
الافتتاحية..
يوليو 2, 2025
قوات الاحتلال تقصف مدرسة مصطفى حافظ بغزة
يوليو 3, 2025محمد إلهامي – (رئيس التحرير) وعضو الأمانة العامة للهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
ما زلت بعد عشرة أيام من استشهاد الشيخ أبي محمود نائل بن غازي لا أتمالك أعصابي لأكتب عنه كتابة مستقرة مطمئنة مفهومة، وفي كل لحظة كهذه أتذكر حكمة القائل: إنما الكلمات وسائل تعبير عن مشاعرنا الصغيرة، فأما المشاعر الكبيرة فالكلمات دونها!
وقد عبَّر نبي الله موسى عليه السلام عن هذا المعنى حين كُلِّف بمخاطبة فرعون ودعوته، فقال عليه السلام ﴿وَیَضِیقُ صَدۡرِی وَلَا یَنطَلِقُ لِسَانِی﴾ [الشعراء: 13]، وطلب مؤازرة أخيه هارون لكونه فصيحاً ﴿ وَأَخِی هَـٰرُونُ هُوَ أَفۡصَحُ مِنِّی لِسَانࣰا فَأَرۡسِلۡهُ مَعِیَ رِدۡءࣰا یُصَدِّقُنِیۤ إِنِّیۤ أَخَافُ أَن یُكَذِّبُونِ﴾ [القصص: 34]، وقد أجابه الله لسؤاله ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِیكَ وَنَجۡعَلُ لَكُمَا سُلۡطَـٰنࣰا فَلَا یَصِلُونَ إِلَیۡكُمَا بِـَٔایَـٰتِنَاۤ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلۡغَـٰلِبُونَ﴾ [القصص: ٣٥]. فبهذا السلطان وبهذه المؤازرة استطاع موسى عليه السلام أن ينطق بالدعوة ويبينها وأن يجابه فرعون!
وأما من لم تسعفه الفصاحة، ولم يكن له من الله مثل هذا السلطان.. فما يستطيع أن يقول ما في نفسه.. وهذه حالي الآن، وحال هذه السطور!
(1)
وأبدأ بنفسي..
فإني في مقعد القاعدين أكون في حال من الحرج الشديد إذ أكتب عن المجاهدين.. وما أدراك ما حال القاعدين إلى حال المجاهدين، إنما مثله ومثلهم كالذي يشير إلى الشمس وإلى القمر، فأين المشير من المـُشار إليه؟!! وما قيمة أصبع يرتفع ولسان يهتف إلى جوار النور الطالع والضياء المشرق؟!
ينبغي للحياء أن يشملني، ولا بأس أن أقول صريحاً: ينبغي للعار أن يجللني، إذ أكتب عن المجاهدين والشهداء.. ولكن: هل لي أن أمتنع؟!
هل أستطيع إذا طلب مني إخواننا المجاهدون في الإمارة الإسلامية شيئا أن أمتنع؟!
فهل إن كان الذي طلبوه هو الكتابة عن أخي الشيخ الحبيب نائل بن غازي.. هل لي أن أمتنع؟!
ثم هل إن كان المطلوب في المقدور.. هل يجوز لي أن أمتنع؟!
طلبٌ يطلبه مجاهدون، أن أكتب تقدمة عن شهيد، والكتابة أمر مقدور.. فما نفعي في الحياة إن امتنعت؟!
لَأَن أوصف بقلة الحياء وأنا أتقدم إلى المقامات الرفيعة، أحب إليّ من أن أوصف بالامتناع عن إجابة طلب السادة المجاهدين في شأن السيد الشهيد! وما يجوز لعبدٍ إذا قيل له اجلس مع السادة إلا أن يقول: سمعاً وطاعة.. حتى وإن عُدَّ جلوسه في تجاوز الحد، فالامتثال خير من الأدب..
(2)
وأثني بقول القائل: لا يعرف الفضل لأهله إلا ذوو الفضل!
ما مرت عشرة أيام على استشهاد الشيخ الحبيب أبي محمود، إلا وقد جَهَّز إخوته في الإمارة الإسلامية هذا الكتاب، وذا أمرٌ لم يبلغني أنه قد صُنِع مثله في ديار أخرى، وما في ذلك من عجب.. فالجهاد رحم بين أهله، وأهل الفضل أعرف بأهل الفضل..
وكما كان الشيخ أبو محمود منفعلاً مع قضايا المسلمين كلها، من أفغانستان إلى الشام إلى مصر إلى غيرها، فقد هيأ الله له من يجمع كلامه ليُنشر من بعده، فيتصل عمله ويمتد فضله ويتسع أثره وينتشر نوره، ويكون -إن شاء الله- من العلم النافع الذي يزداد به ميزان حسناته ويثقل على كرّ الأيام ومرّ العصور.
لقد اتصل الفضل في هذا الكتاب بين الشيخ سعد الله البلوشي، سفير الإمارة الإسلامية في إندونيسيا، وبين أبي محمود نائل بن غازي.. وما هذا الاتصال إلا صورة مصغرة من اتصال الفضل والجهاد بين أنحاء الأمة وأرجائها.
إن انتصار المسلمين في مكان هو انتصار لهم في كل مكان، ليس على مستوى المشاعر وحدها، بل على مستوى الواقع والحقيقة..
ولو قَدَّرنا أن انتصار المسلمين في مكان لا يؤثر على غيرهم إلا في باب المشاعر فحسب فإن ذلك أثر عظيم ليس بالهيّن، فإن أحوج ما تحتاج إليه أمة مهزومة مستضعفة مغلوبة أن تنتعش مشاعرها ويستيقظ الأمل فيها وتثور صدورها وتزهر قلوبها، فإنما ذلك أول السعي وأول العمل وأول النصر!
وكم من يائس ومحبط وكئيب أشرقت نفسه وانبعث عاملاً مجاهداً حين رأى غيره قد حاول ونجح؟! وكم من خائف جبان أقدم على العمل الجريء المدهش حين رأى مقداماً جريئاً يقتحم ويتقدم؟! إن جُلَّ الحياة مشاعر! ولقد أوصانا نبينا بالانتباه لهذا، فقال: “لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق”، وأمر بالصدقة ولو كانت “شِقَّ تمرة”، وكلها أمور تؤثر في المشاعر لا تغير من الحقائق، وهو ﷺ الذي قال: “إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق”.
فالمشاعر وحدها أمرٌ عظيم.. وهي في الأمة المكلومة المهزومة أعظم وأعظم!
على أن تأثير انتصار الأمة في مكان لا يتوقف عند المشاعر وحدها، ولكن يتعداه إلى الحقائق.. وإن انتصار المسلمين في أفغانستان ضد هذا الحلف الدولي الضخم الذي اجتمعت فيه قوى العالم لهو تغير في ميزان القوة، وتغير في وضع الهيبة والثقة، وتغير في خريطة العالم السياسية على الحقيقة. إن كل عاملٍ لهذا الدين في مكان ما قد تأثر بانتصار أفغانستان.. إن قدرة الشعب الفقير المحاصر ومقاتليه البسطاء ذوي الصلابة تجعل النصر في كل مكان أقرب من طالبه، وكذلك فإن انسحاب عدو مثل أمريكا وحلفائها من أفغانستان ليجعل كل عدو غيرها أهون منها!
ومثلما ألهمت أفغانستان غيرها، فقد فعلت غزة بطوفانها المبارك، وفعلت سوريا بانتصارها على الطاغية بشار الأسد، وتلك ثمرات نجني بعضها، وسنجني بعد قليل بعضها الآخر.. فإن التفاعل مستمر، وإن الأمة تشاهد وترى، وهي تستوعب وتختزن!
وما من مستحيل بعد أن انتصرت طالبان على أمريكا!
وما من مستحيل بعد أن صفعت غزة إسرائيل أقوى صفعة في تاريخها، ولا تزال صامدة بعد ستمائة يوم في معجزة عسكرية لا مثيل لها بحساب ميزان القوة!
وما من مستحيل بعد أن سقط نظام بشار المدعوم بطائفته وكتائب الشيعة وإيران وروسيا، بل لقد سقط في لحظة يعاد فيها تقبله في السياسة العربية الإقليمية!
ما من مستحيل بعد هذا كله.. لقد فعلت هذه الأمة المستحيلات!
ولكنه أمر لا يعرفه غير المجاهدين العاملين.. ولا يستفيد منه ويجني ثمرته إلا الصادقين المطمئنين!
(3)
هذه أمة تفعل المستحيلات.. نعم! ولكنها حين تفعله تقدم إلى الله صفوتها وطليعتها ونخبتها شهداء باذلين، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، واشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة!
مثلما تغنى أبو محمود بالملا محمد عمر يوماً ما، فها هو واحد من أبناء الملا محمد عمر يتغنى بأبي محمود ويجمع كلامه..
وأبو محمود ما أبو محمود.. وما أدراك ما أبو محمود؟!
إن في نفسي وَجَلًا قديماً وحياءً أن أبادر بالكلام مع المجاهدين، فكيف بأهل العلم منهم وشيوخهم؟! وما أتذكر أني بادرت إلى ذلك مع أحد، فكل من أعرفهم من هؤلاء إنما كانت البداية منهم، فضلاً منهم ومنة وتكرماً..
وهكذا عرفتُ أبا محمود!
كنت أرمقه من بعيد حتى ابتدأ بالمراسلة.. ومن ها هنا اتصل أمري بأمره!
إن هذا الرجل الذي ترونه يخطب على المنابر كأسدٍ هصور، يرعد ويبرق، يهدر وينذر، تراه في المراسلات والاتصالات الهاتفية طيفاً من الحياء، ونسيماً من الأدب، وسلسلاً من الرقة، وروحاً من الصفاء!
وإن هذا الأصولي القوي، والكاتب البليغ، واللسان الفصيح، تراه إن اقتربت منه وتحاورت معه آية في التواضع، ومَثَلًا في خفض الجناح، وطيب المعشر!
ولقد كلمته في غضبه، بل في شدة غضبه، فكان يُلَمِّح ولا يُصَرِّح، وكان يتألم ولا يحب أن يتكلم، ودار الحديث بيننا حول عدد من الناس تخصصوا في الحط من شأن المقاومة وكانوا عليها لسانًا سليطاً حديداً، فما جاوز الرجل حدّ قول كلمة لا تليق به!
وعلى قدر ما كان قوياً في ردّ الباطل ودحض شبه المشككين كان رؤوفاً رحيماً بالأمة..
وقد شاء الله أن يُخرج منه أحسن ما فيه في آخر أيامه.. فلقد كتب كثيرًا عن “التربية بالأحداث”، فمزج فيها بين علمه بالأصول، وعلمه بالتربية، وعلمه بالجهاد، وعلمه بالسياسة.. فردَّ على الغلاة والجفاة، وردَّ على الخوارين والمثبطين معًا. فكأن هذا الطوفان كان التنور الذي أخرج من أبي محمود أنضج ما فيه وأطيب ما فيه.
وكانت آخر مكالمة لي معه قبل يومين من استشهاده، ففي ذلك اليوم قُصِفت خيمته لكن أصيب فيها بعض أهله وجيرانه، وأشيع خبر استشهاده.. ولحيائي منه وخوفي عليه تتبعت الخبر من غيره حتى عرفت بسلامته ولم أراسله، فاتصل بي في هذه الليلة يطمئنني على نفسه ويخبرني بمن أصيب من أهله وجيرانه.. فإذا بالذي هو في حومة الموت وفي غمرة الكرب يطمئنني أنا، فأي فضل وأي رفعة وأي مقام؟!
فلما عرفتُ أني منه قريب إلى هذا الحد، وسمعت نبأ استشهاده، بادرت فراسلتُه مطمئناً عليه، وهي الرسالة الوحيدة التي لم يرها، فلقد صحَّ الخبر عنه هذه المرة، واستشهد وارتقى مع أهله وولده إلى الجنة بإذن الله..
وإن ربنا الرؤوف الرحيم قد اختار لأبي محمود ميتة لو أن الناس يختارون ميتاتهم لما اخترتُ سواها، ولكنها دالة بإذن الله على مقامه عند الله.. فقد اجتمع له شرف المعركة وشرف الزمان وراحة البال.. فانظر وتأمل!
فأما شرف المعركة فلقد ارتقى أبو محمود شهيداً في معركة هي من أخلص المعارك وأوضحها وأسطعها، معركة لا يمتري فيها مؤمن، ولا يتشكك فيها عاقل.. معركة حق وباطل! ثم هي معركة في أكناف بيت المقدس.. مسرى النبي ﷺ وموضع صلاته إماماً بالأنبياء، فهي ليست مجرد قطعة من أرض الإسلام، بل هي في أرض الإسلام البقعة المقدسة المباركة! ثم هي معركة مع أعداء الله، وأعداء ملائكته، وأعداء رسله الذين عُرفوا بقتل الأنبياء، وهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا!
وأما شرف الزمان فقد ارتقى في يوم الجمعة، وهو خير أيام الأسبوع.. ثم كان يوم جمعة من الأيام العشر من ذي الحجة التي هي أفضل الأيام عند الله.. والغالب عليه أنه مات صائماً، فما كان مثله ليُفطر في أيامٍ يعرف فضلها، وفي حالٍ من المجاعة التي تسود غزة حتى يضطر فيها إلى الصوم من تعود الفطر!
وأما راحة البال فقد ارتقى هو وأهله جميعاً.. هكذا في لحظة واحدة، نُقلوا من دار الشقاء إلى دار السعادة بإذن الله تعالى. لم يبق منهم من يحزن على من مات! ولم يخشى أحدٌ ذهب على من بقي.. وتلك لعمري ميتة يحبها كل عامل -ولعله كل عاقل- في هذا الزمان!
رحم الله الشيخ الشهيد أبا محمود نائل بن غازي مصران، ولا حرمنا الله أجره ولا فتننا بعده، وغفر لنا وله.. اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها.. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون!
وحفظ الله الشيخ سعد الدين البلوشي، وجعله عمله هذا في ميزان حسناته..
وأكرمنا وإياكم بالشهادة في سبيل الله، مقبلين غير مدبرين ولا مبدلين ولا خزايا ولا مفتونين..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
محمد إلهامي
اسطنبول
15 ذي الحجة 1446ه
11 يونيو 2025م