عدالة الإسلام وازدواجية الغرب (1)
أكتوبر 8, 2024الصحابة معجزة بحق (1/2)
أكتوبر 8, 2024د. حسن سلمان
عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
تحدثنا في الحلقتَين السابقتَين عن البُعد العقدي والفلسفي للعلاقات الدولية في الإسلام، ونتناول في هذه الحلقة المنظور القيمي للعلاقات الدولية في الإسلام، وهي بطبيعة الحال جزء من العلاقات الإنسانية في صورتها المنتظمة دولاً ومنظمات ومؤسسات، وهي محكومة بمنظومة قيمية أخلاقية متعالية، تسمو بأصحابها وترتقي بهم في سلم العلاقات الإنسانية رعاية للحقوق والتزاماً بالعهود والحدود، وأن ما تقوم به من علاقات تراعي فيه قبل كل شيء البُعد الغيبي والرقابة الإلهية والمساءلة الأخروية، وهذا يلقي على صاحبه مسؤولية كبيرة قبل المسؤولية التي تلقى عليه من قِبل العاملين معه أو المشاركين له في الساحات المختلفة.
وبالتالي يمكننا القول بأن العلاقات الدولية في الإسلام تنتمي إلى المدارس المثالية الأخلاقية، وليست إلى المدارس النفعية الميكافيلية المتجردة عن القيم الأخلاقية، ولا يعني ذلك بطبيعة الحال غياب البُعد المصلحي أو الواقعية الحركية، بقدر ما يعني رعاية كل ذلك في سياق قيمي ومبادئ عليا حاكمة تجعل من السياسة أداة ذات وظيفة أخلاقية سامية، ولما كانت بهذه الصورة فقد كانت السياسة وظيفة الأنبياء ومَن تبعهم في الإصلاح المجتمعي وقيادة التحولات الكبرى في الأمم والشعوب.
ومنظومة القيم الحاكمة للعلاقات الدولية ليست معزولة عن القيم الإسلامية العامة، وربما كان هناك تداخل بين القيم الحاكمة داخل الإطار الإسلامي الخاص الذي يحكم علاقات المسلمين فيما بينهم وبين القيم التي تحكم علاقاتهم مع غيرهم، مع وجود بعض الخصوصيات هنا وهناك بطبيعة الحال، ونتناول في هذه المقالة بعض القيم التي تؤثر في السياسات والعلاقات الخارجية في علاقة الأمة بغيرها وذلك في الفقرات التالية.
قيم العلاقات الدولية في الإسلام
أولاً: التكريم
الإسلام ينطلق من رؤية كونية للكائن البشري وهو كونه خليفة الله في الأرض، وقد كرمه الله تعالى تكريماً يليق بمقام الخلافة التي كُلّف بها فنفخ الله فيه من روحه وزوّده بالعقل، وهيأ له الطبيعة مسخرة له ليؤدي مهمته على أكمل وجه وأحسنه، ثم زوده برسالة هادية ليكون سيره في الأرض على بصيرة وغاية، ونلخص ظاهرة التكريم للإنسان فيما يلي:
أ- التكريم في أصل الخلق.. قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِیۤ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَـٰهُمۡ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَفَضَّلۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِیلࣰا﴾ [الإسراء: 70]. وقال تعالى: ﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمࣲ﴾ [التين: 4].
ب- التمييز بالعنصر الروحي: ﴿فَإِذَا سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَـٰجِدِینَ﴾ [سورة ص: 72]، ويُبنَى على ذلك مبدأ الوحدة الإنسانية كمبدأ طبيعي وكقانون ثابت لا يتبدل، وتتقوى هذه الوحدة كلما أدرك الناس مقوماتها المتمثلة في: وحدة الرب المعبود، ووحدة الأصل والنسب من سلالة واحدة، ووحدة الناموس الذي يحكمهم قدراً وشرعاً، ثم وحدة الهدف والمصير والمآل المقدر لهم.
ت- تحريم الاعتداء على النفس الإنسانية بأي شكل من مظاهر الاعتداء في حياته وبعد مماته.
ث- استخلاف الإنسان في الأرض وعمارتها وتسخير الكون له وكونه مسؤولاً عن تصرفاته، خلافاً للحالة الحيوانية وهذا يعني وجود معنى لحياته.
ج- إنزال الكتب وإرسال الرسل لتحرير الإنسان من كافة أشكال العبودية لغير الله تعالى، وهو المعنى الحقيقي للحرية في التصور الإسلامي، أي: تحرير الإرادة الذاتية عن كل مرغوب ومرهوب سوى الله تعالى.
ح- منح الله تعالى الإنسان المشيئة والاختيار مع تحمل المسؤولية عن قراره في الكفر والإيمان، فلم يحمله على العبودية الاضطرارية وحدها كما هو حال سائر الخلق المسخر، وهذا نوع من التكريم في أن يكون الإنسان عبداً لله اختياراً، كما أنه عبدٌ لله اضطراراً، فيكون قد جمع بين العبودية الاضطرارية العامة وبين العبودية الاختيارية الخاصة.
والإسلام وهو ينتشر بدعوته بين الناس ينطلق من هذا التكريم الإلهي فيعمل على محاربة كافة مظاهر الاضطهاد والاستعباد البشري والاستعلاء العرقي، ويجعل المعيار للتفاوت معياراً موضوعياً أخلاقياً وهو التقوى والعمل الصالح.
ثانياً: الرحمة
الرحمة من أعظم وأوسع القيم التي ينطلق منها الإسلام، وذلك لأنه رسالة رحمة في مصدرها ومنهاجها ورسولها وحملتها، قال تعالى عن نفسه: ﴿ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ﴾ [الفاتحة: 3]، ﴿وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ﴾ [الأعراف: 156]، وقال عن كتابه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَاۤءࣱ وَرَحۡمَةࣱ لِّلۡمُؤۡمِنِینَ وَلَا یَزِیدُ ٱلظَّـٰلِمِینَ إِلَّا خَسَارࣰا﴾ [الإسراء: 82]، وقال عن رسوله ﷺ: ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال عن ورثة الرسول ﷺ وحمَلة الدعوة: ﴿أَشِدَّاۤءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَاۤءُ بَیۡنَهُمۡۖ﴾ [الفتح: 29]. والرحمة لا تقتصر على علاقة الإنسان بالإنسان بل تتعداه إلى عالم الحيوان والأشياء والنبات، قال رسول الله ﷺ: ”من لا يَرحم لا يُرحم”1. وقال: ”لا تُنزع الرحمة إلا من شَقي”2. وقال: ”في كل ذات كبد رطبة أجر”3.
والعلاقات الدولية في الإسلام مبناها على نشر رسالة الإسلام والدعوة إليها، وهي تحمل في كل مضامينها الرحمة للبشرية كافة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن الجهالة إلى العلم ومن الجَور إلى العدل، ومن الأوهام والخرافات إلى الحقائق المجردة.
ثالثاً: العدل
قامت جميع الشرائع السماوية على العدل والقسط، قال تعالى: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِیدَ فِیهِ بَأۡسࣱ شَدِیدࣱ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَیۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِیٌّ عَزِیزࣱ﴾ [الحديد: 25]، وبالعدل قامت السماوات والأرض، وبه تستقيم أمور الحياة، وبالظلم تنهار الحضارات والأمم، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَـٰنِ﴾ [النحل: 90]، وقال: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ لِلَّهِ شُهَدَاۤءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ ٱعۡدِلُوا۟ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [المائدة: 8]، وقال تعالى في الحديث القدسي: ”يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا…”4.
ويقول العلامة ابن خلدون: “الظلم مؤْذنٌ بخراب العمران”. فالعدل قيمة دينية تتفرع عن قيمة الرحمة التي لا تفريق فيها بأي سبب من الأسباب الدينية أو العرقية أو الطبقية أو غيرها، كما عبّر عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: “العدل واجب على كل أحد لكل أحد في كل حال”. وقال: “جماع كل خير العدل وجماع كل شر الظلم”. وقال ابن قيم الجوزية: “الشريعة عدلٌ كلها”. وقال: ”أي طريق استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له”.
والعدل الذي تسعى الأمة المسلمة لتحقيقه هو العدل الفطري والعدل الشرعي الذي نزل به الوحي ودعا إليه الرسول ﷺ، وأعظم العدل توحيد الله تعالى والإيمان به، ثم تحقيق العدل في القضاء والحكم وتوزيع الثروات، والعدل في الأقوال والأفعال وغيرها.
وفي هذا السياق فالمسلمون يتعاونون مع كافة الأمم على تحقيق العدل ورفع الظلم ودفع الفساد والعدوان، وزيادة الخير وتقليل الشر بحسب الإمكان، وإقامة النظم والمؤسسات التي تحقق ذلك.
رابعاً: المساواة
يولد الناس جميعاً متساوين في أصل الخلقة، وأنهم أحرار، ويظلون كذلك شرعاً، ولهم حق الفرص المتساوية في التعليم والتوظيف والعمل والأجر والتعويض، ويجب أن يكون التمييز بينهم معتمداً على الذكاء والفِطنة والمعرفة والإنتاجية والتفوق، وعلى الفضيلة والاستقامة والصلاح.
وأصل المساواة في قوله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ﴾ [الحجرات: ١٣].
وأن المساواة جاء تأكيدها في قول النبي ﷺ: ”يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر.. إلا بالتقوى”5.
وقال زين العابدين رضي الله عنه: “إن الله كتب الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وكتب النار لمن عصاه ولو كان شريفاً قرشياً”.
وإن المساواة في الشريعة فرع العدل وأحد معانيه، والإسلام هو الدين الذي يساوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين في كافة أحكامه، وذلك لأن المساواة المطلقة مستحيلة شرعاً وعقلاً، أما المساواة فيما يمكن فيه المساواة فحق والشرع هو الفيصل بينهما، وهذه هي المساواة المأمور بها شرعاً، وبطبيعة الحال فإن الإسلام يختلف في نظرته للمساواة عن المنظور الحداثي الوضعي الذي لا ينظر للفروقات المعتبرة شرعاً وخلقاً؛ فوقع بسبب ذلك في مشكلات كبيرة وكان للظلم أقرب منه لتحقيق المساواة، وكل ذلك بسبب غياب الهدايات السماوية والقطيعة مع الدين والانطلاق من العقل المحض في تقرير الحقوق ومنظومة القيم.
خامساً: المعاملة بالمثل
من العدالة في التعامل الإنساني بين الآحاد والمجموعات المعاملة بالمثل، قال تعالى: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَیۡكُمۡ فَٱعۡتَدُوا۟ عَلَیۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَیۡكُمۡۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِینَ﴾ [سورة البقرة: 194]، وقال تعالى: ﴿وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُوا۟ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَىِٕن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَیۡرࣱ لِّلصَّـٰبِرِینَ﴾ [النحل: 126]، ويتأسس على هذا المبدأ كثير من الأحكام الفقهية في السياسة الشرعية والعلاقات الدولية، سواء في حالات الحرب أو السلم.
وفي ذات الوقت فالإسلام يؤسس لقيمة التسامح والعفو والصفح والصبر الجميل، ولئن كانت المعاملة بالمثل عدلاً فإن العفو والصفح من الفضل والإحسان المسنون؛ قال تعالى: ﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَـٰهِلِینَ﴾ [الأعراف: ١٩٩].
سادساً: التمسك بالفضائل “الفضيلة”
وهي المعبَّر عنها في القرآن الكريم بالتقوى والإحسان والبر أو منظومة الأخلاق، ومن مظاهرها: الرّفق ولين الجانب والعفو والصفح والصبر، وكل معاني الأخلاق ومحاسنها، قال تعالى: ﴿وَلَا تَسۡتَوِی ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّیِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِی بَیۡنَكَ وَبَیۡنَهُۥ عَدَ ٰوَةࣱ كَأَنَّهُۥ وَلِیٌّ حَمِیمࣱ﴾ [فصلت: 34].
ومنظومة الأخلاق من أهم ما تميز الإسلام في علاقاته الدولية وسياساته الخارجية؛ فهو يعمل على التعاون على نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة والفواحش، وكل ما يؤدي إلى تدمير الإنسان روحياً ونفسياً وبدنياً، وهو في ذلك يعمل على بناء المشتركات الجامعة والمتناسقة مع الفطرة البشرية، وما نراه اليوم من تحلل أخلاقي وانتشار للرذيلة ما هو إلا بسبب قيام الفضيلة والأخلاق في المنظومة الدولية وتشريعاتها، التي منحت الحق في حرية الجنس والشذوذ والإدمان المتفاقم بكل أشكاله حتى تحول الناس عبيداً وأسرى لهذه الشهوات يصعب الفكاك عنها، وهنا تبدو أهمية الفضيلة والتمسك بها وإلا فنحن أمام نظام عالمي منحل يدور مع شهواته كالبهائم وعالم الحيوان؛ بل أضل.
يقول (مراد هوفمان) عن آثار سقوط الدين في الغرب وتفاقم الأزمة الأخلاقية فيه: ”إن سقوط الدين المنظم بصورة مفاجئة هكذا في الغرب يُعد سبباً ونتيجة للأزمة الأخلاقية المزدهرة التي تُعدُّ شبكة MTV اللوطية السحاقية التي أخذت تبث برامجها في العام 2005م عرضاً من أعراضها، فلا عجب إذن أن البابا لم يفلح في العام 2002م في إدخال إشارة إلى المسيحية في مقدمة مسودة الدستور الأوروبي. فإذا نظر إلى الأمور من هذه الخلفية يبدو أن الإسلام مؤهل لاكتساب اليد العليا”6.
سابعاً: الحرية
الحرية ضد العبودية، وتمنح صاحبها حق التصرف دون وصاية من أحد، وهي من مظاهر الكرامة الإنسانية والطريق إلى الإيمان الصحيح والمسئولية، حيث تركت الشريعة للإنسان حرية الاختيار والمشيئة دون جبر أو إكراه على الدين؛ لأن الإكراه الديني نوع من الفتنة التي جاء الإسلام لمنعها، وتحمل المسئولية على حرية الاختيار ثواباً وعقاباً، قال تعالى: ﴿لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِۖ قَد تَّبَیَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَیِّۚ﴾ [البقرة: 256]، ﴿لَّسۡتَ عَلَیۡهِم بِمُصَیۡطِرٍ﴾ [الغاشية: 22]، ﴿وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۖ وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ﴾ [هود: 118].
والإسلام جاء مقرراً للحرية في أقصى درجاتها.. تحريراً للوجدان في العبودية لغير الله تعالى، وذلك بالتحرير من سلطان الخوف على الحياة أو الرّزق، أو الخوف على المكانة والمنصب والجاه، أو من خلال تسلط الإنسان على أخيه الإنسان أو الاستعباد من خلال الشهوات والشبهات والأهواء، كما جاء الإسلام محرراً الإنسان من عبودية ذاته، وتعظيم شخصه ومكانته.. إلى جانب أن الإسلام جاء محرراً للعقول من الخرافات واتباع الأوهام والتقليد بغير بينة وبرهان، وهكذا فقد جعل الإسلام حرية التدين خياراً لا إكراه فيه بحال7.
وما شُرع الجهاد إلا لإزالة العقبات التي تقيمها النظم والحكومات الظالمة، التي تُكره شعوبها على الاستعباد وتمنعها من حرية الاختيار للدين الذي تطمئن إليه.
ثامناً: التعاون
الإنسان كائن اجتماعي لا يعيش بمفرده دون أن يتعامل معه أخوه الإنسان، ولذلك فإن التعاون أساس في حياة الناس، وجاءت الشرائع لتنظيم كيفية التعامل، وتمنع من الاعتداء فيه، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [المائدة: 2]، وجعل الإسلام التعارف المفضي إلى التعاون غاية للتنوع القبلي والشعوبي، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13].
فالتعاون أساس التعايش بين الناس في كافة شؤون حياتهم. ولما كان الأمر كذلك فإن العلاقات الدولية في الإسلام تقوم على هذا المبدأ رعايةً للمصالح ودفعاً للمفاسد وحفاظاً على البيئة الكونية التي يشترك فيها الناس لسلامة العيش ودرء المخاطر المحدقة، والإسلام يمتلك في إدارة الشأن الدولي منظومة حقوقية متكاملة وصالحة للجميع، دون النظر لعقائدهم أو قومياتهم ومواقع وجودهم؛ لأنها تعتمد على الشريعة الربانية المنزلة من الله تعالى العالم بالإنسان والطبيعة ومآلات التصرفات البشرية بعيداً عن ترهات العقول وضلالتها.
تاسعاً: الوفاء بالعهود
العهد هو الميثاق أو الالتزام الجازم بين طرفين، وقد جاءت الشريعة بالوفاء بالعهود والعقود، قال تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَوۡفُوا۟ بِٱلۡعُقُودِۚ﴾ [المائدة: 1]، ﴿وَأَوۡفُوا۟ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولࣰا﴾ [الإسراء: 34]، ﴿وَأَوۡفُوا۟ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُوا۟ ٱلۡأَیۡمَـٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِیدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَیۡكُمۡ كَفِیلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ﴾ [النحل: 91].
وجعل الإسلام عدم الالتزام بالعهود والوفاء بها من علامات النفاق كما ورد في الحديث: “وإذا وعَد أخلف، وإذا عاهد غدر”8. وإن هذه القيمة تعزز الثقة بين الناس، وتقوي روابط التعاون بينهم، ولذلك جاءت الشريعة بالإعلان عن نقض العهد إذا ما شعر المسلمون بالنقض من الطرف الآخر؛ قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِیَانَةࣰ فَٱنۢبِذۡ إِلَیۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَاۤءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡخَاۤىِٕنِینَ﴾ [الأنفال: 58].
والوفاء بالعهود والمواثيق من أهم أركان وقيم العلاقات الدولية في الإسلام فلا غدر ولا كذب ولا نقض، ما مادام الطرف الآخر ملتزماً بعهده.
وبهذه المنظومة القيمية يدخل المسلمون إلى مضمار العلاقات الدولية، ويمارسون سياسة وعلاقات أخلاقية تسعى لخير البشرية كلها، وتملك من أدوات الحوار والتفاوض وغيرها من الخيارات السلمية كما تملك خيارات القوة الصلبة التي لا بد منها في الصراعات الدولية عند فشل الخيارات السلمية.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري.
2 رواه الترمذي وأحمد.
3 رواه البخاري.
4 رواه مسلم.
5 رواه أحمد.
6 مستقبل الإسلام في الشرق والغرب: ص171.
7 انظر: حرية الرأي في الإسلام، للدكتور محمد عبد الفتاح الخطيب، ص51 وما بعدها.
8 البخاري ومسلم.