خديجة الحب الأول
فبراير 12, 2024كيف أسهمت السيدة خديجة في إنجاح الدعوة؟
فبراير 12, 2024
النصرة: من النصر والعون والمساعدة، مِن نصر فلاناً أي ساعده وأيده وقواه.
تقول: نصرته أي وقفت بجانبه وساعدته وأيدته.
ومعنى نصرة النبي ﷺ: حبه واتباعه واقتفاء أثره في أقواله وأفعاله وتقريراته وتقديمه على النفس والولد.
وكان هذا المعنى – وهو حب رسول الله واتباعه واقتفاء أثره وتقديمه على النفس والولد – حاضرًا ومتأصلًا ومتجذرًا في نفوس الصحابة رضوان الله تعالى عليهم منذ أشرقت شمس الإسلام على الوجود. ولو اقتربنا قليلاً من بيوت النبي ﷺ، ونظرنا إلى نصرة النبي بين زوجاته ﷺ لرأينا عجبًا.
أم المؤمنين الأولى
أبدأ بأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأرضاها: هذه المرأة التقية النقية أم المؤمنين وسيدة نساء العالمين، التي نزل أمين الوحي ليُقرئها السلام من رب العالمين، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
هذه المرأة تهب حياتها ومالها لرسول الله ﷺ ولدعوته، “تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: كان النبي ﷺ إذا ذكر خديجة أثنى عليها، فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا، فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق، قد أبدلك الله عز وجل بها خيرًا منها، قال: ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء”(1).
ومنذ أن كان رسول الله يذهب إلى غار حراء ليتعبد فيه، وقفت بجواره تؤازره وتمده وتزوده بالطعام والشراب، ليعود إلى الغار ويكمل أنسه بربه، حتى إذا حانت ساعة الاتصال بين السماء والأرض، ونزل جبريل بالوحي على رسول الله ﷺ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العَلَق: 1-5] فرجع رسول الله ﷺ يرجُف فؤاده، فلما دخل على السيدة خديجة قال: “زملوني زملوني”، حتى هدأ وذهب عنه الخوف وقص عليها الخبر ثم قال لها: “لقد خشيت على نفسي”.
فماذا كان رد فعل السيدة خديجة رضي الله عنها؟
أولًا: طمأنته وهدأت من روعه، ثم قالت له كما في البخاري: “كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَل، وتُكسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”(2).
ثانيًا: آمنت به وصدقت برسالته، وهي أول من آمن على وجه الأرض رضي الله عنها وأرضاها.
ثالثًا: لم تكتفِ السيدة خديجة رضي الله عنها بذلك، بل ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان امرأً تنصّر في الجاهلية، وكان هذا الحوار:
“فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله ﷺ: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا”(3).
رابعًا: لقد ذهبت السيدة خديجة في نصرتها للنبي ﷺ إلى أبعد من ذلك، فأرادت أن تطمئن على رسول الله أكثر؛ “فقالت: يا ابن عم، تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ فقال: نعم. فقالت: إذا جاءك فأخبرني. فبينا رسول الله ﷺ عندها إذ جاء جبريل، فرآه رسول الله ﷺ فقال: يا خديجة هذا جبريل. فقالت: أتراه الآن؟ قال: نعم. قالت: فاجلس إلى شقي الأيمن. فتحول فجلس، فقالت: أتراه الآن؟ قال: نعم. قالت: فتحول فاجلس في حجري. فتحول فجلس في حجرها، فقالت: هل تراه الآن؟ قال: نعم فتحسرت رأسها، فشالت خمارها، ورسول الله ﷺ جالس في حجرها، فقالت: هل تراه الآن؟ قال: لا قالت: ما هذا بشيطان، إن هذا لملك، يا ابن عم، فاثبت وأبشر. ثم آمنتْ به وشهدت أن ما جاء به هو الحق”(4).
فراش الرسول
أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب والتي هاجرت مع زوجها عبيدالله بن جحش إلى الحبشة، فشرب الخمر وتنصر، ففارقته، فأرسل إليها رسول الله، وعقد عليها، ولما قدم أبو سفيان المدينة ليكلم رسول الله في تمديد صلح الحديبية والحفاظ على المعاهدة دخل على بنته رملة أم حبيبة زوج النبي، “فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ﷺ طوتْه، فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني؟ فقالت: هو فراش رسول الله ﷺ وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه. فقال: يا بنية والله لقد أصابك بعدي شر!”(5).
تصرف يتجاوز حدود الأبوة والعصبية والأعراف السائدة في ذلك الوقت، ليرسو في ظلال العقيدة تحت شجرة الإيمان، يظن أبو سفيان أنها ربما طوت الفراش لأنه لا يليق بأبيها فيسألها: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش. ثم يستدرك لفطنته وفراسته المعهودة فيه: أو رغبت به عني، فتعلنها صريحة مدوية ويكتبها التاريخ بمداد من نور: هو فراش رسول الله ﷺ وأنت مشرك نجس. رابطة العقيدة فوق كل رابطة ولو كانت رابطة الأبوة، وحب رسول الله ونصرته والانتصار له مقدم على النفس والأهل والولد.
رأي وشورى للتاريخ
أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: تقف وقفة لله ورسوله، وتقول كلمة يكتبها لها التاريخ، وتكون سبباً في نجاة الأمة من غضب الله، فقد تم الصلح، وأُبرم الاتفاق بين رسول الله وبين قريش، “فقال رسول الله ﷺ: “يا أيها الناس، انحروا واحلقوا”.
قال: فما قام أحد، قال: ثم عاد بمثلها، فما قام رجل، حتى عاد بمثلها، فما قام رجل.
وهنا يدخل رسول الله على زوجته أم سلمة فقال: يا أم سلمة، ما شأن الناس؟ قالت: يا رسول الله، قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنسانًا، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك. فخرج رسول الله ﷺ لا يكلم أحدًا حتى أتى هديه فنحره، ثم جلس، فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون”(6).
العداوة الأبدية
صفية، بنت حيي بن أخطب الذي كان رأس اليهود وعدو الإسلام والمسلمين، رغم أنها كانت من أحب أولاد حيي بن أخطب إليه وإلى عمها ياسر، إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تسجل شهادة لله وللتاريخ عن حقيقة اليهود وما يضمرونه تجاه الإسلام ورسول الإسلام، وأن العداوة متأصلة فيهم، والغدر لن يفارقهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
“عن صفية بنت حيي قالت: لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحب إليهما مني، لم ألقهما في ولد لهما قط أهش إليهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله ﷺ قباء، قرية بني عمرو بن عوف، غدا إليه أبي وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين، فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إليّ واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت”(7).
أفي هذا أَستأمِر؟
وأختم هذه الإطلالة بالصدّيقة بنت الصديق، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها. لما نزلت آية التخيير تقول عائشة: “فبدأ بي أول امرأة، فقال: إني ذاكر لك أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك. قالت: قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك ثم قال إن الله قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: 28] قلت: أفي هذا أستأمرُ أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خيّر نساءه، فقلن مثل ما قالت عائشة”(8).
هذا الرد الحاسم من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يظهر المعنى الحقيقي لحب الله ورسوله، والتطبيق العملي لنصرة النبي ﷺ من خلال اختياره على ما سواه، والالتزام بأمره، وتطبيق سُنته، وتقديمه على النفس والمال والولد، فاختيار رسول الله أمر محسوم، وكذلك فعلن جميعهنّ، رضي الله عنهمّ، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]
(1) رواه الإمام أحمد في المسند وصححه الأرنؤوط.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه البخاري.
(4) البداية والنهاية لابن كثير.
(5) السيرة النبوية لابن كثير.
(6) رواه الإمام أحمد وحسنه الأرناؤوط.
(7) السيرة النبوية لابن كثير.
(8) رواه البخاري.