جاء الحق وزهق الباطل
ديسمبر 20, 2024ترجمة بيان “تهنئة علماء الأمة ونصيحتهم لثوار سوريا” للغة الفرنسية
ديسمبر 20, 2024الشيخ عبد الله ناصح علوان – رحمه الله*
قال الله تعالى: ﴿الۤمۤ * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن یُتۡرَكُوۤا۟ أَن یَقُولُوۤا۟ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا یُفۡتَنُونَ * وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَیَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَـٰذِبِینَ﴾ [العنكبوت: 1-3]. إن للإسلام شارات تشير إليه، وإن للإيمان علامات تدل عليه، فليس كل من زعم الإيمان كان مؤمناً، وليس كل من ادعى الإسلام كان مسلماً ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ * یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ * فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ ﴾ [البقرة: 8-10].
- فمن علامات الإيمان: القيام بوظائف الطاعات، والعمل بمقتضى الإسلام والاحتكام إلى الله والرسول ﷺ.. ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا یَجِدُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَرَجࣰا مِّمَّا قَضَیۡتَ وَیُسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمࣰا﴾ [النساء ٦٥].
- ومن علامات الإيمان: أن تؤمن بشريعة الإسلام ككل لا يتجزأ، من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق.. فلا يصح في دين الله أن يأخذ المسلم ببعض الأحكام الإسلامية ويترك بعضها.. بل من الضلال والكفر أن يؤمن ببعض المبادئ ويكفر بالبعض الآخر؛ ﴿أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضࣲۚ فَمَا جَزَاۤءُ مَن یَفۡعَلُ ذَ ٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡیࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یُرَدُّونَ إِلَىٰۤ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ﴾ [البقرة: ٨٥].
- ومن علامات الإيمان: الصبر على المصائب، والتجلُّد أمام الأحداث: ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ * ٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَـٰبَتۡهُم مُّصِیبَةࣱ قَالُوۤا۟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّاۤ إِلَیۡهِ رَ ٰجِعُونَ * أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَیۡهِمۡ صَلَوَ ٰتࣱ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةࣱۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ﴾ [البقرة: 188-187].
فيؤخذ من هذا كله أنه لا يمكن أن يتميز المؤمن من المنافق، والمخلص من المرائي، والصابر من الجزوع، وقوي الإيمان من ضعيفه، إلا أن يمر بمرحلة التجربة، ويدخل قاعة الامتحان، فعندئذ تظهر الحقيقة الواضحة، إن كان صادقاً بدعوى الإيمان أو كان كاذباً. وإن من أعظم الاختبارات التي تظهر حقائق الرجال، وتبيّن مواقف الأبطال هي الصبر على الأذى والابتلاء في سبيل الله.
فكثير من الذين لا يفهمون حقائق الإسلام يفضلون أن يصلُّوا في اليوم مائة ركعة، ويذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ولكن ليس عندهم أي استعداد لأن يتجلدوا للمصائب، وأن يصبروا على الأذى في سبيل الله ولو لحظة، وإذا أوذوا تضجَّروا وانهزموا وقعدوا في جحورهم مع القاعدين: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَاۤ أُوذِیَ فِی ٱللَّهِ جَعَلَ فِتۡنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِۖ وَلَىِٕن جَاۤءَ نَصۡرࣱ مِّن رَّبِّكَ لَیَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمۡۚ أَوَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِمَا فِی صُدُورِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [العنكبوت: ١٠].
ونحن إن اطلعنا على كتاب الله الكريم، ونقبنا عن أحاديث رسول الله ﷺ نجد أنها ناطقة بأحسن بيان بأن رضاء الله ودخول الجنة لا يكون بعمل الطاعات والعبادات فحسب، ولا يكون باتباع الحلال واجتناب الحرام، وكفى، وإنما يدخل فيه كذلك الجهاد في سبيل الله، والصبر على المحن والشدائد، ومقاومة الظالمين والمعتدين.
- فمن الآيات: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَیَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [آل عمران: ١٤٢].
- ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَاۤءُ وَٱلضَّرَّاۤءُ وَزُلۡزِلُوا۟ حَتَّىٰ یَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَاۤ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ﴾ [البقرة: ٢١٤].
- ومن الأحاديث: قول الرسول ﷺ: “حُفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات”، “يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسـألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف”.
- وحينما شكى عياش بن ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر، وغيرهم إلى رسول الله ﷺ ما يلقونه من أذى المشركين واضطهادهم نزلت هذه الآية: ﴿الۤمۤ * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن یُتۡرَكُوۤا۟ أَن یَقُولُوۤا۟ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا یُفۡتَنُونَ﴾، نزلت تبيِّن للمؤمنين جميعاً أن الإيمان لا تظهر حقيقته ولا يتم في الفؤاد رسوخه، إلا إذا مروا بمرحلة التجربة، وثبتوا على الأذى، وجاهدوا في الله حق جهاده، وهذه السُّنة ليست خاصة في عصر الرسول ﷺ وإنما تشمل المؤمنين جميعاً في كل العصور والدهور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
- ولما اشتد إيذاء قريش على ضعفاء المؤمنين جاؤوا إلى النبي ﷺ وهو متوسد بُردة له في ظل الكعبة يقولون: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال لهم النبي ﷺ: “قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون”.
ولما علم الصحابة رضي الله عنهم حقيقة الإيمان من بطل الأبطال ﷺ أعدوا للصبر نفوساً مؤمنة لا تجزع أمام أحداث الليالي، وقلوباً راسخة صامدة لا ترتعد من نوازل الزمن.. لهذا رأيناهم بعد أن فهموا رسالة المسلم، وواجبه الأقدس في إعلاء كلمة الله، انطلقوا في ميادين الدعوة إلى الله غير عابئين بما يعترضهم من عقبات، وغير مكترثين بما يلقونه من مصائب وأهوال.. وحسبنا الآن أن نذكر بعض الأمثلة التاريخية لنعرف جلياً ما كان يلقاه السلف البواسل الأمجاد من صحابة محمد ﷺ من أذى واضطهاد في سبيل الرسالة الإسلامية والدعوة المحمدية، عسانا أن ننهج نهجهم، ونمشي في الدرب الذي ساروا فيه، لتحيا في الكون دعوتنا، وتعود لنا كرامتنا وعزتنا، وليس ذلك على الله بعزيز.
- فهذا بلال المؤمن الصابر لقي في سبيل الدعوة ألواناً من العذاب، وأصنافاً من البلاء، فكلما اشتدت عليه وطأة الألم، ونزلت به الإحن السود، ووضعت على بطنه الحجارة الثقيلة في وهج الظهيرة المحرق، ازداد إيماناً وتثبيتاً، وهتف من الأعماق: “أَحد أَحد، فرد صمد”.
- وهذا عمار، وأمه سمية، وأبوه ياسر رضي الله عنهم قد تحملوا في سبيل إسلامهم ما لم يتحمله إنسان، وما إن علم بنو مخزوم بإسلامهم حتى انقضوا عليهم يذيقونهم أشد العذاب ليفتنوهم عن دينهم، ويرجعوهم كفاراً بعد أن هداهم الله. وفي بطحاء مكة حيث ترسل الشمس شواظاً من لهب، قضى آل ياسر أياماً في عذاب مقيم، ومرَّ عليهم رسول الله ﷺ وهم يعذبون، وسمع ياسراً يئن في قيوده، وهو يقول: “الدهر هكذا”؛ فنظر الرسول الأعظم ﷺ إلى السماء، ونادى:” أبشروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”. وسمع آل ياسر هذا النداء فهدأت نفوسهم وسكنت، فلما أتاهم أبو جهل لعنه الله، كان استهزاؤهم بالموت وعلوهم على الحياة أعظم ما رأى الناس، لقد استشهدت” سمية” وكانت أول شهيدة في الإسلام، ثم تبعها ياسر، وكان أول من استشهد من الرجال، وبقي عمار يغالب العذاب، و يصابر الألم حتى بلغ به الجهد مبلغه، وهكذا يجب أن يكون الرجال.
- وكان الرجل من صحابة محمد ﷺ حينما يخرُّ على الأرض صريعاً في سبيل الله يقول والابتسامة لا تفارق شفيته: هذا هو الفرج الأكبر.
- وكان أحدهم حين يقع على الموت أو يقع عليه فلا يجد بداً إلا أن ينشد:
ولـست بمبد للعدو تـخشعاً ** ولا جزعـاً، إني إلى الله مرجعي
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً ** على أي جنب كان في الله مصرعي
والله لو لم يكن لهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إلا هذه المواقف لكفتهم على مدى الدهر شرفاً وفخراً وخلوداً. هكذا الإيمان يصنع العجائب حين تخالط بشاشته القلوب.. فما أحوجنا نحن المسلمين إلى هذه النوعية من الإيمان لنبني في الحياة صرح المجد والحضارة، ونعيد إلى الدنيا دولة الإسلام العتيدة!
يا شباب الإسلام:
في أعناقكم مسؤوليات جسام، وعليكم واجبات عظام، تجاه رسالة الإسلام ودعوة محمد عليه الصلاة والسلام، لا تظنوا أن النصر بالأمر الهيِّن اليسير، وأن الطريق محفوفة بالورود والرياحين، وإنما يتطلب منكم الواجب أن تضحّوا في سبيل الله بكل رخيص وغال، وأن تتحمَّلوا في سبيل الإسلام كل المصائب والأهوال.
يا مسلمون:
انهجوا نهج نبيكم في التضحية، وسيروا سير آبائكم في الجهاد، حذار من التراجع، فالتراجع في دينكم هزيمة. وحذار من التكاسل، فالتكاسل في قرآنكم خذلان، وحذار من الجزع، فالجزع في إسلامكم حرام.
ارفعوا أبصاركم إلى السماء، اربطوا قلوبكم برسالة الإسلام، سيروا في مواكب الخير، اسلكوا دروب الهدى، لا تغرنكم هذه الحياة الفانية، لا تخدعنكم هذه المظاهر الكاذبة، لا يرهبنكم تهديد ولا وعيد، لا تهولنكم الصواعق ولا الرعود، امضوا على بركة الله فإنها إحدى الحسنيين: إما نصر لتعيشوا أعزاء، وإما قتل لتموتوا شهداء.
وصدق الشاعر إذ يقول:
ونحن أناس لا توسط بيننا ** لنا الصدر دون العالمين أو القبر
﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُوا۟ فَسَیَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [التوبة ١٠٥].
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* خطبة للشيخ عبد الله ناصح علوان، منشورة بمجلة حضارة الإسلام، العدد الثالث والرابع، من السنة السادسة (1385-1965هـ).