كيف عالج الرسول ﷺ البيئة التي ظهر فيها؟
فبراير 5, 2024من الهند إلى فرنسا .. انتفاضةُ أمة وذكرَى بطل
فبراير 5, 2024
جاء بدينٍ معقولٍ موافقٍ للفطرة، عامٌ دائمٌ، وشرعٍ عادلٍ مساوٍ بين الناس، وجمعَ شَمْل أمةٍ متفرقةٍ متعاديةٍ لم يعرف تاريخهُا لها وحدةً، وكوَّن أمةً متحدةً مدنيةً مؤلفةً من جميع الشعوب والقبائل، وأَسَّس دولةً عزيزةً قويةً عادلةً، وأصلحَ جميعَ ما كان قد أفسده البشر من الأديان والآداب والحضارات، بالظلم والعصبيات والخرافات.
(أ) قال: إن الله تعالى بعثه في قومه الأميّين الجاهلين المشركين المفسدين في الأرض؛ ليزكِّيهم ويُرَبِّيَهُمْ في الكِبَر، ويعلمهم الكتاب والحكمة، فيُبَلِّغُوا دعوته للأمم فيكونوا من الأئمة المصلحين، ومن خلفاء الأرض الوارثين، وكذلك كان:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55].
(ب) قال: إن جميع شعوب البشر على اختلاف مللها ونحلها ضالون مضلون، وأن أتباع النبيين منهم قد فسقوا عن هدايتهم، أشركوا بعبادة ربهم، وابتدعوا في الدين ما لم يَشْرَعُه الله لهم، وأنهم أضاعوا بعض كتبهم وحرَّفوا بعضها، وأنه جاء من عند الله تعالى لهدايتهم كلِّهم أجمعين، وأن دينه سيظهر على أديانهم بالحجة والبرهانِ، والعقلِ والوجدانِ، والسيادةِ والسلطانِ، وكذلك كان:
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33].
(ج) جاء بكتابٍ ادَّعى أنه كلام الله تعالى أوحاه إليه، وأنه ليس له منه إلا تبليغه كما تَلَقَّاه، وقد ظهر أن هذا الكتاب لم يكن بينه وبين كلام محمد قبله ولا بعده شبه في نظمه، ولا أسلوبه ولا معانيه، ولا بلاغته ولا تأثيره، ولا أخباره وعقائده، ولا تشريعه وأحكامه، ولا معلوماته الكونية والاجتماعية، ولا حِكَمِه وآدابه.
(د) قد عُلِم من هذا الكتاب ما يضادّ كونه من علمِ محمدٍ، وهو أنه هو الذي يربِّيْهِ ويُعَلِّمُه كما قال:
﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، ويُصَحِّحُ له خطأَ اجتهادِه في التبليغ أو التنفيذ، تارة باللين واللطف، كقوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 43]
وتارةً بالموعظة والشدة كقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ٧٤ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ٧٥﴾ [الإسراء].
(هـ) عُلِمَ من هذا القرآن أيضًا أنه كان حين يأتيه الوحي، يخاف أن يتفلت منه شيءٌ فلا يحفظه، فيَعْجَل بتلاوته ليحفظه، فَخُوطِب حين عرض له هذا في أثناء نزول سورة القيامة بقوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ١٦ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ١٧ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ١٩﴾ [القيامة: 16-19].
فكفل له ربه جَمْعَه له بالحفظ، وأن يقرأه كما أُلْقِيَ إليه، لا يفوته منه شيءٌ،
كما ضمن له عدمَ نسيانِ شيءٍ منه بقوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ٦ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ٧﴾ [الأعلى: 6-7]
أي أنَّا قد عصمناك من نسيانِ شيءٍ مما نُقْرِئك إياه بتلقين المَلَكِ، لكن إن شاء الله أن تَنسَى شيئًا، فإنك إنما تنساه لأنه تعالى هو الذي شاء ذلك لحكمةٍ له فيه، لا لضعفِك عن الحفظ، وعروضِ النسيانِ الذي تخشاه، وقد عصمك الله منه، وهذا الاستثناء المنقطع، لا يدل على أنه تعالى شاء أن ينسى شيئًا منه، بل هو كقوله تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه:
﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ﴾ [الأنعام: 80]. وقيل: إن الاستثناء لتوكيدِ النفي، وقيل: إنه لِمَا أرادَ نَسْخَه.
(و) إنه صلى الله عليه وسلم كان يُبَلِّغُ ما يُلْقَى إليه من القرآن بنصِّهِ وعبارته، كما أُمرَ فيه، لا بمعناه كوحيِ الإلهامِ، وما يُلقِيهِ المَلَكُ في رَوْعِهِ، فيجمع بين الأمر بالقول ومَقُولِه المراد منه مثل: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1].
ولكنه عندما كان صلى الله عليه وسلم يريد تبليغ المعنى، في أثناء كلامه الذي لم يقصد به تلاوة القرآن، يَذْكرُ مَقُولَ القولِ، كالذي تراه في كتابه إلى هِرَقْل قيصرِ الروم وغيره، وهو (ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللَّه وَلا نشرك به شيئاً) إلخ، ونصّ الآية: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا ﴾ [آل عمران: 64] إلخ.
(ز) ليتأمل القارئ قولهَ تعالى:
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ١٦﴾ [يونس: 15-16].
(ح) قد اشتمل هذا الكتابُ على تَحدِّي العربِ وغيرهم به، وصرَّح فيه بأن جميع الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله في جملته، وبسورةٍ من مِثْلِه، واستدل النبي بذلك على كونِه من عند الله تعالى لا من عنده، فظهر عجزُ العربِ، ثم عجز غيرهم عن ذلك، كما بيَنَّاهُ في الكلام على إعجازه بِلُغَتِه وأسلوبِه ونَظمه وإِعجازه بتأثيره، وما أحدثه من الثورة العربية، والانقلاب العالمي، ولم يكن شيء من هذا في استطاعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذاتية، ولا من استعداده الذي تدلُّ عليه سيرتُه في شبابِه.
(ط) إنه قد نقل عنه صلى الله عليه وسلم بأصّحِّ الرواياتِ التي تواتر خبر بعضها أنه كان يُبْطِئُ عليه الوحيُ أحيانًاً، فَيَضِيقُ صدره، ويَشُقُّ عليه، حتى قال المشركون مرة: إن ربه (وقالت امرأة منهم: إن شيطانه) ودَّعّهُ: أي تَرَكهُ، وقَلَاهُ: أي أبْغَضَهُ، فأنزل الله تعالى عليه: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 3].
(ي) الأحاديث المرفوعة في نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، ورعبِه منه في أولِ الأمرِ، وأنَّه كانت تتغيرُ حاله، حتى يَتَفَصَّدُ عرقًا في اليوم الشديدِ البردِ، وأنَّ وزنَه كان يزيد في تلك الحال، وقد بيَّنا أن ذلك من تأثير غلبة الروحانية عليه، باتصاله بجبريل الروح الأمين. وكان أصحابه يعرفون حين ينزل عليه الوحي، وهو معهم. قال عبادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحيُ كرب لذلك وتَربَّدَ وجْهُهُ. رواه مسلم.
فأصول الدعوة المحمدية ومقاصدها العامة:
(1) إصلاح ما أفسده أهل الكتاب المعروف تاريخهم في الجملة، ومن سبقهم من أتباع الأنبياء الأقدمين بالأولى، من أركان الإصلاح الديني الإلهي الثلاثة، وهي:
الإيمانُ بالله، والإيمانُ بالبعث والجزاء، والعلمُ الصالح الذي تتزكى به الأنفس البشرية، فأنَّى لرجلٍ أمي أن يَعْلَمَ هذه الأصول، وما أفسد أتباع الأنبياء منها، ويَستَقِلَّ عقله بما أشرنا إليه من إصلاحهِ المعقولِ الموافقِ للفطرة البشرية؟ بل كان يعجز عن ذلك جميع المتكلمين والحكماءِ الراسخين من تلك الأمم.
(2) بيان ما كان يجهله البشر من حقيقة النبوة والرسالة، ووظائف الرسل عليهم الصلاة والسلام، وفيه بحث مستفيض في حقيقة الآيات الكونية التي أيدهم الله بها، وما يشبهها من خارق العادات، وضلال الماديّين والخرافيّين فيها.
(3) بيان أن الإسلام دين الفطرة السليمة، والعقل والفكر، والعلم والحكمة، والبرهان والحجة، والضميرِ والوجدانِ، والحرية والاستقلال، والشواهد على هذه الأصول لترقية نوع الإنسانِ، وبلوغِهِ بها سنَّ الرشدِ من آيات القرآن، ولا تزال فلسفةُ جميعِ البشرِ القديمة والحديثة قاصرةً عن تشريعٍ يحتوي هذه الأصول كلِّها، وما جاء في القرآن من فروعها، أو شروط التحقق بها.
(4) الإصلاحُ الاجتماعيّ الإنسانيّ والسياسيِ، وتَحقيقُه بالوحدات الثماني:
وحدة الأمة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع بالمساواة في العدل، وحدة الأخوة والمساواة في التعبد، وحدة الجنسية السياسية الدولية، وحدة القضاء، وحدة اللغة، ولم يأت بهذه الوحدات البشرية في ذلك كله، ولا في أكثره دينٌ ولا تشريعٌ إلا دين القرآن، وهَدْيِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
(5) المزايا العشر للتكاليف الشخصية في الإسلام وهي : الجمعُ فيها بين حقوقِ الروح والجسد، وكونُ الغاية منها سعادة الدنيا والآخرة معًا، وكونُها يسرًا لا حرج فيها ولا عسر ولا إرهاق، وكونُها قصدًا واعتدالاً في كلِ أمرِ، لا غُلوَّ بها ولا إسرافٌ، ولا سيما الزينةُ والطيباتُ، وكونُها معقولةٌ سهلةُ الفهم، واشتمالُها على العزيمةِ والرخصةِ، وكونُها مراعَىً فيها درجاتِ البشرِ في العقل والفهم وعلوِّ الهمَّةِ وضعفهِا، وبناءِ المعاملاتِ فيها على الظواهرِ دون البواطن، وبناءِ العباداتِ فيها على الاتِّباع دون الابتداع، حتى لا يكون فيها تحكم للآراءِ والرياساتِ.
(6) بيان أنَّ حكمَ الإسلامِ السياسي الدولي قائمٌ على أساس سلطة الأمة واجتهادِ أولي الأمرِ على أساس درءِ المفاسدِ ومراعاةِ المصالحِ والشورى، والعدلِ المطلقِ والمساواةِ فيه، وحصرِ الظلم، ومراعاةِ الفضائلِ في الأحكامِ، ولم يوجد في الدنيا دولةٌ ولا حكومةٌ تُساوي الإسلامَ في ذلك، وفي هذا البحث عدةُ أصولٍ وقواعد.
(7) الإصلاحُ الماليُّ من جميعِ النواحي، التعبديةِ، والأدبيةِ، والخلقيةِ، والاجتماعيةِ، والدوليةِ، بما لو اتّبعَتْه الدول والأمم، لما وُجِدَ في الدنيا فَقْرٌ مُدْقِعٌ، ولا غُرْمٌ مُفْجِعٌ، ولا بَلْشَفِيَّةٌ باغيةٌ، ولا رأسماليةٌ طاغيةٌ، ولا طَمَعُ يهوديّ، ولا زُهدُ مسيحيّ، ولا تَقشفُ هنديّ، ولا بَغيُ إفرنجيّ، ولا تعطيلُ مصلحةٍ عامةٍ، ولا إرهاقُ منفعةٍ خاصةٍ، وإذًا لاستغنى البشرُ به عن الاشتراكيةِ المعتدلةِ، لأنه الاشتراكيةُ المثلى.
(8) إصلاحُ، نظامِ الحربِ، ودفعُ مفاسدِها، وقَصْرِها على ما فيه الخيرُ للبشر، وفيه قواعدُ مُؤيَّدةٌ بشواهدِ الآيات البيناتِ المُثْبَتةِ : أنَّ دينَ الإسلام هو وحده دينُ السلام، وأنَّ شرورَ الحروبِ وطغيانِها، وتَأريثِها للعداواتِ بين البشر، لا يمكن درؤُها إلا باتباع قواعده في قَصْرِ الحربِ على الدفاعِ، ومنعِ الاعتداءِ، وإيثارِ السَّلْمِ على القتال، والصلحِ على الخصام، ومراعاةِ الحقِ والعدلِ في المعاهدات، وخُلُوِّهَا من الدَّخَل الذي يُفسدها بِجَعْلْها حجَّةً لغلبِ أمةٍ على أمةٍ، وإرهاقِ دولةٍ لدولةٍ، وقد أوردنا فيه بضعَ قواعدَ، مؤيدةً بالنصوص والشواهد.
(9) إعطاءُ النساءِ جميعَ الحقوقِ الإنسانيةِ، والدينيةِ، والمدنيةِ من زوجيةٍ وماليةٍ وغيرها، وتكريمِهِنَّ واحترامهنَّ، وهو ما لم يوجد في دينٍ، ولا قانونٍ سابقٍ ولا لاحقٍ.
(10) تحريرُ الرقيقِ: ورفعُ الظلمِ والإهانةِ عنه، وتشريعُ الوسائلِ لمنع تجديدهِ، وإيجابُ الإحسانِ إليه، إلى أن يتمّ تحريرُه وإبطالُه.
([1]) محمد رشيد رضا، مجلة المنار، مجلد ٣٣، ذو الحجة ١٣٥١. بتصرف يسير (اختصار ودمج).