شاهد وشهيد على طوفان الأقصى
ديسمبر 24, 2024الانتفاضة فجر جديد (1/2)
ديسمبر 24, 2024الشيخ محمد الهادي بن القاضي – رحمه الله
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.
أبو سعيد الخدري راوي هذا الحديث الشريف من الأنصار، نسبة إلى (خدرة) قبيلة من قبائل الأنصار، كان من الحفاظ المكثرين والعلماء المعتبرين، مروياته ألف ومائة وسبعون حديثاً، مات سنة أربع وسبعين، وله أربع وستون سنة ودفن بالبقيع، أورد الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري هذا الحديث في صحيحه عن طارق بن شهاب، قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: “الصلاة قبل الخطبة”! فقال مروان: “قد ترك ما هنالك”، فقال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله ﷺ يقول: “من رأى منكم منكراً فليغيره…” إلى آخر الحديث .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم الخطر في الإسلام، وقد عده الشارع من أهم شُعب الإيمان فهو قطب من أعظم أقطاب الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، هو إكسير معالجة الرذائل ومقاومة مَن فتنتهم الدنيا بمناظرها الجذابة ومظاهرها الخلابة حتى أصبحوا أسارى بید الشهوات، سكارى بمحبة اللذات، وتساهلوا في تطبيق أحكام الدين والعمل بأوامره ونواهيه.
وقد اشتد مسيس الحاجة إلى هذا النوع من الجهاد في الآونة الحاضرة؛ لما انتشر فينا من القبائح والزور، ولما فشا بيننا من التفريط والإهمال، مع أنه أساس حياة الأمة ودونه لا تتوفر لها سعادة ولا يطيب لها عيش، فهو من أوكد الواجبات المفروضة على الأمة وأشدها نفعاً وفائدة، يعود بالخير الكثير على الهيئة الاجتماعية؛ فنفعه راجع للمجموع.
ولذلك كان من الواجبات الكفائية.. إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين لحصول مصلحته بحصوله، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر، وقد يتعين.. كما إذا كان بموضع لا يعلم به إلا هو.
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقد تضافرت على وجوبه أدلة الشرع من كتاب وسنة وإجماع، ولا عبرة بمخالفة الرافضة في ذلك، فخلافهم فيه خرق لإجماع المسلمين؛ كما أفصح عن ذلك إمام الحرمين.
وهو لا محالة من النصيحة التي هي الدين؛ كما في حديث سيد المرسلين، ولو أردنا في هذه العجالة جمع ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار المروية.. لطال بنا القول، ولكن ما لا يُدرَك كله لا يُترك كله..
- فمن الآيات الدالة على وجوبه، قوله تعالى: ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةࣱ یَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَیۡرِ وَیَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٤]، فإن قوله تعالى ﴿وَلۡتَكُن﴾ أمر، والأمر ظاهِره الوجوب؛ كما هو مقرر في الأصول. وفي الآية زيادة على ذلك: بيان أن الفلاح منوط به لما فيه من حصر الفلاح فيهم، وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين وأنه إذا قامت به أمة سقط الوجوب عن الآخرين، إذ لم يقُل: كونوا كلكم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، بل قال: ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةࣱ﴾ فإنه يعطي بظاهره أنه مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الباقين. واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين له. وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون عم الحرج كافة القادرين.
- ومن الأخبار الدالة على وجوبه قوله ﷺ: “لَتأمرنّ بالمعروف ولَتنهَوُنّ عن المنكر، أو لَيُوشكنّ الله يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم”.
- ومنها حديث (مسلم) الذي صدّرنا به، وهو قوله ﷺ: “من رأى منكم منكراً فليغيره…” الحديثَ. فقوله: “من رأى منكم” يحتمل أنه من رؤية البصر والعين، ويقاس عليه ما علمه لأن المقصود دفع مفسدة المنكر، ولا فرق بين ما أبصره أو علِمه ولم يرَه، ويحتمل أنه من رؤية القلب، أي من علم منكم منكراً، فهو أعم مما أبصره، وهو أشبه بالنظر، وإن كان لفظ “رأى” ظاهراً في البصر.
شرح حديث: “من رأى منكم منكراً…”
والمنكر: ما أنكره الشرع وكرهه ولم يرضَ به، فيدخل فيه المحرَّم والمكروه، وفي معناهما ترك الفرض والسُّنة المؤكدة.
وقوله “فلغيره”: أمر إيجاب؛ كما في آية ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةࣱ یَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَیۡرِ وَیَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ﴾، ولا يخالف ذلك قوله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا یَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَیۡتُمۡۚ﴾ [المائدة: ١٠٥]؛ لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية الكريمة: أنكم إذا فعلتم ما كُلفتم به لا يضركم تقصير غيركم، على حد قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ﴾ [الأنعام: ١٦٤]، وإذ كان الأمر كذلك فمما كُلف به: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه؛ فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول.
قال العلماء: ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه؛ بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
قالوا: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً لما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به، وعليه النهي وإن كان ملتبساً بما يَنهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، وأن يأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدها كيف يباح له الإخلال بالآخر؟ أجل.. الأكمل أن يكون عاملاً ليكون تأثيره كاملاً، وعليه يُحمل ما ورد: “عظ نفسك فإذا اتعظت فعظ الناس”. وقول القائل: وغير تقي يأمر الناس بالتقى*** طبيب يداوي الناس وهو مريض
بمن يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات؛ بل هو لعموم المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم على ذلك.
وإنما يأمر وينهى مَن كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، فإن كان من الأمور التي أحكامها ظاهرة مثل: الصلاة والصوم والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك، فكل المسلمين علماء بها، فكلهم يأمر وينهى، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال وما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام فيه مدخل وليس لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء خاصة.
والعلماء إنما ينكرون ما وقع الإجماع عليه، وأما المختلَف فيه فلا إنكار فيه لكونه جارياً على قول مجتهد، فعلى القول بأن: “كل مجتهد مصيب” فلا إشكال، وهو مختار جماعة من المحققين، وعلى أن “المصيب واحد”؛ فالمخطئ غير متعين والإثم موضوع عنه بإفراغ كامل الوسع.
مراتب تغيير المنكر
وقوله في الحديث: “فليغيره بيده فإن لم يستطع، فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه”، يعني: يجب عليه التغيير بيده، وذلك إن توقف التغيير عليها؛ ككسر أواني الخمر وآلات اللهو، ومثل منع الظالم من ظلمه، وتلك وظيفة الحكام؛ لأنهم الهيئة التنفيذية التي تقدر على هذا، وقد يتوجه ذلك إلى كل منا فيما إذا رأى ولده يشرب الخمر مثلاً؛ فهو قادر على إراقته بما له من سلطة عليه، أو رأى زوجته تتبرج بزينتها وتخرج من غير ضرورة شرعية، فإن في مقدرته منعها بما له من قوامة عليها.
وتلك هي المرتبة الأولى وهي أقوى المراتب في الحديث، فإن لم يستطعها بأن خشي إلحاق ضرر ببدنه أو ماله فلينتقل إلى:
المرتبة الثانية: وهي الإنكار والتغيير باللسان، بأن يقول قولاً يُرجَى نفعه؛ فيعطي كل واحد من الناس موعظته اللائقة به وعلى حد الحكمة والموعظة الحسنة وقوله عز وجل: ﴿ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ﴾ [فصلت ٣٤]، فقد يُدرك باللين ما لا يدرك بالشدة، وقد يدرك باللسان ما لا يدرك بالسيف، وقد قالوا إنه ينبغي أن يبتدأ بالرفق واللين، ثم بالأشد فالأشد، على سبيل التدريج؛ فإن النصيحة مقدَّمة على الفضيحة، وقال الإمام الشافعي: “من وعظ أخاه سراً نصَحَه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه”.
وتغيير المنكر باللسان ليس خاصاً بالعلماء أو الحكام، بل يشمل كل مكلف يمكنه الإنكار باللسان ما لم يخش ضرراً أكثر، وإلا فليس له الإنكار باللسان..
ولينكر بقلبه وهو قوله ﷺ في الحديث: “فإن لم يستطِع فبقلبه”.
ومعنى الإنكار بالقلب: أن يكره ذلك ويبغضه، ويقيم دليلاً على هذا البغض كإهمال المرتكب للمنكر أو احتقاره إن أمكن، وليس للإنكار بالقلب الذي هو أضعف مراتب الجهاد معنى إلا هذا، وإلا كان شريكاً للمرتكب إذا كان يجلس معه أو يغض النظر عن فعله أو يمدحه بلسانه، لأن ذلك نفاق!
ويظن بعض العامة أن معنى الإنكار بالقلب مجرد قوله إذا رآه وهو يرتكب المنكر: “اللهم إن هذا منكر لا يرضيك”، ولو جلس معه أو أعانه أو شاركه في شيء! وهذا خطأ درج عليه الناس، فأضعف مراتب الإيمان التي ليس بعدها من الإيمان حبة خردل هي إعلان هذه الكراهة والإحساس تماماً بأن القلب هو الذي يملي على اللسان هذا القول أو مثله؛ ولذلك قال ابن مسعود: “هلك مَن لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر”. أي: لأن ذلك فرض لا يسقط عن أحد بحال والرضا به من أقبح المحرمات، ودليل على أنه لا إيمان، وليس هذا التغيير بالقلب في الحقيقة تغييراً ولكنه هو الذي في وسعه.
ومعنى كونه “أضعف الإيمان”: أنه أقل ثمرة وأدنى نتيجة، وإنما كان أضعفه لأنه لم يبقَ وراء هذه المرتبة مرتبة أخرى له، كما قاله القرطبي.
وقد قال ﷺ: “ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فـمَن جاهدَهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”.
حُرمة التجسس بحجة تغيير المنكر
هذا ويَحرُم على المؤمن أن يتجسس على الناس لينكر عليهم، واقتحام الدور بالظنون؛ فإن التجسس حرام منهي عنه ولا يتوصل للطاعة بحرام، بل إن عثر على منكر غيّره.
نعم، لو أخبره عدل ثقة بأن منكراً يُرتكب في جهة كذا وأنِس من نفسه القدرة على إزالته على الحد الذي بسطنا فلا بأس بذلك؛ عملاً بعموم لفظ “رأى”.
قال الماوردي: “ليس له أن يقتحم ويتجسس، إلا أن يخبره مَن يثق بقوله أن رجلاً خلا برجل ليقتله، أو امرأة ليزني بها؛ فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس ويتقدم على الكشف والبحث، حذراً من فوات ما لا يستدركه”.
قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله: “واعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبقَ منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جداً، وهو باب عظيم.. به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عمّ العقاب الصالح والطالح، فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضى الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب، فإنّ نفعه عظيم، ولا يهاب من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله يقول: ﴿وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥ﴾ [الحج: ٤٠]“.
قال هذا القول ناعياً على أهل زمانه في القرن السادس للهجرة، فكيف بنا أهل القرن الرابع عشر؟!
فليس لنا إلا أن نتمثل بقول من قال من ذوي الأحوال :
هذا الزمان الذي كنا نحاذرهُ في قول كعب وفي قول ابن مسعود
إن دام هذا ولم يحدث له غِيَرٌ لم يُبك ميت ولم يُفرح بمولود
فاللهم يقظة شاملة وثباتاً على دينك القويم!
والسلام على من اتبع سنة سيد المرسلين.