الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ديسمبر 24, 2024ترجمة بيان “تهنئة علماء الأمة ونصيحتهم لثوار سوريا” للغة التركية
ديسمبر 24, 2024بقلم: د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي – فك الله أسره*
إن مما يوجب بيان حقيقة الانتفاضة وأهميتها: أن كثيراً من المسلمين يتعاطفون مع أهداف الانتفاضة عموماً، لكنهم لا يدركون حقيقة الانتفاضة وأثرها العظيم وموقعها التاريخي. وكثير منهم ينخدعون بالإعلام اليومي عربياً وغربياً، الذي يشدد دائماً على العنف الصهيوني، والخسائر في الجانب الفلسطيني، فيبدو إيقاف الانتفاضة وكأنه رحمة بإخواننا الفلسطينيين، وفرصة لالتقاط النفس. وربما يتساءل كثيرون: ما جدوى الاستمرار في دفع هذه التكاليف الباهظة؟
حتى حين تقع عملية ناجحة بكل المعايير يأتي التعليق عند هؤلاء “ولكن هذا سيؤدي إلى انتقام شديد”!!
إن عرض التألم والتكاليف من جانب واحد تفصيلاً، وإجمال القول عند الحديث عن خسائر العدو، هو في الحقيقة حملة نفسية موجهة، يرتِّب لها العدو، ويسايره مخدوعاً مَن لا يدرك الحقائق، أولا يملك الوقت وعدة النظر للبحث عنها، وهذا يتفق مع اتجاه القيادات العربية الحكومية التي رضخت منذ أمد بعيد للهزيمة والاستسلام؛ لكنها تغلف ذلك بإيقاف العنف، والعودة للمفاوضات، ورفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني!
إن الانتفاضة فجر جديد يراه أهل البصيرة زاحفاً على ليل المعاناة الطويل، أما الذين استمرأوا الذل فإن على أبصارهم غشاوة كتلك الغشاوة التي كانت على أبصار سلفهم، الذين كانوا يظنون أن الإمبراطورية البريطانية خالدة إلى الأبد، ومن قبلهم لم يصدق زعماء الكفر الجاهلي ما تنبأ به “هرقل” نفسه، بل قال قائلهم: “لقد أَمِـرَ أمْرُ محمد، حتى إنه ليخافه ملك بني الأصفر”.
ولذلك يتعين على أهل الشأن، ومن يُهمّه تثبيتُ الأمة وطردُ الإحباط واليأس عنها: أن يكشفَ وجه الحقيقة من خلال ربط الأحداث اليومية بأصولها الكلية المطابقة لسنن الله في التمكين والعلو والإدالة والاستدارج، وهذا ما سوف أحاول الإشارة إليه في هذه العجالة لعل الله -تعالى- يجعلها تذكيراً للباحثين والمراقبين؛ لإظهار هذه الحقائق بشكل دائم.
وقد جعلتها في شكل قواعد كلية، وأصول عامة مأخوذة من كتاب الله تعالى وسننه الثابتة في الكون، وفصلتها بحيث يمكن للمتابع فيما بعد أن يضع تحت كل أصل ما يرى من جزئيات وشواهد قد تقع لاحقاً؛ بل قد يفتح الله عليه بقواعد وأصول أخرى، فالبحث مفتوح، والأحداث مستمرة، والواجب علينا قائم دائم، والاجتهاد لفهم القضية وتوجيه المسار حتمٌ لازم.
أول هذه القواعد والأصول:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾ [الرعد: ١١].
وكلا طرفي المعركة غيَّر :إخواننا الفلسطينيون غيَّروا من الخضوع إلى المقاومة، ومن الخوف إلى الشجاعة، ومن الفرار إلى الثبات، ومن الاتكال على الحكومات إلى التوكل على الله والثقة في الذات. وأهم تغيير في الحقيقة هو أنهم غيروا من ضعف الإيمان وقلة التدين والانخراط في المنظومات العقدية الوضعية -من اشتراكية وقومية وناصرية ووطنية- إلى قوة الإيمان…
وفي الطرف الآخر حدث التغير عند اليهود؛ كانت الجماعات اليهودية المؤسسة للكيان اليهودي كتائب حرب منظمة ومدربة، والمستوطنون كانوا رجال عقيدة وإرادة، والدافع لهم ديني قبل كل شيء، وكانت الهجرة عبادة وتضحية، وكان التوحد في الأهداف والمواقف ظاهراً، والفروق الاجتماعية والعرقية تكاد تكون ملغاة .أما الآن فقد ظهر جيل الترف والأمراض الاجتماعية، الجيل الذي يبحث عن المتعة الرخيصة بأي ثمن، ولا يؤمن بأي مبدأ أو قيمة…
القاعدة الثانية:
﴿فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَیۡثُ لَمۡ یَحۡتَسِبُوا۟﴾ [الحشر: ٢]
لقد قلبت هذه الانتفاضة معايير الحروب، وغيَّرت منهج التفكير الاستراتيجي العسكري الذي ظل العالم الحديث ينتهجه ويطبقه؛ حيث خرجت بالحرب من مفهومها التقليدي -معركة بين جيشين- ووضعتها في قالب جديد، ويمكن أن نعبر عن هذا في شكل نظرية تقول: “حينما تنهار الجيوش النظامية أو لا توجد؛ فإن المقاومة تنتقل إلى مجموعات تتشكل ذاتياً، وتؤمن بالقضية إلى حد التضحية المطلقة، وبذلك يدخل العدو في مرحلة (الحرب غير المتوازية)”. و(الحرب غير المتوازية) مصطلح جديد، وضعته لجنة من الخبراء الأمريكيين للتعبير عن النوع الآخر للحرب غير المتوازنة. ومثال الحرب غير المتوازنة ما حدث بين التحالف الدولي والعراق. في حين كانت الحرب بين حلفي (الناتو ووارسو) لو نشبت نوعاً من الحرب المتوازية.
أما “الحرب غير المتوازية” فهي كما عرفتها اللجنة: “التفاف قوة خفية على جيش تقليدي، وضربه في مقاتِله، وتحطيم روحه المعنوية، وشل قدرته على المقاومة” وهذا هو أخطر أنواع الحروب!
القاعدة الثالثة:
﴿إِن تَكُونُوا۟ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ یَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ﴾ [النساء: ١٠٤]
ما أكثر آلام إخواننا في الأرض المحتلة وما أشد معاناتهم، لكننا لن نتحدث عن هذا الجانب فالإعلام اليومي كفانا هذا العناء، والإعلام العربي -كما أشرنا- يحاول أن يجعل المعاناة هي المشكلة، ربما لكي يكون إيقاف الانتفاضة هو الحل! أما الإيلام الواقع باليهود فهو مما لم يشهدوه في تاريخهم كله،وسوف نعرض ذلك مع الاهتمام بالجانب الأبلغ منه، وهو الألم بالقتل الذي هو أشد شيء على قوم هم أحرص الناس على حياة، وهنا نجد الخط البياني شاهداً بوضوح على أن الانتفاضة في تقدم، وعلو وأن العدو في انحطاط ودنو:
عند قيام الانتفاضة كانت نسبة القتلى من العدو 1 إلى 50 من الفلسطينيين، ومع ذلك فقد كان اندلاعها والإخفاق في إيقافها سبباً في إسقاط (باراك) وترشيح (شارون)، وهو أشقى المغضوب عليهم، وأشدهم وحشية وهمجية، وقد علق اليهود آمالهم عليه لذلك، وصدقوه حين وعد بالقضاء على الانتفاضة خلال مئة يوم.
فما الذي حدث؟
استمرت الانتفاضة وتضاعفت آثارها، وارتفع معدل عدد القتلى من المستوطنين من 3 قتلى شهريا أيام (باراك)، إلى 17 قتيلا بعد مجيء السفاح المخلِّص (شارون). وبعد 400 يوم من الإفراط في العنف؛ وجد شارون أن القتلى من اليهود بلغوا في شهر واحد (إبريل 2002) أكثر من 140 قتيلاً! وهو ما يعادل خسائر العشرة شهور الأولى من الانتفاضة كاملة، وهنا جن جنونه أو كما عبر عن ذلك رئيس الموساد: “اضطربت قواه العقلية” فجاء بمشروع الجدار الواقي، واجتياح المدن الفلسطينية.
القاعدة الرابعة:
﴿وَقَذَفَ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ﴾ [الأحزاب: ٢٦]
الهزيمة تمر بثلاث مراحل: مرحلة القلق والخوف والحيرة، ثم مرحلة اليأس وفقد الثقة، ثم مرحلة الاستسلام أو الموت”، وقد تأتي مرحلتان منهما معاً كما هو حال اليهود. بعد خمسة شهور فقط من اشتعال الانتفاضة؛ ظهرت العلامة الكبرى على الانهيار المعنوي للعدو، متمثلة في البيان الذي أعلنه الرافضون للخدمة العسكرية، وهم مجموعة من 50 ضابطاً وجندياً قد أعلنوا إنشاء حركة” الشجاعة في الرفض”، وعللوا موقفهم بأمرين: أن الضفة والقطاع أرض محتلة؛ فالقتال فيها غير شرعي. أن الانتفاضة أدت إلى فيضان الدم! وظل المنضمون إلى الحركة يتكاثرون بالمئات حتى بلغوا الألف.
وقد دلت البيانات اليهودية على هذا الرعب بدقة الأرقام فنشرت جريدة “إيديعوت إحرونوت”: أن معدلات الخوف بين المستوطنين كانت 57% في مطلع شهر أكتوبر 2001، ثم بلغت 68% في منتصف الشهر، ثم بلغت 78% في مطلع الشهر التالي!
والأمثلة كثيرة جداً والتساؤل الذي قد ينشأ هنا وهو إذا كان اليهود يعيشون هذه الحالة فلماذا يزدادون عنفاً وشراسةً، ويفرطون في الانتقام والتشفي يوما بعد يوم؟! هل لهذا من تعليل أو قاعدة؟
ونجيب: نعم إن القاعدة التي يدل عليها كتاب الله، وواقع الكائنات الحية، فضلاً عن تاريخ اليهود هي ” أن الوحشية في الانتقام، والعنف المفرط؛ هما دليل واضح على بلوغ مرحلة اليأس التي تسبق -عادة- مرحلة الاستسلام أو الموت لدى الكائنات الحية .
القاعدة الخامسة:
﴿وَضُرِبَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ﴾ [من الآية ٦١ سورة البقرة].
يضرب بعض الرواة مثلاً للوهن الذي أصاب المسلمين، حين قدوم التتار في القرن السابع الهجري؛ بأن التتاري الأعزل كان يمر ببعضهم، فيقول: انتظروا هنا حتى آتي، ثم يذهب فيأتي بالسيف فيضرب أعناقهم…
وقد توصل العلماء إلى أن ظاهرة العجز المكتسب في المجتمع الإسرائيلي تنطوي على أخطار كثيرة، مثل: الشلل من جهة، والتطلع من جهة أخرى إلى حلول سحرية قد تحل كل المشاكل بضربة واحدة، وهذا الاتجاه الأخير أرض خصبة لتطور توق قوي إلى ظهور مسيح دجال، والاستعداد لقبول من يقدم نفسه “كقائد قوي” يمكنه حل المشكلات كافة. (وهذا يفسر ظهور شارون الذي وعدهم بإعادة الأمور إلى نصابها).
ومن أطرف المؤشرات على حالة الذعر التي انتابت التجمُّع الصهيوني أنه مع تصاعد الانتفاضة بدأت حالة الذعر تنتاب الكلاب والقطط في المنازل الإسرائيلية، ولذا اقتضى الأمر تقديم المهدئات لها “الفاليم”، وقال أطباء بيطريون: إن الكلاب تبدأ في النباح، وتصبح أكثر عدوانية، وترتجف لا إرادياً، أو تفقد التحكم في مثانتها عندما تصل أصداء دوي إطلاق النار في الضفة الغربية إلى مباني القدس.
ومن أصدق ما يعبر عن هذه الحالة ما كتبه (إيتان هابر) وهو معلق سياسي بارز، وكان أميناً خاصاً لمكتب إسحاق شامير، حين كتب مقالاً في شكل سؤال “ما الوضع؟”
ووصف الوضع في إسرائيل بأنه: “مثل بطل تلك الميثولوجيا (سيزيف)، الذي كان يدحرج -بعناء شديد- صخرة نحو قمة الجبل، فتعود لتتدحرج مرة بعد أخرى على المنحدر. هكذا هو الجيش الإسرائيلي، الذي خرج هذا الأسبوع في (حملة متدحرجة)، والجميع يعرف أنه بعد يوم، أسبوع، شهر، أو سنة -من تدمير وسحق (قواعد الإرهاب)- سيعود الإرهاب الفلسطيني إلى المقاهي ومحطات الباصات”! (يديعوت أحرونوت 2/4/2002).
ولا يتردد الكاتب نفسه في وصف إسرائيل بأنها (دولة مجذومة)، يمقتها العالم كله ما عدا أمريكا!، ويؤكد أنه حتى أمريكا لابد أن تغير موقفها يوما ما(. 16/1/2002.
وليس هناك ما يفسر هذا العجز والهوان بأصدق من قوله –تعالى-: ﴿ضُرِبَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَیۡنَ مَا ثُقِفُوۤا۟﴾ [آل عمران: الآية112].
وهنا -أيضاً- لابد أن نجيب عن إشكال قد ينشأ، وهو أننا نشاهد العدو يطوِّر خططه، ويغير في أساليبه (من الحواجز وفتح الطرق الالتفافية حول المستوطنات، إلى بناء الجدار الواقي، إلى الاجتياح، وأخيراً إلى التهجير)، فكيف يتفق هذا مع ما تقدم من دلائل العجز والإحباط؟ هل لذلك من قاعدة أو تعليل؟
ونجيب –أيضاً- نعم: هناك قاعدة يدل عليها كتاب الله، وواقع الأمم الطاغية قديما وحديثا، وهي: “أن القوى الطاغية حين تصدمها قوة الحق ترفض الاعتراف بالضعف، لكن هذا الاعتراف يأتي ضمناً في إعلانها عن البدائل التي تلجأ إليها؛ للخداع النفسي والهروب من الحقيقة”.
هكذا فعل فرعون حين أسقط في يده، فقد لجأ إلى الإيهام ببناء غير معقول، فقال: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرِی فَأَوۡقِدۡ لِی یَـٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطِّینِ فَٱجۡعَل لِّی صَرۡحࣰا لَّعَلِّیۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰۤ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّی لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ﴾ [القصص: ٣٨].
وهذا منهج مراوغ للتعبير عن الحالة التي قد تكون وهماً، كما هو حال ابن نوح -عليه السلام- حين قال: ﴿سَـَٔاوِیۤ إِلَىٰ جَبَلࣲ یَعۡصِمُنِی مِنَ ٱلۡمَاۤءِۚ﴾ [هود: ٤٣]، وقد تكون في حيز الإمكان، كما قال قوم إبراهيم -عليه السلام- حين أفحمهم بالحجة: ﴿ٱبۡنُوا۟ لَهُۥ بُنۡیَـٰنࣰا فَأَلۡقُوهُ فِی ٱلۡجَحِیمِ﴾ [الصافات: ٩٧]، وفي هذه الحالة يشتغل الرأي العام بالمشروع وإمكانية تنفيذه عن القضية الأصلية، مما يجعل الطاغوت يبحث في الوقت الضائع عن مشروع آخر .
القاعدة السادسة:
﴿وَلَوۡلَاۤ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡجَلَاۤءَ لَعَذَّبَهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ﴾ [الحشر: ٣]
“عندما يرتد العدو عن عقيدته التي من أجلها جاء وقاتل، فإن ذلك يعني أن الهزيمة النفسية لديه قد بلغت النهاية”، والردة هنا ليست تعبيراً مجازياً، بل هي حقيقة دينية عند الصهاينة، فهم يسمون العودة من أرض الميعاد ردة، وهي كذلك، إذا علمنا أن الهجرة إلى أرض الميعاد هي الأُسطورة التي بنيت عليها العقيدة الصهيونية كلها، واليهودي يعبر عن إيمانه بقدر حبه لهذه الأرض، وحنينه الدائم إليها، ليس لمجرد أنها الأرض المباركة التي اختصهم الله بها -كما يدعون-، بل لأنها أيضاً تفيض لبنا وعسلاً كما جاء في التوراة.
ومن هنا لاحظ المراقبون أن الدولة اليهودية -بكل فئاتها- تحاول التعمية أو التحفظ على أرقام المهاجرين منها، مثلما تفعل بالنسبة لأرقام القتلى والجرحى أو أكثر !
لقد كان الخوف من تكاثر العرب -الذي يقلب ميزان التوازن السكاني فيها- هو أكبر المشكلات، وقديما قالت (جولدا مائير): “إن الفلسطينيين يتكاثرون كما تتكاثر الأرانب”، حتى جاءت الانتفاضة المباركة، فأصبحت تلك المشكلة بمثابة الطامة الكبرى!
كان اليهود يتوقعون -وفقاً لمعدلات النمو السكاني- أن يصبحوا عام 2020 أقلية بين العرب، وكان ذلك يفزعهم، وينذر بمصير مشؤوم لدولتهم، حين نشروا ذلك قبيل اشتعال الانتفاضة، وهذا التشاؤم في محله؛ لأن عشرين سنة في عمر الأمم ليست شيئاً مذكوراً، أما الآن فالوضع لم يعد يحتمل، بل هو مخيف للغاية، فالانتفاضة أوجبت خفض الأرقام والتقديرات؛ لكي تكون النهاية أقرب بكثير، قد يكون عام 2010 مثلاً، وهذا كابوس مرعب لا يطيقون مجرد التفكير فيه، فماذا تقول لغة الأرقام؟.
يبلغ عدد العرب داخل الأرض المحتلة مليوناً وثلاثمائة ألف أول عام 2002، وسيبلغون عام 2020 مليونين ومائة ألف، أما سكان الضفة والقطاع فإن عددهم يزيد سنوياً بمقدار 180 ألف نسمة، أي ما يقارب عدد المستوطنين الذين تجمعوا فيها من اليهود في مدة 34 عاماً، فهم يقدرون بحوالي 200,000 مستوطن، أنفقت الدولة عليهم مليارات الدولارات، غير الخسائر البشرية !.
وبعد اشتعال الانتفاضة انتشر الرعب في المستوطنات، وبدأت الهجرة إلى داخل ما يسمى بـ(الخط الأخضر)، وأطلقت الصحافة اليهودية لقب (مستوطنات الأشباح) على ذلك العدد الكبير الذي أخلي منها أو كاد، وأورد بعضها أن نسبة المهاجرين منها بلغت40%، أي أن إسرائيل تحتفظ باحتلال الضفة والقطاع، وتتكلف الخسائر الهائلة مادياً وبشرياً ومعنوياً من أجل 120,000 يهودي فقط، هم سكان المستوطنات!!
وهذا ما عبر عنه -حرفياً- أكثر من ناطق من مؤيدي الانسحاب من طرف واحد، والعودة إلى حدود ما قبل الاحتلال، ومنهم اليسار كله والمنظمات المؤيدة للسلام.
لكن رافضي الانسحاب يردون على ذلك بأن الانتفاضة شملت كل المناطق داخل الخط الأخضر أيضاً، وأن الهجرة إلى داخل الخط ما هي إلا تمهيد للرحيل نهائياً عن البلاد، أي الردة.
ومن هنا نفقه الظاهرة التي تتعاظم بشكل واضح، وهي ظاهرة عبر عنها بعض الإعلاميين العرب خطأ بأنها (يقظة ضمير)، ونعني بها المطالبة بالانسحاب إلى داخل الخط الأخضر، والاعتراف للفلسطينيين بما هو خارجه على تعديلات أو اختلافات في التنفيذ، وأهم من ذلك الاعتراف بوحشية الجيش اليهودي، والمطالبة بأن يكون متحلياً بالرحمة والانضباط !.
فمثلاً قاد (إيهود باراك) نفسه حملة الألف ضابط المتقاعدين؛ للمطالبة بالانسحاب من طرف واحد، وجاء في استطلاع (معاريف) أن 70% من المستوطنين يؤيدون ذلك الانسحاب !، فهل هذه حقاً يقظة ضمير؟
أم أن هناك قاعدة أو سنة اجتماعية تعلل ذلك؟ والجواب -كما رأينا في كل مرة- موجود في كتاب الله، بيَّنه الله من حال اليهود أنفسهم، فإنهم لما أبلغهم نبي الله موسى عليه السلام -بأمر الله- أن يذبحوا بقرة، كانوا يعلمون أنه جاءهم بالحق وأمرهم به، ولكنهم لم يقولوا: ( الآنَ جِئْتَ بِالْحَقّ ) [البقرة:الآية71]، إلا عندما ضاقت بهم الحيل عن الاستمرار في المماطلة.
وهكذا نستخرج القاعدة التالية: عندما يعيد العدو -وهو معروف دائما ببعده عن العدل والمنطق- النظر في عدالة القضية، ويبدأ في التفكير المنطقي، فإن ذلك لم يحدث نتيجة خوف الله أو يقظة ضمير، بل نتيجة ضغوط الواقع وتأثير المقاومة !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سفر الحوالي، مقال: الانتفاضة فجر جديد، باختصار، موقع إلكتروني: طريق الإسلام، 2003م.