كيف علمنا النبي ﷺ اختيار الرجال؟
فبراير 22, 2024ثبات النبي ﷺ في مواجهة الأذى
فبراير 22, 2024الحمد لله الذي بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد المبعوث بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده(1)، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم يحمل رسالتهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
منشأ المشكلة
” هناك من ألِفوا الوجود مع الباطل وتحته، حتى صارت أعلى أمنياتهم مشاركته لا تغييره”
إن أمتنا عندما تعرضت للتيه زمناً طويلاً، ثم هي تحاول الآن أن تستعيد وجودها الرسالي، الذي ترث فيه نبيهاﷺ كأمة رائدة للحياة الإنسانية، فتنحاز الجماهير المسلمة لمن يرفعون راية الإسلام، متجاوزة بذلك الانحياز عقوداً من التضليل والاستبداد العلماني.. عند هذه اللحظات التاريخية تُصفى الصفوف مع تصفية النفوس، ويتمايز المتقدمون بالإسلام؛ إذ ليس الكل يحمل رسالة التغيير بالإسلام بل إن هناك من ألِفوا الوجود مع الباطل وتحته، حتى صارت أعلى أمنياتهم مشاركته لا تغييره.
معالم الرسالة.. منطلق الحل
في مثل هذه اللحظات الفارقة، تتأكد أهمية إبراز معالم رسالة النبي ﷺ لأنه كان الوجود المثالي للرسالة وللدين، وكل وجود صحيح بعد ذلك يكتسب صحته بمقدار اقترابه من هذا النموذج المثالي، ويفقد من الصحة بمقدار ما يبتعد عن النموذج الذي طبقه النبي ﷺ.
فإن ربنا سبحانه وتعالى لم ينزل لنا كتاباً وفقط، لأنه لو كان كتاباً وفقط لأمكن للأفهام أن تتفاوت في تفسيره بما قد يخرجه عن مقصوده، لكنه أرسل لنا رسولاً يحمل الكتاب، ليكون الكتاب هو الوحي المحفوظ لهذا الدين، وليكون الرسول ﷺ هو التطبيق العملي الذي يفسر ويضبط المعاني التي جاءت في الكتاب. ومن ههنا كانت السُّنة هي الوحي الثاني، واستدل العلماء على حفظ السنة بآية حفظ الكتاب: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]. فقالوا: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) تعني حفظ الألفاظ وحفظ المعاني، فحفظ الألفاظ ببقاء الكتاب، وحفظ المعاني بحفظ السُّنة، باعتبار أن كثيراً من البيان إنما حُفِظ بالسنة، فكان من تمام حفظ الكتاب حفظ السنة، باعتبارها جزءاً من الوعد الرباني بحفظ الكتاب، وهذا هو المنطلق الصحيح لفهم الدين.
حيثيات البعثة.. مفتاح الفهم
ولنبدأ القصة من البداية، ففي صحيح مُسلم من حديث عِياض بن حمار رضي الله عنه في حديث طويل للنبيﷺ ذكر فيه ما كان قبل بعثته، وذكر فيه حيثيات هذه البعثة. قال النبي ﷺ: “إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقَتهم عَربَهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب”.(2)
وهذا قبل البعثة.. نظر الله إلى أهل الأرض -هو لا يخفى عليه شيء من حالهم- فمقتهم لأنهم لم يُقيموا الإيمان والتوحيد.. لم يُقيموا العدل.. لم يقيموا الرحمة.. لم يقيموا الإحسان.. لم يقيموا الطهارة التي يحبها الله تبارك وتعالى في عباده، ولذلك استحقوا أنْ مقتهم عربهم وعجمهم.
ثم قال ﷺ: “إلا بقايا من أهل الكتاب”.. والتساؤل هنا: لماذا لم يمقت الله عز وجل بقايا أهل الكتاب؟ لا بد أن أسباب المقت لم توجد فيهم، فهم قد ظلوا على أصل التوحيد والإيمان، لم يُبدلوه، فحافظوا على بقية دينهم ولم ينحرفوا عنه، ولذلك لم يمقتهم الله تبارك وتعالى عندما مقت بقية أهل الأرض.
أين ذهبت البقايا المؤمنة؟
لكن الشيء العجيب حقاً.. هو أن الله عز وجل مع أنه لم يمقتهم إلا أنه قد استبدل بهم غيرهم؛ فبعث النبي ﷺ يجدد ملة إبراهيم عليه السلام ويرفع شعار التوحيد، ويقيم الدين، ويخرج أمة الإسلام؛ بل صارت نجاة من بقي من البقايا أن يكون تابعاً للنبي ﷺ الذي قال: “والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار”(3).
والأمر عجيب.. ألم يكن منهم مؤمنون؟ ألم يكن وجودهم سابقاً؟ لماذا لم يكونوا هم المتبوعين؟ ولماذا كانت هناك حاجة إلى رسالة جديدة تصير نجاتهم أن يكونوا لها تابعين فيكونوا بذلك امتداداً لغيرهم ولا يكون غيرهم امتداداً لهم من هذه الجهة؟!
سبب الاستبدال
السبب هو أنهم لم يكونوا قادرين على التغيير ولم يحملوا رسالة تغييرية؛ بل كانوا كما قال الحبيب ﷺ: “بقايا”. وهذه اللفظة تشعرك أن هناك شيئاً ينتهي، وهذه آخر البقايا.. قبل النهاية.
يشهد لذلك ما جاء في قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه فإنه لما لقي واحداً من هؤلاء البقايا، وكاد أن يموت، قال: إلى من توصي بي؟ فدله على ثانٍ، فلما كاد أن يموت قال: إلى من توصي بي ؟ فدله على ثالث، فلما كاد أن يموت، قال: إلى من توصي بي؟ فدله على رابع، فلما كاد أن يموت، قال: إلى من توصي بي؟ فقال له: “والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس”. وأخبره بقرب بعثة النبي ﷺ وحثه على طلب أرضه التي يهاجر إليها ليكون من أوليائه وأنصاره(4).
وهذا وصف البقايا؛ فالبقايا كان عندهم بقية من إيمان، لكنهم لم يكونوا يملكون قوة التغيير.
البعثة.. برسالة تغييرية
ولا أعني بقوة التغيير هنا القوة المادية، لأن النبي ﷺ عندما بُعث لم تكن عنده القوة المادية لكنه كان يملك القوة النفسية وروح التغيير، وهذه الروح هي التي بُعث بها النبي ﷺ؛ لذلك نجد في الحديث نفسه قول الله للنبي ﷺ: “إنما بعثتُك لأبتليك وأبتلي بك”(5). فأنت سوف تكون في اختبار حينما تريد تغيير الناس، والناس يرفضون التغيير، وهم أيضاً يُمتحنون بما تحدثه في حياتهم من تغيير.
بل ورد في الحديث ذكر لأعنف وأعلى صور التغيير حين قال ﷺ: “إن الله أمرني أن أحرق قريشاً”؛ فهذه الألفاظ غاية في القوة، وهي تفيد تغييراً كاملاً لواقع فاسد، وتنشئ بدلاً عنه واقعاً جديداً صالحاً.
من يؤدي المهمة الصعبة؟
ولما لم تكن المهمة سهلة، نجد أن النبي ﷺ يحكي استعظامه لهذه المهمة: “قلت: رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة”. أي: كيف أغير قريشاً هذه كلها وحدي؟! كيف أقدر على هدم كل هذا الباطل، وأبني مكانه صرح الحق من جديد؟! فأمره الله تبارك وتعالى أن يكون له على التغيير أعوان.
فالتغيير ليس مهمة النبي ﷺ وحده، بل هو مهمته ومهمة أتباعه، ولذلك قال الله له في الحديث: “قاتل بمن أطاعك من عصاك”. فهذا التغيير الشامل لن تفعله وحدك، إنما المؤمنون الذين يطيعونك سيكونون معك حرباً في هذا التغيير على من عصاك. ووعده الله عز وجل بالمدد فقال: “اغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله”.
المقارنة الكاشفة للتميز بالتغيير
إن من يريد فَهم هذا المعنى الذي نقرره، عليه أن يتأمل الحديث الشريف، حديث نزول الوحي على النبي ﷺ أول مرة.. هل عرف الوحي أم أنكره؟ هل اطمأن إليه أم خاف منه؟ حين ذهبت به خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، ألم يكن عند ورقة بن نوفل في هذه اللحظة من العلم ما لم يكن عند النبي ﷺ ولذلك قال له: “هذا الناموس الذي نزل الله على موسى”(6)؟
ففي هذه اللحظة عرف ورقة الأمر، والنبي ﷺ لم يعرف. وورقة اطمأن واستبشر، بينما كان النبي ﷺ خائفاً.. بل وعرف ورقة بقية الطريق، قال: “يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله ﷺ: “أوَ مُخرجيّ هم؟” قال: نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً”.
وهنا سؤال مهم: ألم يكن عند ورقة بن نوفل مثل ما جاء به النبي ﷺ وكان من البقايا المؤمنة؟! فلماذا لم يُعادِ أهل مكة ورقة بن نوفل، وقد عاش في مكة حيناً من الزمن، وهم يعلمون أنه مخالف لدينهم، مع ما عنده من العلم والإيمان، لدرجة أنه ثبّت النبي ﷺ وبشره؟!
السبب أنه لم يكن يمثل حركة تغييرية في مكة، إنما كان إنساناً له خياراته التي يعيش بها، وورقة قد عرف أنه بقية من البقايا، وأن الدور التغييري الكبير الذي سيفعله النبي ﷺ هو مثل الدور الكبير الذي قام به موسى عليه السلام مع بني إسرائيل بالبناء، ومع فرعون الذي مثل رمز الطاغوتية المضادة بالهدم، ولهذا شبهه به.
بل إن مما يجدر ذكره، أن هذا التشبيه ليس موجوداً عندنا في الوحي فحسب، بل هو موجود أيضاً في بشارات أهل الكتاب، فنجد فيها تشبيه النبي ﷺ بموسى وأنه يخرج لبني إسرائيل مِن بني عمومتهم مَن يصنع كما صنع موسى عليه السلام. ولا تَصدُق هذه النبوءة إلا على سيدنا محمد ﷺ الذي خرج من بني عمومتهم بني إسماعيل، وأحدث تغييراً هائلاً في حياة الجماعة البشرية كالذي أحدثه موسى عليه السلام.
أما ورقة بن نوفل فإنه لم يُواجه العداوة مع إيمانه وعلمه بالحق، لأنه لم يكن تغييرياً، لم يعمل على إحراق باطل قريش. لكنه عرف أن النبي ﷺ سيقود حركة تغييرية في المجتمع المكي وفي هذا الوجود الإنساني، ولذلك سيُعادَى وسيُخرَج.
الوجود الصحيح
ومثّل ورقة الوجود الصحيح للبقايا حين قال: “وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً”.
فأكون تابعاً لك، ناصراً لأمرك، فهذا هو الدور الذي بقي لهم ليؤدوه في الحياة. أما الدور الذي تميز به النبي ﷺ وكان جوهراً لرسالته، فهو تغيير الحياة الإنسانية، ولأجل هذا كانت الدعوة، وكان الجهاد، وكان التغيير في كل مناحي الحياة. بل قد كانت حياته ﷺ كلها جهاداً ودفعاً وتغييراً، واستمر هذا الأداء الرسالي إلى أن قُبض النبيﷺ.
والوجود الصحيح للأمة هو الذي يكون امتداداً لوجود النبي ﷺ. لذلك يحفظ الوجود الصحيح للأمة بالطائفة الظاهرة على الحق المنصورة، حتى إن الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم لما ذكر حديث الطائفة، قال: “فيه دليل لكون الإجماع حجة وهو أصح ما استدل به له من الحديث”(7). لأنه إذا حصل الإجماع، فمن المؤكد أن الطائفة المنصورة مع من أجمع، وهي ظاهرة على الحق، فيكون هذا الذي أجمع عليه هو الحق. فهم الامتداد العظيم للنبي ﷺ ولرسالته في الأمة.
طائفة.. تحمل الرسالة التغييرية
وإذا رأينا أحاديث الطائفة المنصورة، نجد فيها معاني الرسالة التغييرية، فمن ذلك:
أولاً: ربط دور الطائفة بالفقه في الدين
ففي إحدى الروايات عن النبي ﷺ في أحاديث الطائفة: “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة (8).
فإذا تساءلنا عن سر الربط بين دور الطائفة وبين الفقه في الدين؟ كان الجواب أن الفقه في الدين أخص من مجرد حمل الدين، أو معرفته، أو نقله، ففي فقهه مزيد خصوصية في فهمه، وهذا الفهم يشمل ابتداء فهم دوره التغييري بشكل سليم. ولذلك فرق النبي ﷺ بين النقل والفقه، فلما حث على البلاغ وهو مطلق النقل، قال: “فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه”(9). فالطائفة تمتاز بفقه الدين، فهي تفهم الدور الرسالي للأمة المسلمة المؤتمنة على هذا الدين في الأرض.
ثانياً: انعكاس ذلك الفهم على ممارستها التغييرية
فهي ظاهرة على الحق، معلنة له، تتحمل وتتكبد تكاليف إقامة الحق وحفظه، بل هي تقاتل على الحق، كما في روايات كثيرة من الأحاديث: “يقاتلون على الحق” وفي لفظ آخر: “لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال”(10). فهذه الطائفة تمثل العصمة للأمة لقربها من النموذج النبوي في فهم الدين، وأداء دوره الرسالي، بإظهار الحق وتغيير الحياة على مقتضى هذا الحق، ويستمرون في ذلك إلى آخر الزمان.
أما عن خصوصية ذِكر الدجال، فلأن فتنة الدجال كما قال النبي ﷺ: “والله ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أعظم من الدجال”(11) وقال: “إن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا حذر أمته الدجال، وإني آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة”(12). والنبي ﷺ أخبر عن أثره على الناس فقال: “ليفرن الناس من الدجال في الجبال”(13). لكن الطائفة تجتمع لقتال الدجال، فهي لا تجتمع للفرار من الدجال، ولا للمحافظة على دينها وفقط، بل لقتاله، لأنها امتداد للدور الرسالي الذي قام به النبي ﷺ أول مرة.
وبينما هم مجتمعون لقتال الدجال، وأقاموا الصلاة ليصلي بهم إمامهم، ينزل عليهم عيسى عليه السلام ويقودهم، ويقتل الله على يده الدجال(14). ولكن هل تأملتم على من نزل عيسى عليه السلام؟! إنه لم ينزل على هؤلاء الذين فروا يطلبون النجاة بإيمانهم، مع علو ما قاموا به من خير، لكنه نزل على المجتمعين لقتال الدجال. وتأملوا هذا الفقه للدين.. إنهم يعلمون أن الدجال لن يُقتل حتى نزول عيسى عليه السلام فإنه لا يقتل الدجال إلا عيسى، فالمنتظر أنهم يجلسون وينتظرون نزول عيسى عليه السلام؛ لكنهم فقهوا أن من قعد لا ينزل عليه النصر، إنما يتنزل النصر على من تجهز للقتال وسار في الطريق، لا على من نأى في الجبال ولا على من جلس ينتظر الوعود، من غير أن يعد لها عدتها. إن هؤلاء هم الطائفة الظاهرة، وهم الامتداد الصحيح للنبي ﷺ.
ولذلك لما ذكر العلماء خاصية هذه الأمة، والتي حازت بها الشرف في الآية: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
وقِفوا هنا.. لمَ قدّم الأمر والنهي عن الإيمان؟! مع أن الإيمان هو الأصل لكل خير، والإيمان هو الأعظم بالقياس إلى كل خير، فلماذا أخّر ذكره ههنا؟!
لأنه قد يوجد إنسان عنده أصل الإيمان، لكنه لا يتم له إيمانه الذي يجعله يحمل روح الإسلام التغييرية، فيقصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا يخسر من الخيرية بقدر ما قصر في الأمر والنهي. كالبقايا.. كان عندهم بقية إيمان، لكنهم لم يكونوا آمرين بالمعروف ولا ناهين عن المنكر، فامتازت هذه الأمة وكانت خاصية رسالتها الكبرى، أنها أمة ترث دور نبيها ﷺ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للناس جميعاً.
فهذه الرسالة، وهذه الروح، هي حقيقة بعثة النبي ﷺ وهي حقيقة دين الإسلام، وهي حقيقة الوجود الإيماني الذي يمتد آخر الزمان. فإذا وصلنا إلى آخر الزمان، وتناقص الإيمان، وما بقيت هناك قوة على ذلك التغيير، إنما بقيت من هذه الأمة بقايا مؤمنة ضعيفة فيبعث الله عز وجل عليهم ريحاً طيبة تقبض كل نفس مؤمنة. فيبقى في الأرض شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة، لأن الدنيا حينها تكون قد فقدت دورها “إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك”. فإذا غاب الوجود الإيماني الرسالي التغييري، وغاب المؤمنون، فلا بد أن تغيب الدنيا، وتنتهي الامتحانات، ويبدأ الجزاء الأخروي بعد ذلك.
ثالثاً: حالهم مع الناس وحال الناس معهم
فقد وصف النبي ﷺ تلك الحال فقال: “لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون”(15).
أما لماذا يخذلهم خاذل ويخالفهم مخالف؟ فلأنهم يتحملون الأمر الثقيل: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5]. إنهم يحملون وراثة “إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك”. إنهم يحملون رسالة تغييرية للحياة، وليست رسالة توافقية مع الحياة، ولذلك يكثر مخالفوهم “ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي”.
أما من غيّر وانحرف، فقد خرج بانحرافه عن العداء، بقدر ما خرج عن الصراط المستقيم. بل إن كثيراً من هؤلاء المنحرفين كانوا يفاخرون بحسن علاقتهم بمن يجب عليهم شرعاً أن يعادوهم! فخرجوا بذلك عن خط العداء.. عن خط الاستقامة.. عن خط التغيير.. عن خط النبي ﷺ الذي اختطه لهذه الأمة إلى آخر الزمان.. عن الخط الذي به يُحفظ الدين، وبه تُحفظ الأمة، وحين يغيب توشك شمس هذه الأمة أن تغيب؛ بل توشك شمس الحياة الإنسانية كلها أن تغيب.
بين خاذل.. ومخالف
فلماذا إذن ذكر رسول الله ﷺ الخاذل قبل المخالف: “خذلهم أو خالفهم”؟
لأن الخاذل يُحدث من النكاية في القلب أشنع مما يحدث المخالف، فالمخالف يعاديك، يقول لك: أنت مخطئ. فهناك انفصال بينكما منذ البداية. لكن الخاذل يقول لك: ما أحسن هذا الكلام وما أجمل هذه الحياة.. لكن لك أنت.. وليس لي أنا.. هذا عمل عظيم.. لكن قم أنت به.. وادفع أنت ثمنه.. وحدك.. أنا لن أسير معك في هذا الطريق.. أنا لن أتحمل شيئاً من تكاليف هذا التغيير.. أنا لا أريد أن أخاطر بشيء من مكتسباتي ومعاشي الدنيوي.
إذاً ما أكثر الخاذلين، الذين كنت تنتظر أن يكونوا لك ناصرين، لأنهم في الأصل موافقون، وليسوا مخالفين، لكنهم إذا حان وقت النصرة.. خذلوا.. وتركوا.. وباعوا.. لتدفع الطائفة الظاهرة على الحق الثمن وحدها، وتستحق بذلك الشرف والمنزلة وحدها، بأن تكون ذلك الامتداد الكريم للنبي ﷺ في هذه الأمة، بل وفي الناس، بحملها راية الإسلام، وحقائق الدين، وروح التغيير للحياة الإنسانية، لتكون على مقتضى إرادة الله سبحانه وتعالى وشرعه الذي يحبه لخلقه أجمعين.
إن حقيقة الرسالة التغييرية للإسلام، وحقيقة تفاوت الناس في فقهها والعمل بمقتضاها، حقيقة أولية سيظل الناس يفترقون ويختلفون بسببها، فيظل من الناس وراث للنبي ﷺ أتباع للطائفة الظاهرة، أو أئمة فيها.. ويظل من الناس خاذل.. وخاذل.. وخاذل، ويظل من الناس مخالف.. ومخالف.. ومخالف.
خطورة غياب الرسالة التغييرية
وتزداد قيمة وعي هذا الدور الرسالي للنبي ﷺ ولأمته من بعده، إذا استحضرنا خطورة غياب الدور الرسالي التغييري للإسلام، في ظل معركة قدرية مفروضة: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْض﴾ [محمد: 4]. معركة لا يترك فيها العدو باباً يمكن أن يدخل منه إلا ودخل: ﴿ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: 17]. معركة ترى فيها: ﴿شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورً﴾ [الأنعام: 112].
الدين.. بين الصد والتحريف
إن سبيل أعداء الدين مع الدين ليست دائماً سبيلاً واحدة، لكن لهم مسالك مختلفة، والله تبارك وتعالى ذكر لنا ذلك في القرآن، فقال عنهم إنهم: ﴿يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل اللَّه وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ [الأعراف: 45]. فالصد شيء، وابتغاؤها عوجاً شيءٌ آخر.
فهم ابتداءً يصدون عن سبيل الله، فلا يريدون لأحد أن يدخل سبيل الله، ولا يريدون لأحد أن يتمثل وراثة النبي ﷺ، إنهم لا يريدون من الناس أن يسيروا في هذا الطريق ابتداءً، حتى إنه في بداية التسعينات كانت هناك خطة لمقاومة التدين في مصر، وكانوا يسمونها خطة تجفيف المنابع، وهذه تسميتهم وهدفها واضح من اسمها، وهو ألا تنبت الأرض بعد ذلك حركة إسلامية أبداً.
فيأبى الله ولا تجف المنابع بفضل الله، فالله يهدي من يشاء، وليس بيد أحد من البشر أن يمنع هذه الهداية الربانية، مصداقاً لقول النبي ﷺ: “لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم بطاعته”(16). فهي خير أمة، يهدي الله فيها قلوباً، ويصلح فيها رجالاً، ويحدث بهم تغييراً.
فإذا شعروا أنهم لا يقدرون على منع الطوفان، حاولوا أن يحرفوه عن مساره، ليصب في صالحهم، بعد أن كان في طريقه ليقتلعهم فهم: ﴿يَبْغونَها عِوَجاً﴾ أي: يريدونها عوجاً. وأي شيء هذا الذي يطلبون أن يكون معوجاً؟ إن الضمير يعود على سبيل الله، فإن كان لا بد أن يكون هناك سبيل لله، فليكن ذلك، ولكن لتكن تلك السبيل معوجة، لكي نقبلها بيننا.
من أشنع صور التحريف المعاصرة
ويبقى السؤال: كيف يبغونها عوجاً؟! إن من أشنع ما بغوه من العوج خلال العقدين السابقين هو نزع الروح التغييرية من التدين، ومن مفهوم الإسلام عند أهله، فالناس تنتمي للإسلام انتماءً مسالماً لأعدائه.. متعايشاً مع مختلف الظروف.. شخصياً بدرجة كبيرة.. يصلح الإنسان فيه في خاصة نفسه بعض الصلاح، لكنه أبداً لا يكون اهتداءً لنفسه وللناس.. إنه أبداً لا يقاتل على الدين.. إنه أبداً لا يكون تغييرياً في هذه الحياة.. فهو متعايش مع كل صور الباطل والظلم والفساد والانحراف الموجودة.. إنه يعيش بجوارها دون المدافعة الواجبة شرعاً.
قد يسأل سائل: وهل كان الكل إلا متعايشاً بجوارها، لأنه لا يملك دفعها؟!
والجواب في تفريق الشرع، حين فرق بين أن تكون ممتلئاً غيظاً على الباطل، ممتلئاً رغبة في إزالته، وأنت لا تقدر، وبين أن تكون مطمئن النفس، هادئ البال، وأنت تعيش بجواره، فهذا هو التعايش المذموم، وهذا هو العوج والتدين المشوه. فهو تدين يكون عوناً للباطل، ولو بالسكوت والتزيين، ولا يكون عوناً للمظلوم، ولا يكون نصرةً للحق، ولا يكون أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وتغييراً لحياة الناس، وراثةً للنبي ﷺ.
الفارق أثبته النبي ﷺ حين قال: “فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”(17). وفي رواية أخرى: “وذلك أضعف الإيمان”(18). فهناك إذاً حد فارق بين من لم يتكلم لكنه رافض، فرفضه هذا جهاد وتغيير، وعلامة صدق قلبه الرافض أنه إذا استطاع أن يتكلم فسيتكلم، وإن استطاع أن يغير فسيغير، وأنه ليس مطمئناً، ولا راكناً إلى مكاسب الحياة في ظل هذا الوضع الباطل.
أما الذي لا ينكر بقلبه، فهذا لم يبق شيء من الإيمان ليعمله في ظل ما امتحن به، من هذا القدر الرباني، فالإيمان الذي كان مطالباً به هنا هو الإنكار والتغيير، فلما زال إنكار القلب، زال مقابله من الإيمان في نفس الإنسان، وعلامة ذلك أنه يتبدى ركونه للباطل، ولو في فلتات لسان.. يتبدى ولو في مواقف عارضة. فإن الناس يفرقون بين الساكت مع الغيظ، وبين الراكن والمتواطئ، وكل إنسانٍ يفرق بين هذه الحال وبين الحال الأخرى من نفسه.
إنه الطريق
وليس مقصودنا إقامة محكمة جماعية أو فردية للناس، إنما مقصودنا أن نعرض أنفسنا والمسلمين، وأن يخاف كلٌ منا على نفسه، وأن يتبصر: أين هو من وراثة النبي ﷺ؟ وأين هو من ذلكم الامتداد الكريم للطائفة الظاهرة على الحق المنصورة؟ أين هو منهم ومن رسالتهم التغييرية للحياة؟
إنه الطريق الصعب في ظاهره، لكنه الطريق الذي وعد أهله بالنصر: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [الحج: 40]. الطريق الذي وعد أهله بالتثبيت: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [إبراهيم: 27]. الطريق الذي وعد أهله بالهداية ﴿وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلنَا﴾ [العنكبوت: 69]. الطريق الذي وعد أهله برضا الله سبحانه وتعالى والأمان من النفاق في الدنيا، والأمان عند الموت، والأمان في القبر، والأمان يوم الفزع الأكبر كما سماه الله سبحانه وتعالى.
نعم إننا ننتظر يوم الفزع الأكبر، ولكن في ذلك اليوم سيأمن ناس طالما خافوا في الدنيا، وخُوِفوا في الدنيا، هؤلاء هم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].
والموعد عند رب العالمين قريب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حسن: رواه أحمد [4964] عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، وحسنه الألباني في المشكاة [4347].
(2) مسلم [5218] عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
(3) مسلم [244] عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) حسن: رواه أحمد [23788] عن سلمان رضي الله عنه، وحسنه الأرنؤوط في تحقيقه.
(5) مسلم [5218] وقد سبق.
(6) متفق عليه، البخاري [3] ومسلم [257] عن عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين.
(7) شرح النووي على مسلم [13/69] ط. دار المعرفة- بيروت، الخامسة 1419هـ.
(8) مسلم [3641] عن معاوية رضي الله عنه.
(9) صحيح: رواه أحمد [21066] عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه الألباني في المشكاة [229].
(10) صحيح: رواه أبو داود [2138] وأحمد [19484] عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود [2484].
(11) صحيح: رواه أحمد [16299] عن هشام بن عامر رضي الله عنه، وصححه الأرناؤوط في تحقيقه.
(12) صحيح: المستدرك [8704] عن صدى بن عجلان رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع [7875].
(13) مسلم [5350] عن أم شريك رضي الله عنها.
(14) مسلم [5339] عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.
(15) مسلم [3640] عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
(16) المسند (17787)، ابن ماجه (9)، ابن حبان (326).
(17) مسلم [96] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(18) مسلم [95] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.