العدد الثاني والثلاثون
يناير 1, 2025انهيار الباب الأول في جدار حراسة إسرائيل!
يناير 1, 2025د. محمد الصغير – رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
تتابع الأحزان والتعايش مع الطغيان أفقد الكثيرين القدرة على الفرح، حتى صار دارجاً في أعرافنا أن نقول بعد المواقف السارة أو كثرة الضحك: “خير اللهم اجعله خير”! تأكيداً على التوجس من الفرح، أو انتظاراً لما سيعقبه من الحزن المحتمل، والبعض ينكر لحظة الفرح بالكلية ويردها إلى الأحلام المنامية فيقول: “دا حلم ولا علم”؟
والحقيقة ما زال العلم حائراً في تفكيك هذه الظاهرة ومعرفة بواعثها اللا إرادية، وإذا كان هذا في الحالات الخاصة، فإنه في الشأن العام أوضح، وبواعث القلق فيه أكبر، وأصدق مثال على هذا ما حدث في انتصار ثورة سوريا، وفتح الشام خلال عشرة أيام، فبدلاً من الفرح بالنصر والتحرير، دخلنا في دوامة كيف تم ذلك في وقت قصير؟
ونسى المتشائمون ثلاث عشرة سنة من كفاح الشعب السوري ونضاله، وما تعرض له من قصف كيماوي وبراميل متفجرة، وأكثر من مليون شهيد مع تهجير نصف الشعب خارج أرضه، أما عن المعتقلين والمختفين الذين بقوا على قيد الحياة وخرجوا من سجون بشار، فأعلنت منظمات حقوق الإنسان السورية أن عددهم 122٫144 معتقلاً حتى الآن .
المشاعر متضاربة عند أهل سوريا؛ فهي مزيج من الفرح الحذر، المشوب بالخوف من الخطر، خطر العودة لعصور الظلام، أو دخول البلاد في دوامة عدم الاستقرار، ومع أن بعض هذا الخوف له ما يبرره، ويتفهمه أصحاب الأنفس السوية، لكن جلّه يتبدد من خلال النظر في الآتي:
أولاً: لا ينبغي القلق على الشام عند أهل الإيمان
فهي الإقليم المبارك الذي دعا له رسول الله ﷺ فقال: “اللهم بارك لنا في شامنا”.
وشرّفه ﷺ بنسبته إليه وإلى أمته جميعاً، لذا رأيت كثيراً من المسلمين الأعاجم لا يذكرون اسم الشام مجرداً، وإنما يقولون “شام شريف”، حيث فيه قبلة المسلمين الأولى ومسرى رسول الله ﷺ، وعاصمة الخلافة، وهي أرض المحشر والمنشر.
وجاء في صحيح السُّنة أحاديث كثيرة في فضل بلاد الشام، منها:
- ما جاء عن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- قال: إن النبي ﷺ قال: “عليكم بالشام”.
- وقوله ﷺ: “إن الله عز وجل قد تكفل لي بالشام وأهله”.
- وعنه ﷺ: “ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن.. بالشام”.
- وحديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: “الشام أرض المحشر والمنشر”.
- ووصى النبي ﷺ بسكنى الشام: “عليك بالشام فإنها خيرة الله في أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده”.
ثانياً: ليعتبر السوريون أنفسهم في استراحة محارب
لو لم تنجز الثورة السورية غير خروج عشرات الآلاف من المعتقلين ونجاتهم من المسالخ والمكابس البشرية.. لكفاها شرفاً وفخراً، ناهيكم عن الفرحة التي دخلت كل بيت سوري بعودة المهاجرين واللاجئين، الذين رجع بعضهم -ممن أعرف- بعد 45 سنة من الحرمان من الأهل والأوطان، بالإضافة إلى الفرحة التي دخلت قلب كل مؤمن بنجاة سوريا من جبروت الحكم النصيري الطائفي البعثي، الذي جثم على صدور السوريين طيلة 53 سنة.
ولن يكون في المستقبل أسوأ مما عاشته سوريا في ظل نظام حكم آل الأسد وحزبه، وقد لقيني أحد كبار الأطباء العراقيين فقال لي إن نجاح ثورة سوريا أكثر مَن تذوق حلاوتها عامة المعذبين والمهمشين من العراقيين، ومع توسيع الدائرة سنجد أن تحرير سوريا أعاد الأمل في نفوس الجميع، وأصبحنا ننتظر الفجر القريب، مع ربيع عربي جديد، وبداية تفتح أزهاره ظهرت في رعب المستبدين، وانزعاج المفسدين من مصير حليفهم وجليسهم بشار، الذي وقع نبأ سقوطه على رؤوسهم كالصاعقة، ودق مشهد هروبه المشين ناقوس الخطر في نفوس حاشية المجرمين وسحرة الفراعين، فإن الطغاة والجبارين لا يفكرون إلا في أنفسهم، وما يحملونه من مال السحت الذي يؤمّن معيشتهم، دون أن يلوي أحدهم منهم على أحد، أو يلتفت إلى مقرب !
ثالثاً: ما قام به السيد أحمد الشرع القائد العام لفتح الشام جعله في صفوف القادة الكبار
حيث أعدّ لهذه المعركة الإعداد اللازم لمشروع التحرير، وبدأ بالخطوة الأهم والأخطر وهي توحيد كافة الفصائل والتحرك بها تحت راية واحدة، سواء في فترة الإعداد أو فترة التحرير والتمكين، وكل مَن يعرف طبيعة الشعب السوري يعرف أن هذا العمل من الصعوبة بمكان، وأن مَن نجح فيه قادر -بعون الله- على النجاح فيما سواه.
ولا ننسى أن الظروف الدولية واختلاف الخريطة السياسية والتحالفات الإقليمية، كل ذلك هيأ جواً مناسباً لتقدم كتائب الثورة، التي كانت قد أعدت للأمر عدته، وأخذت بأسباب النصر المتاحة.
رابعاً: النجاح الذي حققه حاكم إقليم إدلب في الشمال السوري المحرر كان محل إجماع المنصفين
واستطاع أحمد الشرع أن يجعل هذه الحقبة فترة إعداد وتأهيل، للكوادر التي ستتحمل مسؤولية الفترة الانتقالية، لقيادة سفينة سوريا الجديدة إلى شاطئ الأمان والاستقرار، وما ظهر خلال الشهر الذي تلا التحرير من سرعة بسط الأمن ومنع الانفلات، وسير الحياة بشكل شبه طبيعي، مع الانفتاح على العالم الخارجي واستيعاب كل الوفود، يدلل على دربة في الإدارة وحنكة في السياسة.
خامساً: أكثر ما نحتاج أن نتحدث عنه بوضوح، هو تخوف بعض السوريين من تاريخ أحمد الشرع السابق مع بعض الحركات والتنظيمات
وعلى رأسها (داعش)، وهجرته للعمل الجهادي في العراق، وللإنصاف.. فهذه تُحسب له وليست عليه، فلو أخذنا نعدد من انخدع ابتداءً بهذا التنظيم من دعاة وصحافيين وكُتاب وإعلاميين لطال بنا المقام، ناهيكم عن الشباب المتحمسين الذين غرتهم الأفكار البراقة، والرايات السوداء الخفاقة، وتسابقوا عليها تسابق الفراش على حفر النار وكان فيها هلاكهم.
إلا من عصمه الله ونجاه، وأبصرت الحق عيناه، فعاد إلى صوابه ورشده، وأصبح يدرك عن تجربة أن (داعش) هي الخطر الفاحش، وأدرك أكثر من غيره أن هذا التنظيم مخترق محترق، يقوم على الاستحلال والتكفير، ويقاتل أهل الإيمان ويترك عبدة الأوثان، وقد فضحتهم تفجيراتهم للمساجد في ظل حكم (طالبان)، وصمتهم خلال احتلال الأمريكان.
كما أثبتت الأيام والأحداث صدق أحمد الشرع في قطع علاقاته بالتنظيمات الخارجية، وتركيزه فقط على قضية تحرير سوريا، بل يعتبر الشرع ومن تربى على يديه، قد حصلوا مناعة مكتسبة ضد الأفكار الضالة والمتطرفة، كمن أصابته (كورونا) ثم شُفي منها، وكم مر علينا في التاريخ مَن مرت حياتهم بأطوار مختلفة، وتغيرت مسيرتهم بعد مرحلة فتوة الشباب، إلى حكمة الكهول.
سادساً: من الضمانات التي أعول عليها شخصياً الوجود التركي في المشهد السوري
ولستَ مرغماً على متابعتي فيها! ولستُ غافلاً عن مصالح تركيا المتعددة واجتهادها في تحقيقها، لكن الذي يعنيني أنها تتقاطع جميعها مع مصلحة الشعب السوري، وأهم هذه المصالح ويأتي في مقدمتها:
تفكيك التنظيمات الإرهابية والخلايا السرطانية التي تحتل جزءاً ليس قليلاً من التراب السوري، وتهدد وحدة أراضيه.
مثل قوات (قسد) الإرهابية، وفروع (حزب العمال) الكردستاني المتورط في أعمال تخريبية داخل تركيا وضد مؤسساتها، وكذلك ملف عودة السوريين الذي مثّل حملاً في الآونة الأخيرة على الحكومة التركية، ورأينا بعد التحرير كيف أن السوريين هم الأحرص على العودة لتعمير بلدهم.
وعلى الصعيد الشخصي لدي ثقة في سوابق الخير التي فعلها الرئيس طيب أردوغان، وليس جديدًا عليه التحرك في المساحات الفارغة، واستغلال الفرص المواتية، لتحقيق أهدافه ونصرة حلفائه.
وقد رأينا ذلك في وقوفه إلى جوار دولة قطر، واستمرار الحلف الاستراتيجي بين البلدين، وكيف هو صمام الأمان ضد انزلاق ليبيا إلى حرب أهلية، ومساعدة أذربيجان على تحرير أقليم كرباغ المحتل من 29 سنة من قِبل أرمينيا التي تدعمها أمريكا وفرنسا وروسيا وإيران، لكنه استغل فترة (كورونا) وخوف الناس من مجرد المصافحة، وأطلق أسراب (البيرق دار) نجدةً لإخوانه في أذربيجان.
ورأينا في الأيام الأخيرة كيف استطاع أن يكلل جهوده في دعم الصومال بالمصالحة الكبرى مع جارتها أثيوبيا، وجعل لتركيا قدماً راسخة داخل بلاد أفريقيا، حتى حصل على شهادة القريب والبعيد بأنه رجل هذه المرحلة، وأحد الأيدي الفاعلة في دعم سوريا وثورتها.
ولو كان القائد العام أحمد الشرع على منهجه القديم الذي يخاف منه الناس، لما كان حليفاً لأردوغان على أية حال، بل إننا بإذن الله على أبواب تجربة سورية واعدة، ونموذج حكم جديد، يحقق نبؤة شوقي أمير الشعراء حين قال:
جزاكم ذو الجلال بني دمشق ** وعز الشرق أوله دمشق
وختاماً..
فإن الحكم على البدايات من أخطر الجنايات، واعتماد الأحكام المسبقة جور في الحكم ومنافاة للعدل، والسير في فلك التصنيفات الغربية وأبواقهم العربية لا يقود إلى هدى، وفيه الضلال والردى، وواجب الوقت الآن أن نعيد ما تهدم من بنيان سوريا على كافة الأصعدة.
فما تعرض له بنيان الإيمان، لا يقل عما تعرضت له الحوائط والجدران، لأن الخطاب النصيري البعثي ومن شاركه من ميليشيات إيران وأحزابها، عمد إلى تغيير هُوية سوريا العربية، واستهدف عقيدتها السُّنية، فكل شيء في سوريا الآن يحتاج إلى إعادة إعمار وترميم، وسواعد أبناء سوريا التي أبدعت خارج أرضها، قادرة على ذلك في ظل ما تحقق على أيدي الصادقين من أهلها، بل إن بركات الشام ستعم ما حوله من الأقطار.