وصية شهيد في إصلاح القلب
أكتوبر 8, 2024﴿وَجَعَلنَـٰكُم أَكثَرَ نَفِیرًا﴾
أكتوبر 8, 2024د. ناصر العمر – فك الله أسره –
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد اشتهرت بين الناس مقولة مأثورة نصها: “مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”. وهذه الجملة رُويت مرفوعة إلى النبي ﷺ بسند ضعيف، لكنها تضمنت حقاً في الجملة، كما قال رسول الله ﷺ في حديث النعمان بن بشير عند الشيخين: “مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد.. إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”1.
ولما كان هذا مثل المؤمنين حق الإيمان، جاءت النصوص بنزع وصف ذلك الإيمان عن من لم يحقق ذلك المثل في مواضع كثيرة، من نحو قوله ﷺ: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”2. وقد جعل الإمام أبو داود السجستاني هذا الحديث أحد أربعة أحاديث عليها مدار الإسلام.
والولاء بين المؤمنين من أوثق عرى الإيمان ومن مقتضياته العناية بشؤون المسلمين، فالمسلم أخو المسلم في أي أرض كان، وبأي لغة نطق، وكيف كان شكله أو لون بشرته: “إنما المؤمنون إخوة”، والأخ يجب أن ينصر أخاه المظلوم، ويعتني بشأنه، ويسأل عن أخباره، ويدعو له، وقد شرع الله تعالى لنا الدعاء للمؤمنين والمؤمنات في مقامات كثيرة، أجلّها مقام الصلاة؛ كقولك: “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين”، قال القفال: “ترك الصلاة يضر بجميع المسلمين؛ لأن المصلي يقول: اللهم! اغفر لي وللمؤمنين المؤمنات، ولا بد أن يقول في التشهد: “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين”. فيكون مقصراً في حق الله، وفي حق رسوله، وفي حق نفسه، وفي حق كافة المسلمين؛ ولذلك عظمت المعصية بتركها”.
والمقصود أن الشريعة أتت بتشريعات كثيرة -ليس هذا مقام عرضها- تنمي الإخوة الإيمانية وتشيع مقتضياتها بين المسلمين، والتي منها الاهتمام بأمرهم.
وقد دأب أعداء الأمة على الجد في محو أخوة الإسلام من قلوب بنيه، وإماتة الإحساس بها في شعور الأمة، وتأتى لهم بعض ذلك بعد تمكنهم من وضع الفواصل الجغرافية بين الإخوة، وإثارة النعرات الجاهلية بين أقاليم الإخوان، حتى أصبح بعض المسلمين يرى إخوة له مسلمين عبر وسائل الإعلام وقد مزقهم العدو الكافر فما تهتز له شعرة! بل قد ترى في الوسيلة الإعلامية نفسها فوق الخبر المأساوي والصورة صورة أخرى ذات إغراء وجاذبية إلى ما لا يحبه الله ويرضاه! وخلفهما خبر رياضي تحمر أنوف المحللين وسائر المختلفين فيه!
وربما عرض التلفاز أشلاء القتلى وصور الجرحى ودماءهم تثعب، ثم فاصل غنائي! بعده خبر رياضي تافه يشغلون بذلك الأمة عن مآسي إخوتهم.
هذا إذا لم يفاجئك ظهور أحد المنافقين معنفاً الموتى وملقياً باللائمة عليهم، ناصراً لأعدائهم!
أما المؤمنون الصادقون فتعني لهم دماء إخوانهم الكثير، ذكر ابن حبان في السيرة خبر فتح نهاوند في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان في وصية عمر لأهل الكوفة قوله:
“سلام عليكم أما بعد: فقد استعملت عليكم النعمان بن مقرن المزني، فإن قُتل النعمان فعليكم حذيفة بن اليمان العبسي، فإن قُتل حذيفة فعليكم عبد الله بن قيس الأشعري أبو موسى، فإن قُتل أبو موسى فعليكم جرير بن عبد الله البجلي، فإن قُتل جرير فعليكم المغيرة بن شعبة الثقفي، فإن قُتل المغيرة فعليكم الأشعث بن قيس الكندي…”
فلما فتح الله على المسلمين، وجاء البشير إلى عمر سأله، قال:
“فما فعل النعمان بن مقرن”؟ قال: استشهد يا أمير المؤمنين. فبكى عمر ثم قال: “يرحم الله النعمان” ثلاثاً .ثم قال: مه! [يعني يستحثه لذكر مَن مات غير النعمان]. قال: لا والذي أكرمك بالخلافة وساقها إليك! ما قُتل بعد النعمان أحد نعرفه. فبكى عمر بكاء شديداً ثم قال: “الضعفاء لكن الله أكرمهم بالشهادة”.
وقد صح عنه رضي الله عنه استغفاره للمؤمنين في قنوت رمضان؛ كما روى ابن خزيمة وغيره. وأصح من هذا وأجود ما ثبت عن رسول الله ﷺ في الصحيحين في مقتل القراء السبعين ببئر معونة، قال أنس: فما رأيته [يعني النبي ﷺ] وجد على أحد ما وجد عليهم3.
والمقصود أيها الإخوة:
من الدروس التي نستفيدها من الأحداث المكروهة التذكير بهذه المعاني، وترجمتها إلى واقع محسوس في كيان الأمة، تأثُّر فعَمَل، وليس العمل هو البكاء، لكن البكاء قد يُغلب المرء عليه فيكون تعبيراً إنسانياً عن المشاركة في المصاب، والمقصود العمل الإيجابي؛ كإقامة الجمعيات التي تُعنَى بشؤون المسلمين، فإن لم نستطع فبدعم القائمة منها، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليتهم نفسه!
ــــــــــــــــــــــ
* ناصر العمر، مقال: إنما المؤمنون إخوة، موقع إلكتروني: المسلم، 4 صَفَر 1431.
1 البخاري 5665، ومسلم 2586.
2 البخاري 13، ومسلم 45.
3 البخاري، 2999.