
رَمضَان… كَمْ فِيْكَ مِنْ مِنَحِ
أبريل 15, 2025
بيان حول المواقف المشرفة للمالديف وبنغلاديش في نصرة فلسطين
أبريل 17, 2025عبد القادر مهدي أبو سنيج – باحث شرعي
الحمد لله سبحانه أحمده على إحسانه، وإنا لله وإنا إليه راجعون وإنا على فراقك أبا إسحاق لمحزنون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، اللهم تقبل عبدك الحويني في عبادك الشهداء وارفع درجته في عليين آمين. وبعد:
فإنه ليس بالهيّن أن نكتب عن علم انتشر صيته وبالحق علا صوته في زحام من المحاضرات والمؤلفات والندوات؛ فإن العلامة المحدث الحويني ومعاصرته ليست بحجاب وحسبي فيما أكتبه أن الله تعالى نضر وجه هذا الرجل بنص حديث النبي : عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : “نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ”.
وقبل الحديث عن محدث الديار المصرية الذاب عن السنة المحمدية، حامل هم أمته الصادع بالحق حين سكت الناس، والثابت على دينه ويقينه حين تزحزح الناس.. فإني أقول بأن الشيخ رحمه الله كان علامة فارقة في علوم الحديث في عصرنا، مدراسةً وممارسةً، بل كان مثالاً حياً للوعي بالعلم والسعي به. والشيخ رجل عامة ورجل أمة يحب الخير للناس، ويكرر في دروسه أنه لا يعول على عمله وإنما يعول على محبة الله ورسوله.
ففي بداية تسعينيات القرن الماضي كنت طالباً في الأزهر الشريف، وقد أكرمني الله بصحبة العلامة الدكتور عبد العظيم المطعني رحمه الله، فهو من بلدي، وكم سمعت عنه ثم لقيته في القاهرة، وكان يخطب الجمعة بمسجد (جمعية أبناء المنصورية محافظة أسوان) ومقرها منطقة غمرة بالقاهرة، وكان يأتينا يومين في الأسبوع يدرس لنا (المستصفى للغزالي) في أصول الفقه وهذا ليس تخصص للشيخ المطعني رحمه الله، ولكنك إن سمعته شعرت أنه لا يحسن إلا أصول الفقه، ويدرس لنا كتاب (بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة) وهو تخصص الشيخ رحمه الله وهو ميدانه الذي أبدع وألف وحاضر وناقش.
كانت دروس الشيخ في وقت الظهيرة، وقد جمعتنا هذه الدروس بشباب كان عندهم جد في الطلب وسعي لا ينقطع، نخص بالذكر منهم الشهيد عماد عفت المفتي الأزهري، تقبّله الله في الشهداء وانتقم الله ممن غدروا به!
كانت هذه المنطقة وهذه الدروس بداية لتعرفي بالشيخ العلامة الحويني رحمه الله؛ لأن مسجد الدكتور المطعني كان قريباً من مسجد التوحيد بغمرة أو مسجد ” فوزي السعيد” أو “مسجد السُنية” كما اشتهر عنه في ربوع مصر.
وقد كانت هذه بداية للتعرف على مدرسة غير المدارس التقليدية المشهورة، مدرسة الصدع بالحق وإقامة العلم والدعوة بحق مدرسة إصلاحية تقوم التعليم والدعوة. وهي مدرسة مرابطة على ثغور الإسلام تقف لكل شبهة بالمرصاد، رأيتهم صادعين بالحق في شبهة الشفاعة التي أثارها الدكتور مصطفى محمود، وقبلها فتنة (وليمة لأعشاب البحر) وطامة الهجوم على رسول والتي أثارتها جريدة “اليوم السابع” في زمن حسني مبارك وتحديداً (٢٧ يوليو ٢٠١٠م)، وقد كادت الصحيفة أن تنشر موبقات من التطاول على النبي الكريم لولا وقفة الشيخ الحويني وما أثاره هذا الدفاع عنه من حمية في مسلمي مصر، فجاءت الأوامر لليوم السابع بالتوقف! والعجيب أن الساعي بالفتنة ساعتها والمتطاول على رسول الله ﷺ هو هو المتطاول على الصحابة وخال المؤمنين سيدنا معاوية في المسلسل المشبوه الرائج في أيامنا، وهؤلاء غرهم إمهال الله تعالى لهم.
والتفاصيل كثيرة ووقفات الشيخ ومواقفه كثيرة ومتعددة، كلها تشهد له بقوته في الحق، وغيرته على النبي الكريم وسيرته وسنته وشريعته، وكانت غيرته على المسلمين مثالاً يُحتذَى في ممارسة الولاء والبراء والنصح لكل مسلم.
جندي في محاربة الطاغوتية والكهنوتية
هذه المدرسة كان بعضها يدل على بعض، وبعضها يأخذ من بعض؛ فعند الشيخ المطعني والشيخ الحويني والشيخ فوزي السعيد سمعت أسماء علماء كانت أبرز صفاتهم محاربة الطاغوتية والكهنوتية الدينية، فكم نقلوا عن آل شاكر ونخص منهم العلامة محمود شاكر أبا فهر، وسمعنا من أفواههم (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) محمد محمد حسين، وهي المدرسة التي ما سكتت ساعة من نهار عن فضح مخططات التغريب والتنصير، ولا قصرت في مواجهة العلمانية والليبرالية، وكان حديثها عن الأقصى وتهويده وتدنيس اليهود له، وفلسطين والمؤامرات حولها حديث متواتر لا ينقطع.
كان من أقطاب هذه المدرسة شيخنا العلامة محمد مختار المهدي رئيس الجمعية الشرعية، والشيخ أحمد علي سحلول، وشيخنا العلامة الأصولي أسامة عبد العظيم والعلامة عبد المهدي عبد القادر، والشيخ العلامة المفسر عبد البديع أبو هاشم، والشيخ المفسر عبد الحي الفرماوي، مع حضور لشيخنا محمد المسير والمفكر طارق البشري، والموسوعي محمد عمارة.. رحمة الله على الجميع. وكيانات مثل جبهة علماء الأزهر، والجمعية الشرعية، وجمعية أنصار السنة المحمدية.
هذه المدرسة كانت تجسد الإيمان في “جنسية” مميزة و”هوية” خاصة، وفي حضارة إسلامية لها ثقافاتها ونظمها الاجتماعية، وتطبيقاتها في ميادين السلوك والقيم والعادات، والتقاليد الممتدة عبر الزمان والمكان.
وهذه المدرسة هي التي عناها العلامة النووي رحمه الله حيث قال: “إنهم أئمتنا وأسلافنا، كالوالدين لنا، وأجدى علينا في مصالح آخرتنا التي هي دار قرارنا وأنصح لنا فيما هو أعود علينا، فيقبح بنا أن نجهلهم وأن نهمل معرفتهم. ومنها أن يكون العمل والترجيح بقول أعلمهم وأورعهم إذا تعارضت أقوالهم”.
ومن المقرر أن قصص العلماء والحكايات عنهم باب من الفقه عظيم، وهي من أفضل طرق التربية الصحيحة الناجحة، فهي تعليم يصاحبه تطبيق؛ فكم من خلق سمع به الناس وما فقهوا معناه إلا لما رأوا من يطبقه ويعمل به، وكم من حكم من أحكام الشريعة بعيد عن تصورات الناس لكن لما وجدوا من يفعله فعلوه عن قناعة.. ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: «الْحِكَايَاتُ عَنِ الْعُلَمَاءِ وَمِجَالَسَتُهُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهَا آدَابُ الْقَوْمِ وَأَخْلَاقُهُمْ». ومِثْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: «كُنَّا نَأْتِي مَسْرُوقًا فَنَتَعَلَّمُ مِنْ هَدْيِهِ وَدَلِّهِ». وقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، «مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ مَمْشَاهُ وَمُدْخَلُهُ وَمُخْرَجُهُ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ».
ويقول العلامة الإبراهيمي:” فالعالم بمفهومه الديني في الإسلام قائدٌ، ميدانُه النفوس وسلاحه الكتاب والسنة، وتفسيرهما العملي من فعل النبي ﷺ وفعل أصحابه، فحظه من ميراث النبوة أن يزكي ويُعلِّم، وأن يقول الحق بلسانه، ويحققه بجوارحه وأن ينصره إذا خذله الناس، وأن يجاهد في سبيله بكل ما آتاه الله من قوة.
والوسيلة الكبرى في نجاحه في القيادة هي أن يبدأ بنفسه في الأمر والنهي، حتى يكون أول فاعل له، ولا ينهى عن شيء مما نهى الله ورسوله ﷺ عنه حتى يكون أول تارك له، كل ذلك ليأخذ عنه الناس بالقدوة والتأسي أكثر مما يأخذون عنه بوساطة الأقوال المجردة والنصوص اللفظية؛ لأن تلاوة الأقوال والنصوص لا تعدو أن تكون تبليغاً، والتبليغ لا يستلزم الاتباع، ولا يثمر الاهتداء ضربة لازب، ولا يعدو أن يكون تذكيراً للناسي، وتبكيتاً للقاسي، وتنبيهاً للخامل، وتعليماً للجاهل وإيقاظاً للخامل وتحريكاً للجامد، ودلالةً للضال.
وقد كان الصحابة لاستعدادهم القوي لتحمل الإسلام بقوة يحرصون على أخذ مهمات العبادات من فعله ﷺ، ويحرصون على التمثل بأخلاقه والتقليد له في معاملته لله ومعاملته لخلقه، وعلى التأسي به في الأفعال والترك، وفي شؤون الدين والدنيا، لعلمهم أن الفعل هو المقصد والثمرة، وأن الأقوال في معظم أحوالها إنما هي أدوات شرح وقوالب تبليغ، وآلات أمر ونهي، ووسائل ترغيب وترهيب، وأن في قول قائلهم: “أنا أشبهكم صلاة برسول الله ﷺ”. فكانوا يفهمون العبادة بهذا المعنى: أن تعبد الله كما شرع على الوجه الذي شرع؛ فالكيفيات داخلة في معنى التعبد، لذلك لم يُحدث السلف زوائد على العبادات من أذكار وغيرها بدعوى أنها زيادة في الخير، كما عمل الخلف.
وأما معرفتي بالشيخ المحدث الحويني رحمه الله في بداية الأمر كنت أظنه من العلماء السابقين، ثم اشتريت من عند مسجد التوحيد مسجد “فوزي السعيد” مسجد “السُنية” محاضرة في شريطين بعنوان (منزلة العلم وكيفية الحصول عليه) وقد كررت سماعها مرات ومرات، ثم وقع في يدي محاضرة صوتية له عن “صلح الحديبية” وقد أفاد وأجاد رحمه الله.
وعرفت أن له خُطباً في محافظته (كفر الشيخ) وله خطب في القاهرة والإسكندرية، وكان يغلب على ظني أنه كهل ابيضت لحيته يتعكز على عصاه. وإذا به شاب كله نشاط وجد وجهد واجتهاد.
وحين سمعته زاد إعجابي به من أول وهلة بسبب لغته السليمة أولاً، وعدم لحنه في الكلام، ثم عمق ما يقوله وتصحيحه للأحاديث وتضعيفه وهذا لم يكن معهوداً. وعزمت على أن أراه فعلمت أنه يخطب الجمعة في مسجد العزيز بالله وأنه من كفر الشيخ لكنه يأتي القاهرة مرة في الشهر يخطب في مسجد العزيز، وهذا المسجد كان بمثابة جامعة إسلامية ضمت أشهر الدعاة في هذا الوقت: محمد حسان وأبي إسحاق الحويني والشيخ نشأت أحمد، إلى جانب معهد لتخريج الدعاة الدراسة فيه منتظمة، يدرسون فيه العلوم الشرعية التي ندرسها في الأزهر.
وبعد البحث والسؤال عرفت مواعيد الشيخ أبي إسحاق وأنه يأتي تقريباً أول جمعة في الشهر، وذهبت في الموعد ولا أذكر عنوان الخطبة، ومن أسف في تلك المرة لم أتمكن من رؤيته إلا شذراً لشدة الزحام وكثرة الناس وجال بخاطري أن مثله ممن أفنى عمره في طلب العلم لا بد أن يكون شيخاً قضى حياته في التعلم، استمرت علاقتي بالشيخ من خلال سماع محاضراته، ثم بعد ظهور الكمبيوتر كانت خطبه ومحاضراته متوافرة في كل مكان.
وكان من أبرز صفاته رحمه الله أنه هيّن ليّن سهل ودود، تسمعه فتحبه وتسأله فيجيبك بتواضع، ثم بدأت التعرف عليه فوجدته رحمه الله قد تتلمذ على الشيخ محمد نجيب المطيعي الأزهري الشافعي رحمه الله (المتوفى سنة 1406هـ) وقصة هروبه معروفة في عهد المتجبر جمال عبد الناصر.
يقول شيخي محمد بن بيوض التميمي: شيخنا (محمد نجيب المطيعي) الذي جدد الله به علوم الحديث والسنة في مصر، بعد وفاة الشيخ الإمام (أحمد شاكر) كان يشرح (صحيح البخاري) في بيت الطلبة بالعباسية في سبعينيات القرن الفائت؛ حيث كنا نحضر عنده مع الشيخ الحويني وكان الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف يحضر عنده في المعادي.
ثم انظر إلى صحبته للشيخ محمد صفوت نور الدين رحمه الله، والشيخ الشوادفي والشيخ فوزي السعيد والشيخ محمد بن عبد المقصود، وغيرهم كثير في مصر وخارجها ومن الأزهر ومن غيره. وهذا غيض من فيض.
وقد أدخل الشيخ جميع أبنائه للدراسة في الأزهر الشريف.
وقد نعاه شيخ الأزهر! وأَمَّ الجنازة عليه شيخ المقارئ المصرية ورئيس لجنة تصحيح المصحف الأستاذ الدكتور المعصراوي، وقد أخذ الحويني عنه بعض القراءات، وكان الحويني رحمه الله يصف المعصراوي بأنه شيخ الوحيين، لاشتغاله بالقراءات ولأنه كان يعمل أستاذاً الحديث الشريف بجامعة الأزهر!
أخلاق الكبار
إن ما عند أبي أسحاق الحويني أكبر من العلم، كان زاهداً عفّ اللسان يستر على المخالف؛ يبقي على الناس دينهم فلا يكفرهم ولا يفسقهم، في غالب أمره وأعم أحواله ممسك عن الخلاف يؤثر الاجتماع.
كما قال عبد الرحمن بن مهدي: “إن كنّا لنأتي الرّجل ما نريد علمه وحديثه، إنّما نأتي نتعلّم من هديه وسمته ودلّه”.
فقد كان رحمه الله عبداً لله على الحقيقة، يتلذذ بعبوديته لله تعالى، مع التسليم التام المقرون بالرضا لكل ابتلاء قدّره الله عليه.
جاءه أحد طلابه يزوره في المستشفى وقد أجهده المرض فقال مواسياً له: اصبر يا شيخنا، ربنا يؤجرك ان شاء الله. فقال له: “لو صح أن أقول إنني مضيت لله على بياض أن يفعل بي ما شاء فقد فعلت! فأنا عبد له وهو سيدي، يفعل بي ما يشاء، ويأخذ مني ما يريد”. إنه رجل عرف الله في الرخاء وهرول إليه في الشدة.
وكان رحمه الله شديد الحب لله ورسوله وصحابته شديد الاتباع لهم، قلبه كله غيرة عليهم وعلى الإسلام في شريعته وأحكامه، وعلى المسلمين يحمل همهم ويتألم لألمهم. شديد الزهد، لا تشغله الدنيا ولا يهتم بمظاهرها إطلاقاً.
ومع شدة مرضه وبتر ساقه وكثرة جروحه لا يتخلف عن صلاة الجماعة، وكان مدمناً للعلم والبحث ونفع الناس وتعليمهم، دائم الذكر والفكر، سليم الصدر لإخوانه لا يغضب لنفسه قط، بل يغضب لله فقط. ذكر له شخصاً يقع فيه وقيل له: يا سيدنا لمَ لمْ ترد عليه؟ فقال: “لست أول من أحسن ولا آخر من أسيء إليه، ثم إن أخانا هذا فريدٌ في منطقته، والله ينفع به الناس فإن تكلمت في خطئه فمن يسد مكانه ويقوم مقامه؟!”
يقول أحد تلامذته:” كان رحمه الله مهتماً بالشأن العالمي والسياسة والاقتصاد، وذكياً مستشرفاً للأحداث، ومن جالسه يعرف هذا.
وكان رجلاً ثورياً قوياً لا يهاب! بل كان يحضر دروسه بعض أمناء الشرطة ويرمي عليهم الكلام الشديد..
قلت: وهذا الأمر تكرر مع شيخنا الدكتور عبد العظيم المطعني رحمه الله حيث كان يحضر دروسه بصفة مستمرة بعض “المخبرين”، حتى أنه تكرر وجود أحدهم فصرخ في وجهه: “احنا عندنا وطنية أكثر منكم.. أنتم تريدون وطناً لتحلبوه، ونحن نحميه من الفاسدين ومن الأعداء”. وكما قيل: الوطنية ملاذ الأوغاد.
وكذلك كان صاحب فكاهة وفطنة وخفة دم وسرعة بديهة وتعليقات نزيهة. ولما رآني ذات مرة غريب الشكل لا أتجاسر على سؤاله؛ قال من فين الشيخ؟
قلتُ: من أسوان.
فقال: المحافظة الطيبة التي لم يسمحوا لنا بالسفر لها لكثرة الرجال فيها.
قلتُ: نتشرف بكم شيخنا. انتهى.
قلت: وقد كان كل العلماء والخطباء المشهورين ممنوعين من إلقاء الدروس والخطب في صعيد مصر.
وقد كان رحمه الله صاحب مواقف متزنة من الثورات والخروج على الظلمة، فهو لا يوافق الظالم البتة، ويدعو لترشيد الحراك، وإزاحة كل ما يمت إلى الظالم من الفاسدين.
وأن يأمن الناس على دينهم وأعراضهم وأموالهم.
وأما موقفه من المرابطين في غزة فإنه يُكتَب بأحرف من نور، وقد طارت كلمته التي صدع بها في وجه من اتهم المرابطين في دينهم، وكانت كلمته حاسمة في أنهم على الحق والسنة مع وجوب نصرتهم.
ثم تجده في مصنفاته يتحرى ويبحث ليخرج الجيد النافع وكان يردد: “لساني للعوام وقلمي للخواص”.
عاش رحمه الله سنوات الغربة القهرية أدى فيها -وقبلها- حق العلم، ومات مرفوع الرأس فلم يخضع لظالم، ولم يصفق لباطل، ولم يسكت على منكر ولم يترك شبهة إلا وقف في وجهها وفندها وأبان خللها وعوارها.
وكان يرجع عن الخطأ ويعترف به ولا يهاب أن ينتقص بل كان رحمه الله لمحبته للحق يصدع به ويتراجع عما وقع فيه.
يقول الشيخ مشهور آل سلمان في أحد المقاطع الصوتية: “أُشهد الله أن أبا إسحاق من علماء الحديث، ومن أهل الحديث الراسخين فيه. ولم أرَ شيخنا الألباني فَرِحًا بأحد كما رأيته فَرِحًا بقدوم الشيخ أبي إسحاق الحويني. ومجالسه مع الشيخ -أي الألباني- محفوظة تُنَبِّئُ عن علم غزير، بل عن تدقيق قل أن يَصِلَ إليه أحد”.
فهو من العلماء الربانيين الذين أخذوا العلم من مصادره الصحيحة من غير تشددٍ ولا مغالاة، مستمدين ذلك من وسطية الإسلام، سخر حياته لخدمة السنة، مدافعًا عنها، وداحضًا للشبهات، كان رحمه الله يتمتع بقبول عجيب عند الناس، وليس ذلك إلا دليل محبة الله له.
والشيخ رحمه الله وطيب ثراه رجل عامة متأدب بأخلاق الإسلام يوافق قوله عمله، يحب الله ورسوله ويوالي المؤمنين، يمسك عن الخلاف والشقاق، يستر على المخالفين ويعفو عمن ظلمه أو تطاول عليه، خاصة إن طلب ذلك وعرف ما هنالك.
دائم التحذير من التصنيف أو التطاول على العلماء بحجة الجرح والتعديل وهو العالم بأسبابهما وموجباتهما.
وإن من أشد الأمور تأثيراً على النفس معاصرة العلماء وعدم لقياهم أو الزهد في عدم الأخذ عنهم ثم يقبضهم الله تعالى، ويصبح الحال كما قال أيوب السّختياني رحمه الله: “إني أُخبَرُ بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي”. فهذا في رجل عالم مجرد موته كفقد عضو من الجسد، فكيف يكون الحال عند عدم رؤيته والأخذ عنه والتعلم منه وهو معاصر؟
وقد حالت الظروف بيني وبين لقياه، وكانت حجب كثيفة جعلتني أراه على الشاشات، ثم تجدد الأمل في لقياه بأن أعرض عليه مشروع موسوعي عن الأوقاف وقد شجعني على لقياه أحد الفضلاء، وتأجل اللقاء بأسباب كانت قاضية بألا ألقاه ولساني حالي:
إن كان قد عز في الدنيا اللقاءُ ففي … مواقف الحشر نلقاكم، ويكفينَا
فالرجل قضى نحبه مهاجراً في سبيل الله تعالى بعد حياة حافلة بالعمل لخدمة دين الله تعالى وعلوم الشريعة والدعوة إلى الله تعالى وخدمة سنة رسول الله ﷺ.
مات الحويني يوم الاثنين ودُفن ليلة الأربعاء كما اتفق لحبيب الخلق . وفاته في 17 رمضان يوم مناسبة غزوة بدر، وهو -بإذن الله- شهيد مبطون -بعللٍ كثيرة- مبتلى في جسده وولده، ومات غريباً دُفن في غير وطنه، وقد سبقه الدكتور محمد الجوادي والشيخ يوسف القرضاوي، رحمة الله على الجميع.
رحم الله المحدث النبيل وطيب ثراه وتقبله في الشهداء ورحم الله علماءنا.
إلهي.. إن كثيراً من علماء الأمة بَيَّنوا كتابَك للناس ولم يكتموه، ولم يشتَرُوا به ثَمَنًا قليلًا من مَتاع هذه الحياةِ الدنيا، وهم قد أدَّوْا ما لزمهم من حقِّك، وذادُوا عن سنة نبِّيك؛ وورَّثوا الخلَفَ من بعدهم علم ما عَلموا، وحَمَّلوهم أمانةَ ما حَمَلوا، وخلعُوا لك الأندادَ، وكفَروا بالطاغوتِ، ونَضَحوا عن دينك، وذبُّوا عن شريعتك، وأفضَوْا إليك ربَّنا وهمْ بميثاقك آخذون، وعلى عهدك محافظون، يرجون رَحْمتَك، ويخافُون عذابَك. فاعفُ اللهمّ عنا وعنهم، واغفر لنَا ولهم، وارحمنا وارحمهم، أنت مولانَا فانصرنَا على القومِ الكافرين.