطا (2) مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو، وتم الاجتماع لهذا العدد الضخم الذي انسل من معسكرات المشركين دون أن ينتبه لهم أحد.
٤- وكانت الخطوة الثالثة من التنظيم المحكم كما تشير بعض الروايات إلى تأمين حراسة الشعب بحيث لا يدري أحد بالأمر.
يقول المقريزي: وجاءهم رسول الله ﷺ ومعه عمه العباس وهو على دين قومه، وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما، فأوقف العباس علياً على فم الشعب عيناً له وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عيناً له. فلم يدرِ حتى المهاجرون بهذا اللقاء السري إلا من كان له مهمة خاصة في الحراسة والمراقبة وهما: علي وأبو بكر رضي الله عنهما.
٥- وكان حضور العباس وحديثه وهو على دين قومه – كما يظهر – ضرورة سياسية، فهو الذي يحمل عبء حماية النبي ﷺ، فلا بد أن يتوثق من مستوى هذه الحماية الجديدة ليطمئن عليها، وإلا فلن يفرط بابن أخيه، ولعل هذا يشير إلى إمكانيات اشتراك بعض الشخصيات غير الإسلامية إذا كانت مناط ثقة تامة من القيادة في عملية تغيير سياسي لصالح الإسلام أو يمكن القول إنها في ظاهرها موالية للسلطة الحاكمة أما حقيقة ولائها فهو للقيادة المسلمة، خاصة إذا كان لها دور رئيسي في التحرك، كقيادة مجموعة سياسية في عملية تغيير سياسي، بل بإمكانها أن تشارك في وضع الخطة وتنفيذها عندما تكون ذات خبرات عريقة. فلقد شارك العباس رضي الله عنه في تنفيذ هذا اللقاء كما تشير الرواية، وهو الذي أمر أبا بكر وعلياً بوقوفهما على الطرق المؤدية للشعب.
إن من حق القيادة، بل من واجبها أن تستفيد من الخبرات والطاقات الإسلامية وغير الإسلامية عندما تدين لها بالولاء والطاعة، بل تشركها بالتخطيط والتنفيذ عندما تجد ضرورة لذلك.
البيان السياسي (البيعة)
روى الإمام أحمد عن جابر مفصلاً: “…قال جابر: قلنا يا رسول الله علام نبايعك؟ قال:
١ – على السمع والطاعة في النشاط والكسل.
٢ – وعلى النفقة في العسر واليسر.
٣ – وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٤ – وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم.
٥ – وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة (3)”.
وفي رواية كعب – التي رواها ابن إسحاق – البند الأخير فقط من هذه البنود ففيه:
“قال كعب: فقلنا له (أي للعباس): قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله ﷺ، وتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (نساءنا) فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة ورثناها كابراً عن كابر.
فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله ﷺ أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها – يعني اليهود – فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم”(4).
كانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح والقوة بحيث لا تقبل التمييع والتراخي؛ فالبيعة على الإسلام شيء، والبيعة على إقامة دولة الإسلام شيء آخر، وإن الرجال الذين يعدون ليكونوا أفراداً مغمورين في عداد المسلمين شيء، والذين يعدون لتقوم دولة الإسلام بسواعدهم وأرواحهم وأموالهم ودمائهم شيء آخر، ويكفي أنها مضت في التاريخ أن البيعة الخالية من الحرب والجهاد ومنها بيعة العقبة الأولى كانت تسمى بيعة النساء، أما هذه البيعة فبيعة الحرب. ومع ذلك فليست حرب الإبادة، وليست حرب الإفناء بل الحرب المخططة المحكمة، المحددة الأهداف، التي ترتبط بالنصرة بعد وصول القيادة النبوية للمدينة.
إن كل قطرة دم يجب أن تراق ضمن هدف، لا أن تراق لانفعال عاطفي، أو غضبة جارفة وإذا جد الجد فالإسلام عديل الروح، بل هو أغلى منها لأنه يضحى بالروح والدم والمال من أجله وتحمى القيادة الإسلامية كما يحمي المرء زوجه وولده ونفسه.
وسرعان ما استجاب قائد الأنصار – دون تردد – البراء بن المعرور قائلاً: “والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ونساءنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثاناها كابراً عن كابر”.
والبراء هو المفوض الرسمي، وهو رئيس الوفد المفاوض، وهو الذي أسلم بنشاط الدعاة على الطريق، وها هو يعرض إمكانيات قومه لرسول الله ﷺ: قومه أبناء الحروب والسلاح. إن هذا يعني بالنسبة للحركة الإسلامية أن نعرف أولاً الطاقات القتالية عندها من جهة، وأن تعرف من جهة ثانية كيف نوجه هذه الطاقات في أحسن سبيل فيكون صاحب الكفاءة مكانه، وأخو الحرب في مجاله، بل عليها أن تستدعي الطاقات الإسلامية والنصيرة من كل صقع لتؤدي الدور المطلوب. وكلما كان أصحاب هذه الطاقات قد خاضوا تجارب عملية، وحروبا فعلية، كلما كانت قدرتهم على التخطيط العسكري والمواجهة الحربية أكثر.
والأوامر شيء والمفاوضات شيء آخر، فلقد اعترض أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وهو المسلم العظيم على أمر مهم قبل البيعة، وكان لا بد من طرحه بصراحة ووضوح: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها – يعني اليهود – فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.
ويا لها من مفاوضات نادرة في التاريخ بين جندي وقائد، بل بين مسلم ورسول. إن طبيعة المعركة تقتضي أوضاعاً جديدة، وإن حمل السلاح يعني الحرب الضروس التي تأكل كل شيء.
فالحركة الإسلامية اليوم على سبيل المثال قبل أن تتبنى الجهاد وقبل أن تحمل السلاح كانت آمنة، وكان شبابها في وظائف الدولة يملؤون فجاجها، بل مرت مرحلة وصل بعض شبابها إلى مجلس الشعب – كما يسمونه – ولكن في خدمة النظام الجاهلي الكافر. كما أنه لم يكن أحد يعلن أنه جزء من الحركة الإسلامية والذي يؤخذ من السلطة على أنه منها إنما يؤخذ على سبيل الحدس والظن.
كان هذا الواقع قبل البيعة على الجهاد، أما بعدها فانقلبت الصورة كاملة، لقد أصبح مجرد الظن باشتراك فرد في عملية، أو شروعه وتفكيره بالانضمام إلى التنظيم المسلح يعني الحكم بإعدامه وإبادته، بل أكثر من ذلك الحكم بإبادة أقاربه وعائلته. وانطلاقاً من هذا الواقع، فليس من حق القيادة أن تتخلى عن هذا الطريق، وتترك جنودها يبادون وحدهم في العراء، أن تصالح لنفسها، أو تأخذ أماناً لنفسها وتترك الفاجعة تأكل شبابها وشيبها.
هذا هو مفهوم اعتراض أبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه. لأن قطع العهود مع اليهود تعني الحرب عليهم، فإذا تخلى رسول الله ﷺ عنهم ومضى إلى مكة فهذا يعني ترك المسلمين تحت رحمة اليهود يفعلون بهم الأفاعيل، ويستأصلون أخضرهم ويابسهم. فإذا كان من حق أبي الهيثم رضي الله عنه أن يناقش رسول رب العالمين بهذا الأمر، فأي قيادة في الدنيا مهما ارتفعت تكون فوق النقاش؟ وأي قائد في هذا الوجود هو أكبر من المحاسبة؟!
وليعلم كل جندي في الحركة الإسلامية أن من حقه أن يعترض مثل هذا الاعتراض على قيادته إن انسحبت من المعركة، وتركته يتلوى وحده في النار. إن كل قطرة دم تراق بأمر القيادة هي في عنقها ستسأل عنها يوم الدين فيم أراقتها؟ ولمَ لمْ تحافظ عليها من الضياع؟
وماذا كان جواب سيد الخلق لجندبة ابن التيهان؟ قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم. ويا له من نداء خالد تردده أصداء الوجود!
القيادة جزء من القاعدة، والقاعدة جزء من القيادة، شركاء متلاحمون منصهرون في المغرم والمغنم، دمهم واحد، ومصيرهم واحد، ونكبتهم واحدة، وحملهم واحد. لقد أبدى رسول الله ﷺ استعداده وهو الطرف القائد المفاوض أن يشن الحرب على من حارب جنده، ويسالم من سالمهم، جعلهم الأصل في الحرب والسلم.
وملاحظة أخيرة للجنود في الدعوة نفقهها من هذه النصوص هي أن الأنصار رضي الله عنهم اكتفوا بملاحظة أبي الهيثم واعتراضه، وكان معبراً عن رأيهم جميعاً، وكان الرد عليه من رسول الله ﷺ على أنه ممثل لهم جميعاً.
لقد كان الاعتراض منهجياً شرعياً لا غوغائياً فوضوياً وهذا يعني الحركة المنظمة كثيراً بأن تكون طريقة النقد والاعتراض والمحاسبة ضمن المعابر الشرعية والتنظيمية، لا من خلال الفوضوية والفردية بحيث يتكلم كل أخ على هواه. وبمثل المعابر الشرعية التنظيمية في الحركة الإسلامية اليوم مجلس شوراها المنبثق عنها. فهو الذي يحقق صورة النقد الشرعي البناء، وهو الذي يحاسب القيادة ويناقشها ويطرح ملاحظات القواعد عليها، وعلى القيادة أن تستجيب لأية تساؤلات، وترد على أي اقتراح، وبذلك يضمن التنظيم قوته وتلاحمه واستمراره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* منير الغضبان، المنهج الحركي للسيرة النبوية، ص162 وما بعدها، ط: مكتبة المنار/الأردن، ط: 6، ١٤١١هـ.
(١) تهذيب السيرة، ص١٠٣ و١٠٤ و١٠٥.
(2) القطا: طائر مشهور بخفة حركته.
(3) الرحيق المختوم للمباركفوري، ص١٦٦.