هم مَن قَتل ونحن مَن استُشهد
فبراير 26, 2024في صحبة صحيح مسلم
فبراير 26, 2024كتاب (في تاريخ الحديث النبوي الشريف)، يعرض تطور رواية الأحاديث النبوية على مدار القرون الثلاثة الأولى من زمن تلقّي الصحابة رضي الله عنهم الحديثَ عن النبي ﷺ وصولًا إلى زمن تصنيفها في كتب الحديث المعروفة في القرن الثالث الهجري، ويمثّل الكتاب على الحقبة الأخيرة بنموذج تصنيف البخاري صحيحَه، إذ هو معبِّرٌ تعبيرًا واضحًا عنها.
ويُظهر الكتابُ تطورَ رواية الحديث النبوي بناءً على انتقال الرواية من جيل إلى جيل، فجاء تقسيمه على فصول أربعة:
الأول: من النبي ﷺ إلى الصحابة رضي الله عنهم.
الثاني: من الصحابة رضي الله عنهم إلى التابعين.
الثالث: من التابعين إلى أتباع التابعين:
الرابع: من أتباع التابعين إلى الكتب الحديثة المشهورة.
وكان كل فصل يهتم بسؤالين:
الأول: هل كانت رواية أحاديث النبي ﷺ روايةً طبيعية منسجمة مع حركة التاريخ في القرون الثلاثة الأولى؟ وهل هناك ما يشهد لطبيعيَّتها أم يشهد لعوامل تزويرٍ واسعةٍ لابستها؟
الثاني: هل كان هناك منهج نقدي لتوثيق تلك الروايات أيامَ حركتها وتطورها وانتشارها؟ وهل كان ذلك المنهج النقدي ذا أثر حقيقي في ضبط مسار الروايات؟
وهما سؤالان تاريخيان، يمكن أن يُسأل بهما عن كل قول تاريخي أو حدث في الماضي، إذ لا بد أن نتثبت من أحداث التاريخ ونتوثّقَ من الأخبار فيه عبر التأكد من طبيعية الرواية وانسجامها، ومن وجود منهج نقدي يضبطها ويتأكد من صحتها وسلامتها على مدار التاريخ.
أما السؤال الأول فقد أجاب الكتاب عنه في فصوله الأربعة، فقد اهتم في كل فصل بمظاهر ما سماه «طبيعية الرواية» وهي المظاهر التي توضح أن الرواية انتقلت على وجه طبيعي لا تشوبه مظاهر التزوير، ويدلل الكتاب على ذلك بأدلة كثيرة منها طبيعة تلقي الصحابة عن النبي ﷺ إذ كانت أكثر الأحاديث داخلة تحت موقف «طبيعي» أكثر من أن تكون في مجالس علمية، ومنها: كذلك الطبيعية في كثرة رواية الأحاديث عند بعض الصحابة دون بعض، فإن كثيرًا من ذلك يتعلق بزمن وفاة الصحابي ومكان إقامته وأحواله الشخصية. وكذلك الطبيعية في الفروق الشخصية بين الصحابة في أسلوب الرواية، وتحفظ بعضهم من التحديث واهتمام آخرين بذلك اهتمامًا واسعًا.
والأمر ذاته في الفصل الثاني في الكلام عن طبيعية تلقي التابعين عن الصحابة لما انتشر الحديث في الأمصار الإسلامية، إذ فاقت الكوفة البصرة في الرواية وكلاهما كان دون المدينة النبوية، وقد جاء الكتاب بأمثلة كثيرة تظهر طبيعية ذلك الانتقال.
ثم ركز الكتاب في الفصل الثالث على انتشار الورق وأثره في كثرة التصانيف في الأمة الإسلامية في الربع الثاني من القرن الثاني، وأن من الطبيعي أن يكون انتشار الورق عاملًا مهمًا في انتشار صنعة الكتابة واستفادة كبار علماء المسلمين من ذلك في نشر الحديث النبوي وغيره في عصر أتباع التابعين، واختار نموذجًا لذلك وهو كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، فبيَّن عدة معالم هامة تصوّر تطور حركة الرواية مع ظهور أمثال الموطأ.
وأما السؤال الثاني المتعلق بوجود منهج نقدي ضابط لمسار الروايات فقد ركز الكتاب تركيزًا هامًا على النقد المصاحب للرواية في كل مراحلها وتنقلاتها، مُؤْثرًا تسميتها بـ «سلطة النقد» لِمَا فيها من تشدُّدٍ على الرواة والروايات وتخويفٍ لهم وإشعارِهم بخطورة التحديث من غير تثبّت، وهو ما له أثر هامٌّ في مسيرة النقد الحديثي.
وأظهر الكتاب أن النقد كان مصاحبًا للرواية منذ أن بدأت في زمن الصحابة فأظهر سلطة عمر بن الخطاب النقدية في ضبط مسار الرواية في زمن كبار الصحابة ثم سلطة السيدة عائشة في زمنها ثم سلطة ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما في زمن صغار الصحابة، وتطرق الكتاب لقضية الحروب التي وقعت بين الصحابة مستثمرًا إياها في تثبيت عدالتهم وأن الكذب على النبي ﷺ لم يكن من شأنهم، إذ لو تجرؤوا على الكذب –حاشاهم- لتجرؤوا في أشد موقف يحتاجونه وهو موقف الحرب، ولم يكن شيء من ذلك البتة.
كما اعتنى بمظاهر ضبط الصحابة للأحاديث ضبطًا عاليًا، وأن نسيان الأحاديث النبوية كان بعيدًا عنهم لأمور تتعلق بالمحفوظ عنه وهو النبي ﷺ، وبطبيعة حفظهم، وبطبيعة المحفوظ.
ثم أتبع الكتاب نقد الصحابة لبعضهم بملحظ هام في نقد كبار التابعين لبعض أحاديث صغار الصحابة مظهرًا أن مجتمع التابعين لم يكن مجتمعًا ساذجًا في تلقيه الحديث والعلوم عن الصحابة وإنما كان مجتمعًا نقديًا من خلال أمثلة كثيرة.
ثم بيَّن في الفصل الثاني مظاهر النقد عند التابعين فتطرق لمقولات ابن سيرينَ والنّخَعي وغيرِهما مما كان له أثرٌ هامّ في الأحكام على الرواة والحديث، ليتوسع في الفصل الثالث في سلطة النقد عند أتباع التابعين ممثلًا عليها بسلطة الإمام الكبير شعبة بن الحجاج النقدية، وهو الإمام صاحب المركزية الهامة في النقد في تلك الحقبة، فتوسع الكتاب في مظاهر نقده وأساليبه في الحكم على الروايات مختتمًا ذلك المبحث بمظاهر خوف الرواة من شعبة، الأمر الذي كان له أثر كبير في ضبط مسار الروايات، وموضحًا تأثير شعبة في صفوف طلابه من أمثال النقاد الكبار: يحيى القطان، وعبدُ الرحمن بنُ مهديٍّ، ثم طلابهم من أمثال: ابن معين، وعليِّ بن المديني، وأحمدَ بنِ حنبل، وغيرهم، وصولًا إلى: البخاري، ومسلم، وأبي زرعةَ، وأبي حاتمٍ، وغيرِهم.
وقد أظهر الكتاب أن النقاد المعايشين للرواة والروايات استعملوا أدواتٍ نقديةً تاريخية عالية للاختبار والتمحيص والتدقيق، منها: اختبار الرواة على مدار السنين، وتلقينهم الأخطاء للامتحان، وفحصُ كتبهم والتدقيق فيها من جهة أنواع الخطوط ومواضع التغير والزيادة والنقصان، ثم نظامُ مقارنة روايات الراوي بروايات غيره، وفحصُ عدد تفردات الراوي عن غيره أو موافقته لهم ومخالفته، وتأثير كل حديث يخطئ فيه الراوي في الحكم عليه، ليخرج الناقد بنتيجة واضحة عن عدد روايات الراوي وعدد الأخطاء وعدد الصحيح.
وتطرق الكتاب إلى قضية اشتعال المجتمع في أحايينَ كثيرةٍ بعدد من النقاد الذي يختلفون وينظّرون ويدقّقون ويجهرون باختلافاتهم، مما شكّل «مجتمعا نقديًّا» لا مجاملة فيه ولا محاباة، ولم يكن النقد نقدًا مبنيًّا على ذاتية الناقد وانطباعاته الشخصية، فقد ظهر أنّ عددًا من النقاد كان يوثق بعض المخالفين في المذهب، وبعضهم من الغلاة، وكان يضعّف بعض الصالحين الأتقياء، والأمر في ذلك عائد إلى منهجية تاريخية ينظر فيها الناقد في حديث الراوي ويُصدِرُ حكمَه عليه، دون أن يُحابِيَه لمعرفة شخصية أو لعلاقة اجتماعية.
ثم أظهر الكتاب أن البخاري ورث كل تلك الروايات وذلك النقدَ، فاجتهد اجتهادًا عاليًا في التمحيص والتدقيق والتمييز ورحل وجمع وصنف، فخرج من بين يديه كتاب من أجلِّ كتب الإسلام، من جهةِ منهجيّة التوثيق التاريخي، وقد أقرّ علماء عصر البخاري ومَن بعدهم بدقّة نظره في هذا الكتاب بناءً على شروطه العالية التي اشترطها لكل حديث، وبناءً على حسن الاختيار والجمع.
وقد كان البخاري في كتابه هذا رجلَ إشارة لا رجلَ عبارة، فأودع فيه الكثير من الإشارات الخفية المتعلقة باختيار الحديث وصيغ التحديث والسماع، وعلل بعض الروايات، وبعض الأبواب التي يظهر فيها نقد الروايات، وهو ما شَغل كثيرًا من العلماء بتتبع تلك الإشارات وتوضيحها وبيانها، مع إقرارهم بعلو قدره في هذا التوثيق، وبأهمية تلك الإشارات.
فكأنّ البخاريَّ لم يخاطب بذلك الكتابِ عوامَّ المسلمين في عصره، فإن تلك الإشارات ونظامَ الاختيار الدقيقَ والإشارات إلى العلل لا يُخاطَبُ بها إلا كبارُ النقاد والعلماء، وهم الذين فهموا مرامي البخاري فأقرّوا له.
ثم استثمر الكتابُ نقدَ المحدثين –وأهمهم الدارقطني في نقده المشهور- لصحيح البخاري في تثبيت مكانته وأنه أرفع كتاب حديثي، وذلك بإظهار عدة قضايا، منها: أن النقد توجه إلى عدد قليل جدًا من أحاديث الصحيح لا تتجاوز نسبته 1,5% من مجموع الأحاديث، وهو ما يعني زيادة تثبيت في مكانة الصحيح، فكأن الدارقطني يقول: إنني حاولت تتبُّع الصحيح ودقّقت عليه فلم أخرج إلا بأحاديثَ يسيرةٍ جدًّا، وأمّا الباقي فأنا مسلِّم له معترِف بقوّة ما فيه. ومنها: أن جلّ نقد الدارقطني توجه إلى قضايا شكلية إسنادية دون أن يتوجه إلى حديث برمته سندًا ومتنًا، إذ لم يوجد -من خلال عينة مختارة- أيُّ حديث منتقد يمكن أن يقال فيه: حديث ضعيف، وأخطأ البخاريُّ في إخراجه. ومع أن الانتقادات كان شكلية إلا أن الحافظ ابنَ حجر أجاب عن أكثر تلك الانتقادات وبيّن دقّة نظرِ البخاري فيها، ومنها: أن الدارقطني «تتبع» صحيح البخاري ولم ينتقده دائمًا، ولذلك سمّى كتابه «التتبع»، وهو أمر مغاير أوسع من الانتقاد، إذ التتبع شامل للانتقاد ولمجرد التدقيق الزائد دون أن يكون انتقادًا، ويمكن إظهار كونه تتبعًا صرفًا في أنّ الدارقطنيَّ نفسَه كان يرجّح بعض الروايات التي اختارها البخاري في مواضعَ أخرى من كتبه.
ثم انتهى الكتاب إلى تثبيت مكانة صحيح البخاري بإظهار أن الأحاديث كلها التي رواها البخاري في صحيحه قد رويت بأسانيد صحيحة في الكتب الحديثية الأخرى، فلم يتفرد البخاري في حوالي 7250 حديثًا إلا بحديث واحد فقط، رواه البخاري ولم يكن عند غيره من مصنفي كتب الحديث المشهورة بين أيدينا، فتفردَ البخاريُّ بإسناده كاملًا ومتنه، وهو ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب ما يكون من الظن قال: «حدثنا سعيد بن عفير: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة قالت: قال النبي ﷺ: ما أظن فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا. قال الليث: كانا رجلين من المنافقين» .
وهو ما يعني أنّ البخاريَّ لم يخترع شيئًا من قِبل ذاته في صحيحه، بل جميع الأحاديث التي رواها موجودة بأسانيد واضحة صحيحة عند غيره من علماء الإسلام، فلو لم يخلق الله تعالى البخاري لما نقص من الدين شيء، لا سيما أن الحديثَ الذي تفرّد به البخاري لم يكن من الأحاديث التي يدور عليها الإسلام، ولا تدور عليها الأحكام ويغني عنه أحاديثُ كثيرةٌ في بابه، فلو لم يكن مَرْوِيًّا لم ينقص من الدين شيء.
وخلص الكتاب من ذلك كله إلى أن صحيح البخاري كان ثمرة الرواية والنقد في العصور الأولى، وأنّ النقاد أقرُّوا بأنّ منهجية البخاري في التوثيق التاريخي للأحاديث كانت منهجيةً عاليةً متميزة، وأن هذا الأمر استقرَّ ردحًا طويلًا من الزمن، حيث صرّحوا مرارًا وتَكرارًا بتلقيهم صحيحَي البخاري ومسلم بالقبول، مناقشِين إياهما في بعض الأحاديث وبعض المنهجيات مدققين عليهم فيها، ولم يقتصر الثناء والاعتماد على جماعة المحدثين والنقاد، بل شمل طوائف عديدة من الفقهاء والأصوليين والمتكلمين وغيرِهم.
لكن جملة تغيرات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية غيّرت النظام العالمي في القرن الثاني عشَرَ الهجريِّ/ التاسعَ عَشَرَ الميلاديّ، وأثّرت تأثيرًا بالغًا في بلاد المسلمين، فآل الأمر إلى استعمار بلاد كثيرة في العالم الإسلامي، وانتشارٍ قويٍّ للثقافة الأوروبية والفكر الغربي، واهتزازٍ في نفوس المسلمين بعقائدهم وتراثهم أمام ما يرونه من تقدم عسكري وتقني وثقافي وفكري وسياسي في البلاد الغربية، وصار العلم التجريبي حاكمًا قويًّا على ثقافات العالم كلِّها، وصار الإنسان في المركز بعد أن كان المركز للإله والدين، فبرزت مجموعة من غير المتخصصين في علوم الحديث أو الرواية أو التراث من المثقفين الذي حصّلوا شيئًا من علوم الغرب وفكره ونظامه في جامعاتهم ومؤسساتهم التعليمية، وكان تعاملهم مع تراث المسلمين تعاملًا سطحيًا، ولما نظروا في الأحاديث نظروا نظرة سريعة لم يتعرفوا فيها على نظام توثيقها ولا نظامِ روايتها وتدقيقها، ولا نظامِ النقد المصاحب لها، ولا على ما تميز به ذلك النظام التوثيقي على جميع الأنظمة في العالم في العصور الخالية، فكان حاصل نظرتهم السريعة: أنهم لم يشهدوا إلا نظامًا بسيطًا متشكلًا من مجرد إسناد ومتن، ليس فيه أيُّ نقد وتفكير وجهد، فلم يعبؤوا به.
وأيّد هذه النظرة أنّ المثقفين لم يرو أقدسَ مما سَمَّوه «النظر العقلي» بعد أن نُحّي الوحي، وأنّ الحكم على النص إنما ينبع من قارئ النص وعقله، ولم يكن ذلك النظر إلا تابعًا للعقل التجريبي لا العقل التجريدي. وأيّدها كذلك انتشارُ مصطلحات «النهضة» و«التقدم» و«العقل» و«المدنية» في مقابل وصمهم للعصور قبل ذلك بـ«التخلف» و«الانحطاط» و«الجمود» و«الجهل»، وهي المصطلحات التي أثّرت كثيرًا في استعلاء نظرة المثقفين عند تعاملهم مع التراث، إذ هي نظرة من عَلٍ لأزمنة قديمة مليئة بالجهل والتخلف -على رأيهم-، وهو ما أورثهم حقَّ النقد دون أن يكلّفوا أنفسهم التعرّفَ على الأنظمة التراثية والفكرية السابقة، إذ هي عصورُ تخلُّفٍ أساسًا، فمن الطبيعي عندهم أن يكون نقدها ضروريًّا قويًّا.
ولهذا كله وغيره فقد تَتابع الكُتّاب المعاصرون على هذه الطريقة السطحية من النقد، وانفرط الأمر وصار لكل من يُمسك قلمًا أن ينظر في الأحاديث وينتقدها بناءً على ثقافته الحديثة ومعارفه الجديدة دون أن يكلف نفسه عناء التحقق من الحديث بوصفه حدثًا تاريخيًّا، فآل الأمر إلى سيولة عالية في الثقافة والفكر،
ويرى الكتابُ في سبيل التخلص من السيولة الحداثية المفرطة في التعامل مع التراث الحديثي أمرين:
الأول: ضرورة إعادة بناء منهج التوثيق التاريخي للأحداث والروايات، وأهمية بناء الثقة بعلم التاريخ نفسِه، وطريقةِ التوثق من الروايات التاريخية والأحداث عمومًا، ومِن ثَمّ بناء الثقة بمنهجية نقاد الحديث، فإنّ النقد التاريخي لا يصح أن يكون تابعًا لذوق المثقف ونظرته وفكره، إذ لا تاريخ في هذه الحالة إلا ما كان في انطباعات المثقف، والتاريخ علم حقيقي بذاته متشكل في الواقع، وعلم الحديث علم تاريخ أساسًا، فتثبيت منهجية النقد التاريخي أساس في تثبيت منهجية نقد المحدثين، منعًا للسيولة المعرفية التي سيطرت على الحالة العلمية في القرنين الماضيين، مع اجتياح الحداثةِ المعارفَ كلَّها، والإسلاميةَ منها في بحثنا هذا.
الثاني: ضرورة التخلّي عن النظرة الاستعلائية إلى الماضي بعيون «التقدّم» و«التنوّر» و«النهضة» واصفين إياه بـ «التخلّف» و«الانحطاط» و«الجمود»، دون دراسة حقيقيّة لتراث ذلك الماضي، وأخصّ هنا علمَ النقد الحديثي، إذ قد ظهر أنّ منهجيةً نقديةً عالية استقرّت في المجتمع العلمي الإسلامي قرونًا طويلة، لم يطلع عليها مثقفو الحداثة ولم يَخْبُروها، فصاروا يطالبون بالتفكير «خارج الصندوق» دون أن يعرفوا «الصندوق» نفسَه، ولا المعارف التي يحتوي عليها، فكان النقد سطحيًّا ذاتيًّا أيديولوجيًّا، قبل أن يكون معرفيًّا منهجيًّا.