إنقاذ القلب قبل رمضان
مايو 4, 2024خضّبوا بالدم شوارع أرض الإسراء
مايو 4, 2024أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى..
من الصعب على الإنسان أن يتحدث عن نفسه وعن إخوانه، فيبدو كأنه يتحدث من ضعف، أو يصدر عن ضعف، فالحركة الأسيرة الفلسطينية بكل أنواعها وأطيافها هي مجموعة من الناس اختاروا أن يقفوا في وجه هذا الاحتلال البغيض.
والأسرى على ثلاثة أقسام:
- قِسمٌ: كانوا قد نشطوا في الانتفاضات، وفيما بين الانتفاضات، فهم أصحاب الأحكام العالية الذين فاتهم ركب الحياة وقطار الحياة، والذين لا يُنظر إليهم إلا على أنهم قتلة أو إرهابيون، مع أن كل القوانين والمواثيق الدولية تكفل للإنسان أن يدافع عن وطنه وعن أرضه وعن عِرضه إذا وقع عليها الاحتلال.
- والقسم الثاني: هم أصحاب الأحكام الخفيفة والمتوسطة، وهؤلاء أيضاً تجد منهم مَن يمضي زهرة شبابه، ويدخل جيل الشيخوخة الأول وربما الثاني وهو في السجن.
- وأما النوع الثالث: فهم إخوة كانوا مع الصنف الأول عايشوه في سجونه، وهم المسؤولون عن الصنف الثاني، وهم الإخوة الذين يُعتقلون اعتقالًا إداريًا.
وإذا أردنا التفصيل: فإن هذا الاعتقال وهذه السجون أصبحت أداةً للتعذيب، ومع أني أمثل شريحة من الأسرى ترفض أن نطرح قصتنا بمظلومية، أو أن نجعل الناس ينظرون إلينا بعين العطف، أو نستدر عواطفهم، أو نضحك في وجوه الناس، ونصيح: نحن مظلومون.
الظلم يكرهه الإنسان أينما كان، الظلم ليس له دين، الظلم ليس له مكان، الظلم غير مرتبط بأي أحد، ومع ذلك استجبت لهذه الدعوة أن أتحدث عن الأسير كإنسان حي ميت أسميه “الحيت”، وهي جمع بين كلمة الحي وكلمة الميت.
الأسير إذا غاب لم يُفتَقد، وإذا حضر بقي ساهرًا ليله خائفًا من كل حركة، ولا يعني ذلك الُجبن، ولكنه يعني أنه يأتي إلى حياة الناس العادية ربما كزائر، أو قل كضيف خفيف، ثم بعد ذلك يعود إلى السجون.
الإخوة الأسرى يعانون من كل مشكلة تمر على البشرية، بل لم تمر على البشرية مشكلات من التي يعانونها، فلا يمكن لإنسان عاقل أن يتخيل أن يكون هناك مريض مُدنِف يوشك أن يموت، ولا يقدَّم له إلا العلاج على طريقة السجان، وأنا ضد أن يقال إنهم لا يُعطون إلا الأدوية البسيطة مثل (البارستامول)، أو الأدوية التي تؤدي إلى تخفيف الآلام، نحن شهدنا على أدوية كثيرة ليس لها اسم، ومن طبيعة تخصصي وتخصص بعض إخواني، نعرف أسماء الأدوية وماذا تؤدي من دور في جسم الإنسان، ولكن إخواننا الذين يقبعون في سجن الرملة وفي أمكان كثيرة، والأسرى الذين يمضون الفترات الطويلة ما بين الفحص التصنيفي لأمراضهم، وما بين العلاج، هؤلاء يأخذون أدوية لا نعرف لها اسمًا، حتى في جائحة الكورونا كان أول من دفع الثمن هم الأسرى.
الأسرى منذ عام ممنوع على أهلهم الزيارة، الأسرى ليس لديهم ملابس، ليس من باب أنهم غير قادرين على شراء الملابس أو اقتنائها، السبب بسيط، جائحة الكورونا أثّرت حتى على زيارات الأسرى، وهناك اكتظاظ في السجون، مع أن المحتل يتفاخر بأنه أول بلد قام بإجراء التطعيمات والتحصينات لشعبه، ومع أنه أعطى جزئيًا الأسرى أفضل لقاح -كما يُقال- إلا أنه عندما وصلت الكورونا إلى السجون وجدنا أننا سنفقد الكثير من إخواننا، لأنهم أمضوا عشرات الأعوام في السجون لا يُنظر إليهم، وإذا تذكّرهم الناس يتذكرونهم من باب عاطفة عابرة.
جحيم الاعتقال الإداري
النقطة الأخيرة التي أودّ الحديث عنها هي نقطة الاعتقال الإداري، وهذا الاعتقال هو سيف مسلّط على رقاب الناس، هذا الاعتقال بكل بساطة أن تؤخَذ من بيتك، أن تُنتزع من أهلك، ويُزج في السجن دون تهمة، وأول من اخترع هذا الاعتقال هو الاحتلال البريطاني، ونحن لا نقول الانتداب البريطاني، بل كان احتلالًا ورّث احتلالًا، وكلا الاحتلالين أدى إلى ما نحن فيه.
هل يُعقل إنسانيًا وهل يعقل منطقيًا أن يظل إنسان مسجوناً ما يقارب العشرين عامًا دون تهمة؟ أن يخرج إلى أهله فيجد صغيرهم قد كبر، ويجد كبيرهم قد مات؟ لا يحضر لا دفنًا ولا فرحًا، ولا يرى هذا ابن من؟ ولا هذا ابن من؟
ينتظر هذا الأسير كل عام أن يُعتقَل، وإذا اعتُقل لابد أن يمضي أعوامًا طويلة معتقلاً، ولابد أن يستهلك كمية كبيرة من أعصابه أثناء هذا الاعتقال، لأن هذا الاعتقال يُجدَّد كل عدة شهور، فبالتالي أن تدخل معركة الاعتقال كل مرة من جديد.
من المهم جداً أن تعلموا أينما كنتم أن الأسير لا يتسوَّل عاطفة، ولا يطلب تعاطفًا، ولا يطلب أيضًا أن ينال شيئًا من حطام الدنيا كجائزة، ولكن الأسير من حقه على كل مسلم، ومن حقه على كل حر وشريف في هذا العالم أن يُنظر إليه نظرة عز.
الأسير الذي يدرك جيداً أنه سيموت مرة من المرات إما أثناء اعتقاله، وإما بعد اعتقاله، وإما في سجن يُسمى زورًا: سجن الرملة، وهو عبارة عن مقبرة فعلية للمرضى.
ومع ذلك نطالب أن يُنظر إلينا نظرة أخرى، لا نستدر عطفًا، لا نطلب من الناس أن يتركوا حياتهم، ولكن أن يعلموا أن لهم إخوانًا شارفوا على الأربعين عامًا ولم يخرجوا من السجون، هؤلاء من حقهم علينا أن نعرفهم على الأقل، أن نعرف أن إنسانًا قاوم قبل أربعة عقود لم يخرج من سجنه إلى الآن، وهذا عيب، ولكن هذا العيب ليس على قوم الأسير، وليس على شعب الأسير، هذا عيب على كل مسلم في كل العالم، لأنه يعلم أن الرسول ﷺ قال: ” فكوا العاني”.
والعاني أصبح رمزًا للمعاناة، العاني أصبح يعد خطواته إذا مشى، العاني أصبح يخاف من أن ينظر إليه إخوانه على هذه الأرض، وفي هذه الحياة الدنيا على أنه طالب مجد أو شهرة، الأسير أرقى من أي شهرة، والأسير فوق كل اعتبار.
ومع ذلك نشكر هذه المبادرة، وأقول لكم: جزاكم الله خيرًا أن سألتم عن إخوانكم، وإن شاء الله يكون لنا لقاء في بيت المقدس وقد حُرر من دنس هذا المحتل، وأن يجمعنا سبحانه وتعالى في فردوسه ونعيمه إن لم نتمكن من ذلك!
﴿سُبۡحَـٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا یَصِفُونَ * وَسَلَـٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِینَ * وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الصافات: ١٧٨-١٨٢].
ــــــــــــــــــــــ
* كلمة للأسير في سجون الاحتلال الصهيوني: مروان أبو فارة، في يوم الأسير، رابطة الأسير الفلسطينية في أوروبا (موقع إلكتروني: فيس بوك، أبريل 2021م، وقد أعيد اعتقال أبو فارة مرة أخرى بعد الإفراج عنه في ٢٠٢١.